قناع مهيار الدمشقي — بقلم : ربا الابراهيم

فن وثقافة …..
بقلم : ربا الابراهيم – كاتبة سورية ….
القناع رمز يتّخذه الشّاعر العربيّ المعاصر ، ليضفي على صوته نبرة موضوعيّة، تَدلّ على رؤية عالم محدّدة، وغالباً ما يتمثّل رمز القناع في شخصيّة من الشخصيات، تنطق القصيدة صوتها، وتُقدّمها تقديماً متميزاً ، يكشف عن عالم هذه الشخصية في مواقفها ،أو هواجسها، أو تأملاتها، أو علاقاتها بغيرها، فتسيطر هذه الشخصية على قصيدة القناع، وتتحدث بضمير المتكلم”1″.
والقناع وسيلة تقنيّة فنيّة منقولةٌ من عالم المسرح إلى عالم الشّعر”2 “، إذ كان يُستخدم في المسرحيّات اليونانيّة والرومانيّة والهنديّة، لغرض الإدهاش أو الإضافة، أو تغيير الجلود أو سيمياء الوجه، أو اللّعب لتغيير الشخصيّة من أجل إخفاء التعابير والمشاعر، أووسيلة للإيهام”3”.
والقناع لغة :هو ما تتخذه المرأة من ثوب أو سواه لتتقنّع به، وتغطي رأسها ومحاسنها”4″، ومنه الاستعارة المستخدمة في المسرح لإخفاء الملامح، وإبداع نمط آخر يخدم الغرض، وهو في الشّعر المعاصر, وسيلة دراميّة للتخفيف من حدّة الغنائيّة ، وهو طريقةٌ جديدة في الشّعر الغنائي لخلق موقف دراميّ، أو رمز فنّي يضفي على صوت الشّاعر نبرة موضوعيّة في شخصيّة من الشخصيّات يستعيرها الشّاعر للتراث أوالواقع ، أي البحث عن الذات في الآخر، أو تحقيق فنيّة الآخر بالذات، فتعيش تجربته، وتتحلّى بأحاسيسه وخبرته الشخصيّة لتجسّد رؤيته ، وتؤدي عبر مرجعيتها ومساحتها في الذاكرة الإنسانيَّة حياة جديدة , وبناءً جديداً مشاركاً زمنياً( الماضي والحاضر والمستقبل ) ،غير منفكّة تماماً عن حقيقتها.
وبذلك تنفتح على أفق معاصر دون أن تخسر موقفها وكينونتها الأصيلة “5”، وتصبح الذّات –
بهذا القناع – موضوعاً أو مادة للتأمّل الّذي تمارسه وظائف الأنا نفسها”6″ ، فليس المهم في القناع هويّته ، بل ما يتيحه للشّاعر من إمكانات، وما يفتحه من آفاق ، ومع ذلك فأغلب أقنعة الشّعر المعاصر أقنعة ( شخصيّات) يستعيرها الشّعراء، ليصوغوا – بها- مواقفهم ، فالقناع ” وسيط ، يتيح للشّاعر أن يتأمّل – من خلاله – ذاتَه في علاقاتها بالعالم “7”.
وللقناع مكانة أُخرى ، إذ إنّه يُبطئُ من إيقاع التدفُّق الفطري لانفعالات الشّاعر، ويُسهم في تحويلها إلى رمز له وجوده المستقل ، ويعود القناع – من ناحية ثانية – فيبطئُ من إيقاع التقاء القارئ بصوت الشَّاعر، فلا يصل الصوت إلى القارئ مباشرة، بل بوسيط متميّز ، يفرض على القارئ تأنياً في الفهم، وتأملاً في العلاقة بين الدلالات المباشرة وغير المباشرة، على نحو يجعل القارئ طرفاً فاعلاً في إنتاج الدلالة الكليّة للقناع، لا مجرّد مستهلك سلبيّ للمعنى ، ولكنّه
( القناع ) ينطوي على مفارقة تحدّد طبيعته ، فهو ينطق صوت الشّاعر ولا ينطقه في الوقت نفسه، فالصوت الذي يسمعه ليس هذا أو ذاك، وإنَّما هوصوت يتركَّب من تفاعل صوتي
( الشَّاعر والشخصيَّة ) معاً ، فالقناع “محصّلة العلاقة بين هذين الطرفين أوالصوتين
( الشَّاعرـ الشخصيَّة ) “8”
وإذا عدنا إلى قناع ( مهيار) ، نجد أنّه إنسان( له وجوده المكانيّ، والزمانيّ ؛أي له وجود تاريخي)، ولكنّه يتحوّل إلى إنسان غير عاديّ، ويكتسب صفاتٍ غيرَ واقعيّة -عند(أدونيس)- وهي صفات (بطل أسطوري) يخلق نوعه بدءاً من نفسه، يقول في مزمورمجموعته الأولى؛
( فارس الكلمات الغريبة )”9 “:
يُقبل أعزلَ كالغابة وكالغيم لايُردُّ ، وأمس حَمَل قارةً ونقل البحر
من مكانه.
يرسم قفا النهار. يصنع من قدميه نهاراً ويستعير حذاء الليل ثم ينتظر
مالايأتي .إنّه فيزياء الأشياء ـ يعرفها ويسمّيها بأسماء لايبوح بها .إنّه
الواقع ونقيضه ، الحياةُ وغيرُها.
وتتكشّف دلالاته من امتزاج عناصره، فلا تنفصل حركة عناصرهذا البطل من حركة عناصر الكون، بل إنّ حركته تتسرّب إلى حركة الكون نفسها فتصبح سبباً لها ، يقول :
إنّه الريح لاترجع القهقرى والماء لايعود إلى منبعه . يخلق نوعه بدءاً
من نفسه ـ لا أسلافَ له وفي خطواته جذوره”10 “.
ويقول في مزمور مجموعته الخامسة ؛ ( الزمان الصغير ) :
” أختبئُ وراء اللغز، أختبئ تحت جُبّة الفصول وأوصوص من فُتوقها ” 11″.
ومن هنا يبدو ( مهيار) منذ اللّحظة الأولى , خارق القدرات، وكليّ الوجود، ومنطوياً على نقائض الكون وصراع أضداده ، ومجسّداً – في حركته – دورة الموت والحياة، والجدب والخصب، ولكنّ دورة ( مهيار )لا تكتمل اكتمالاً نهائياً, بل تظلُّ في صيرورة مستمرة وتخلّق دائم، فالتحوّل والصّيرورة هما الشيء الثّابت في عالم مهيار الَّذي لا يثبت فيه شيء ، والاكتمال النهائي لدورته يعني العدم، ومهيار ليس عدماً؛ بل خلقاً يتجدّدُ( قد يموت لكنه يبعث، وقد يتفتت لكنه يتجمع ، فيظلّ حركةً مناقضةً للسكون) “12”، أي إنّه الإنسان المحرك للأشياء ، وهو وحده القادرعلى تغيير مجرى الحياة ، ويجب أن يعي هذا الإنسان كونه مركز الثقل في الحياة ، فهو قادر بذاته لا بغيره ، أو بقوّة خارجة عن طاقته وإرادته ، فيؤكد القدرة الإنسانيّة، ولكنّ لجوء أدونيس إلى الأسطورة وأبعادها والقدرة الخارقة لشخصياتها يفسره الحلم المنبثق من الأسطورة على أنّه منهجٌ وطريق ضروري للسمو بالإنسان إلى قمم الفكر ، وتلك النشوة الروحية الباطنية التي تحملها، وتُحَرّر الفكر من القيود الثقيلة ، وتسمح للإنسان بالتحليق إلى أعلى مراتب المعرفة النقيّة ، وهي أقرب نقطة إلى الحقيقة التي يمكن أن يصلها الإنسان باللغة”13″ ، يقول البروفيسور
( جون ثيودوراكيس ) في التعليق على دورالأسطورة في محاورات
( أفلاطون ) :إنّ ” الأسطورة تقاطع الحوار وتجبر العقل على الاستراحة ، وتضيء شعلة الخيال في الروح “.14”
وبذلك يحقق القناع للمبدع الصيرورة والتحوّل الدّائمين ، فالقصيدة الّتي تستخدم القناع ، لا تقدّم نموذجاً قابلاً للتّكرار،لأنّه يقوم على التحوّل ، فالقناع هو البرهان على أنّ القصيدة المبنيّةَ على رؤية داخليّة تجمعُ الأنا بالآخر، الّذي يسميه في بحثه بـِ ( الأنا المغاير) ، لا يمكن أن تقدّم نموذجاً قابلاً للتكرار، هو هوّية متحولة ، وتحولات الهويّة التي يجسّدها القناع تنهض على ثبات، والثّابت هو جدل الأنا مع الأنا المغاير، أي أنّ الثّابت في هذه الظاهرة هو التحوّل المستمر، والصيرورة، واللاّثبات، فالشّاعر نفسه لا يمكن أن يتقنّع مرتين ، وما دام القناع يُخفي ويُظهر، فهو يُخفي الأنا الرّاهنة ، ويُظهرالأنا المتطلّع إليها في أقصى حدود تحققها المحتمل”15 “.
والإمكانات الّتي يتيحها( القناع) للشّاعرحين يستعمله في شعره ، مكّنت (أدونيس) من إخراج الشّاعرالعبّاسي ( مهيارالدّيلمي ) من سياقه الزمانيّ والمكانيّ ، وإدخاله في سياق رؤيته الشعريّة الخاصّة، وسمحَ لهذه الرؤية بأن تتحرّك في فضاءات الأمكنة ، والأزمنة ، والشخوص التاريخيّة،أو الأسطوريّة ، ومكنَها من خلق فضائها الشّعريّ الخاص، إذ تتداخل هذه الفضاءات كلّها في فعل الكتابة ، ويصبح (مهيار) الهويّة المتحركة المسافرهوذاته (مهيارالدمشقيّ) الهويّة الدمشقيّة الجديدة الرّافضة الثبات، والانغلاق، والأنانيّة المكتفية بذاتها؛ فيُخرِج بذلك الذات من قوقعتها إلى عوالم الصيرورة والانفتاح على الآخر، وهذا ماعبّرت عنه ( خالدة سعيد ) بقولها : “هكذا سيدخل سيزيف وفينيق ونوح وأدونيس وإيكار والخضر وبشار والحلاّج في نسيج مهيار.. مهيار هويّة متحركّة مسافرة، خصيصة ،لأنّها البحث الدائم، لأنها هويّة ، تتكامل , تصير” 16″.
وهكذا يكون ( مهيار الدمشقي ) الشخصيّة الإنسانيّة الجديدة ، أوالمثال الّذي رسمه أدونيس كحصان (دافنشي) وفرس امرئ القيس ،الصورة المثال المرجو تحقيقها في عالم الغد، فهو مهيار (الديلميّ الفارسيّ وهو أورفيوس وهو أوديسيوس وهوالعائد إلى الشرق بصورته الحضاريّة؛ فلاحروب ولادمار) ، فيؤكد العودة الأبديّة إلى الشرق ، ويؤكد بناء الشرق الجديد ، وتتوسع الدلالة فمهيار شخصيّة إنسانيّة ، وزمن جديد ، ونظام عالمي آخر، وكلّ الركائز الثقافيّة( التراثيّة والإنسانيّة) تجسد ماهيّة هذه التشكيلة الاجتماعيّة الموعود بها (فيها حكمة أوديس ، وقدرة أورفيوس على الخروج من الظلام ، وجرأة الخطاب، وتمرّد الحلاّج ، والتطلّع الدائم إلى الإبداع عند النواسي ) ، هو المرحلة القادمة بعد سقطة الغولاغ”17 “، والتصويب بعد خطأ المقصلة ، هو عالم بلا أفيون( مخدر العقول ) ولا حاجة فيه لقبعة الإخفاء ( مضللة الشعوب )، وكل ذات فيه قربان خلاص وإله قتيل ، تحتار في الوجود
( حضور وغياب ) ، وتسير بحركيّة هريقليطس ، وتعي نسبيّة الحقائق ، وتعود عودتها الأبديّة كما عاد نيتشه ، كلّما بلغت ذروة إنجازها الحضاري.
———————————–
قائمة المصادر والمراجع :
1- : يُنظر: عصفور :جابر , رؤى العالم ؛ عن تأسيس الحداثة العربيّة في الشّعر , المركز الثقافي العربي – الدّار البيضاء – المغرب / بيروت – لبنان – 2008م – ص215 .
2- : يٌنظر : زغريت :خالد , الصفير في وادي الشياطين ؛ القناع السياسيّ في شعر محمّد الماغوط , دار التّوحيدي للنّشر – حمص – سوريّة- 2001م – ط 1 -ص29 .
3- : يُنظر : إيوكي : علي نجفي , قصيدة القناع عند الشّاعر المصريّ أمل دنقل , مجلّة دراسات في اللّغة العربيّة وآدابها- ربيع 1392هـ_2013م- ع 13. ص107-108 ويُنظر: معجم مصطلحات الأدب , مجدي وهبة , مكتبة لبنان – بيروت- 1974م – ط 2- ص304 .
4-ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم , لسان العرب – مج13 . مادة : قنع
5- يُنظر: زغريت : خالد , الصفير في وادي الشياطين -ص29-30 .
6-نظر : الرويلي : ميجان ، وَ سعد البازعي ، دليل النّاقد الأدبي ، المركز الثّقافي العربي – الدّار البيضاء – المغرب، طبعة 2000م -ص137.
7-يُنظر : عصفور : جابر ، رؤى العالم – ص216 .
8-يُنظر : المرجع السابق ص216.
9- أدونيس : الأعمال الشعريّة ؛ أغاني مهيار الدّمشقي وقصائد أُخرى , المجموعة الأولى ؛( فارس الكلمات الغريبة )، دار المدى للثقافة والنّشر – دمشق – 1996م- بلا (ط) -ص143 .
10: أدونيس : الأعمال الشعريّة -ص 143.
11:المصدر السابق،المجموعة الخامسة ؛ ( الزمان الصغير ) -ص 269.
12 : يُنظر : عصفور :جابر , رؤى العالم . ص( 224 ــ 228) .
13: يُنظر : فتساكس : فاسيليس جي ، أفلاطون والأوبانيشاد ( لقاء الشرق بالغرب ) ؛ جدل المقدّس في المنظور الفلسفي الهندوسي – اليوناني ، تر : سهى الطريحي ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع – دمشق – سورية -1430هـ – 2010م – بلا (ط) – ص( 30 – 32) .
14 : يُنظر : فتساكس : فاسيليس جي ، أفلاطون والأوبانيشاد ( لقاء الشرق بالغرب )- ص 30 .
15: يُنظر : الجرّاح : نوري , “قصيدة القناع في الشّعر العربي المعاصر” لِعبد الرّحمن بسيسو , الحياة – 26 /5/1420هـ – 6/9/ 1999م – ع( 13330)- ص 22 .
16 :سعيد : خالدة , حركيّة الإبداع , دار العودة – بيروت – 1982م – ط2 – ص12 وما بعد .
17: أرخبيل غولاغ : عنوان راوية للمؤلف الروسي (ألكسندر سولجنيتسين ) ، التي تتحدث عن المعتقلات السوفيتيّة ، تر: نجم سلمان الحجاز ، منشورات دار علاء الدين – دمشق – سورية – 2013م- ط 2.
ربا الابراهيم