تورُّمُ الشَّراكات – بقلم د . سمر محمد ايوب – الاردن…

فن وثقافة …..
بقلم : د . محمد ايوب – الاردن …
عشوائيات في الحب – الثالثة والعشرون
كانت ضيفتي ظهر الأمس ، اخصائية اجتماعية مُتمَيزة . بحكم نظام الخدمة المدنية ، تقاعدَت الشهر الماضي من عملها مستشارة لشؤون الأسرة ، في المحاكم الشرعية في الأردن .
ما أنْ ناوَلَتْها مديرةُ مكتبي فنجالَ قهوتِها ، حتى سارعت تقولُ بقلقٍ : جئتُك يا شيخي كعادتي مستعينة بعلمِك وخبرتِك وأنتَ المُتَخصِّص بشؤون الأسرة في هذا العالم المُتَغيِّر .
قلتُ مُرحبا بابتسامة عريضة مُعتادَةٍ عليها مِني : كلَّ الهَلا تفضلي ، فعلى الرحب والسعة .
فقالت : جئت أسأل عن تجربة الشراكة بين امراة ورجل . أولَيسَت مشروعَ متعةٍ خاصة بينهما ، أو لِنقُل الجانب الرئيسَ مِنها ؟
سارَعتُ بالقولِ دون أنْ تُفارقَني ابتسامتي : مع التسليم بالعلاقة الحميمة بينهما ، إلا أنَّ الارتباط يغيَّرُ ترتيبَها وتراكيبَها . ويجيءُ بأحوالٍ غيرَ مسبوقةٍ في نشأتِها . وهنا يكونُ منَ المناسبِ يا دكتوره ، التذكيرُ بمجموعةٍ من البدهيات المُستبِدَّة ، قبل الاستطراد بالموضوع .
قالتْ مُتلهفة : هاتِ منْ فضلك .
قلتُ وأنا أدقُّ بقلمي أمامي : هي كثيرة ولكن لعل أبرزها :
أن الشراكة على اتساعها ، أحلامٌ واعيةٌ فاعلةٌ ، تقوم على ضروراتٍ واحتياجاتٍ ، ووسائل ومهارات . ولا تقومُ على المزاج الشخصي لهذه أو لذاك ، ممن يستهويهمُ الحب . فتلك وغيرها نزوات وأوهام .
ومنها أنَّ الشراكة كالمطر الطيب ، جالبةٌ للفرحِ وتكديسِ مُتعٍ ، تفوقُ التوقُّعَ في بعض الأحيان . تُبقيها حقائقُ الحياةِ مشروعاً جاذباً لطرفيها ، ولكنْ بحظوظٍ مُتفاوتةٍ . يؤدِّي الحبُّ فيها دورَ القيادة .
ومِنها ، أنَّ الشراكة بين طرفيها ، لا تَظهَرُ بعفويةٍ ولا تكبرُ بِتلقائيةٍ . وإنَّما بدرجةٍ مِنَ القَصْدِيَّةِ ، تتولى تصميمَها وهندسَتَها ، وتوجيهَ حركتِها خطوةً تلوَ خُطوة ، نحو حُلمٍ مُقتدرٍ خلافا لِسفاهاتِ الوَهم .
قالت مُقاطعة : أفهمُ مِما تتفضل به ، أن الشراكة مشروعٌ يستلزمُ مِنْ أطرافه ركوبَ الصِّعابِ واجتيازَها . وأنَّ الحبَّ في ظِلالها ، يحملُ أكثر مِنْ رايةٍ . ويُمثِّلُ أكثرَ مِنْ مَصْلَحة ، تُعادُ صِياغَتَها يوميا .
وأكملَتْ ضيفتي بلهفةٍ : كلُّ محاضرِ المُصلحين في المحاكم الشرعية ووسطاءِ الخير، تؤكد على عدم وجودِ عُلاقةٍ بين أنثى وذَكرٍ ، مُستقرةٌ أو عابرةٌ ، تنامُ في المساء عامرةً ، وتستيقظُ في الصباحِ ، فإذا هي ركاماً وعصفاً مأكولاً ، قادرا على الاطاحة بأطرافه . لقد اكتشفتُ بحكم عمليَ السابق ، أنَّ النقاشَ كلَّما احتدمَ بين طرفي الشراكة ، كان يكشفُ عدداً منَ الاعتراضاتِ التي كانت صامتةً مُتَخفيةً ، وبالارتطام المُستدامِ ، يكتسب المسكوت عنه ، مقدرةَ النُّطقِ وحقَّ الصُّراخ .
قلتُ مُكمِلا وتنهيدةٌ تنجو منْ صدري : للشراكة يا سيدتي قضايا أساسية ، تستدعي التبصُّرَ بشكلٍ مُستدام . ما يجري في ظلالِها منْ مُمارساتٍ ومِنْ ارتداداتٍ ، يُثيرُ التَّوجُّعَ . وسوف تظل كذلك ، حتى يتمالك أطرافُها أعصابَهم وإراداتَهم . دونَ ذلك من وصفات ، ما هي إلا مهدئات سطحية يداري عللها ولا يداويها .
للكشف عما يجري في أي شراكة ، لا بد من الوقوف أمام أطرافها المحتلين لمساحات في بؤرِها المُتَورِّمة ِ، فهُم وحدَهُم الممسكون بمفاتيحِها ، وهُم وحدَهم منْ يديرون تلك المفاتيح ، ويفتحون مُغلقَ الابواب على إتساعها .
قاطعتني وهي مقطبةُ الجبين : وليس أشدُّ إثارةً للمَلَلِ والضباب ، مِنْ هؤلاء الذين ينسبون كلَّ المشاكلِ ، لِلآخر أو للسِّحرِ أو التدخُّلِ أوِ الأخلاقِ أوالتَّربِية ، غيرَ أؤلئك الذين يتوهمون أنهم معصومون ، أو حالمون بأن الشراكةَ مَبَرَّةٌ خيْريَّةٌ عذراء ، تشعُّ فقط حناناً ومُتَعاً .
تابَعتُ لأكملَ ما بدأتَه : والشراكة قِوى لها أفهامٌ وقيَمٌ وتوقعاتٌ ، تختلط من اليوم الأول بالمصالح الشخصية المباشرة والمسكوت عنها. تمارس فعلَها بالارتطام الهيِّنِ في سباقات الحياة ، المندفعةِ بسرعاتٍ تضبِطُها توقُّعاتُ العقل والقلب والوهم . وتجرِّبُ فرضَ أجندتَها بكلِّ الوسائل ، علَنا وسِرَّا ، إقناعا وقَسرا ، وكأنَّها حرْبا مكشوفة أو تربُّصا في الظلام . وهنا يصعب تبرئةَ الآخر ، ويصعب اعتبار الذات بريئة بلا مؤثرات . فلا هو ظالم فيما يجري ، ولا هي ضحية لِما جرى .
الواقعُ أنَّ كل شراكةٍ مُتورِّمَةٍ تكشفُ أشياء ، تضيف إلى أشياء كشفتها تجارب الآخرين . فكلُّ شراكة ظاهرة مستقلة ، أطرافُها مختلفون عمن سبقوهم على نفس الطريق . فمنَ النادر أن لا تختلطَ التجاربُ بالسمات الشخصية المباشرة لأصحابها .
سألَتْ وهي تُشعلُ ليَ لُفافَتي : أصحيحٌ يا شيخنا ، أنَّك ترى في الحبِّ ما لا يراهُ الجَسد ؟
قلتُ بعدَ أنْ نَفثتُ الكثيرَ من دخانِ لُفافتي عالِيا في الهواء : جدلُ الشهوةِ والحبِّ حِكايةٌ أخرى ، مطَرٌ جميلٌ آخر ، نترُكُ الحديثَ عنه لمرة قادمة ، إن شاء الله .
الاردن – 5/3/2020