يوميات مشرد افريقي في مدينة غربية حديثة! بقلم : مهند النابلسي

القصة …
مهند النابلسي – كاتب وباحث وناقد سينمائي – الاردن …
بدا له المنظر غرائبيا وهو يسير غير حليق بملابس رثة … في شوارع عريضة حديثة لمدينة جميلة ذات ناطحات سحاب وجسور معلقة وحدائق غناء ، ثم مر بالقرب من يافطة اعلان ضخمة تطلب عمالا مهرة لمصنع زجاج حديث اقيم في القمر ويعمل بالطاقة الشمسية…حيث نجح المهندسون في تصنيع الزجاج باستخدام تركيز اشعة الشمس لتذويب البازلت القمري المركز من بلورات ثاني اكسيد السليكا ن، وحيث يعمل هذا المصنع باستمرار في اليوم القمري الذي يستغرق ما يوازي اسبوعين أرضيين ! وتساءل بمرارة وسذاجة: هل اقدم طلبا؟ وخاصة انه لا توجد شروط معلنة لاختيار العاملين!
ولماذا لا يقيمونه على سطح الأرض وفي الصومال مثلا؟ وكيف سيتم التعامل مع نقص الهواء وضعف الجاذبية ؟ وهل هناك امل لي بالعمل وخاصة أنه لا فرصة لي بالعمل في بلدي الافريقي البائس الذي تمزقه المجاعات والصراعات القبلية والسياسية ؟!
وتابع سيره شاردا كالحالم في الشارع الطويل الممتد الذي بدا له وكأنه في مدينة خيالية، ولفت نظره خبر علمي على واجهة مكتبة انيقة ضخمة: دخان يرفع الأثقال ويوقف اندفاع الأشياء: وهو لا يعرف الا الدخان الناتج عن الحرائق والانفجارات، ثم تجرا ودخل المكتبة، فواجه نظرات ازدراء صامتة ، وتصفح المجلة سريعا ليقرأ :… ويحدث أن يقل تسارع الجزء المندفع عندما يصطدم بالدخان المجمد بشكل تدريجي لحد ايقاف الشيء بدل ان يتحطم ويفقد، ثم تابع: وقد طور الباحثون من وكالة الناسا هذا الدخان المجمد من محلول سليكوني له نفس لزوجة الجيلاتين بعد تخليصه من الكحول والماء … والغرض من ذلك هو اقتناص الجزيئات الدقيقة التي تطوف الارض عبر الفضاء والكون بسرعة كبيرة، بغرض ارسالها للارض للتحليل واكتشاف مكوناتها! وكاد رأسه ينفجر من التناقض، فأرض بلاده تتصحر باستمرار وشعبه منقسم على نفسه لقبائل واثنيات متباغضة ومتحاربة منذ الأزل، ومجنون من يتجرأ على تحليل غرام واحد من تراب هذه الأرض المنكوبة والغنية بجثث الحيوانات النافقة وبقايا أشلاء البشر المتحللة كنتيجة للمجاعات والاقتتال الداخلي! ثم مر امام نفق المترو الأرضي، وسحرته انغام الموسيقى الهادئة وجدران النفق المزينة بالرسوم الفنية والأشكال والألوان التعبيرية، وقرر ان يضحي ببعض النقود وان يركب على غير هدى في اول قطار انفاق وبأي اتجاه رغبة بالتأمل والاكتشاف والهروب، فاندهش لمرأى النساء الجميلات وملابسهن الأنيقة كما لاحظ اكتناز بعض الاجساد، وقارن ذلك كعادته مع بؤس وبشاعة سحنات نساء بلده ونظراتهن الزائغة التي تكشف عن أمراض تنهش اجسادهن الذائبة، ولاحظ بدهشة وجود نساء بسحنات سمراء فاتنة وقوام ممشوق وملابس زاهية أنيقة ، واستنتج أن الغنى والعز والاكتفاء المالي والرفاهية تصنع كلها معا الجمال والذكاء والفطنة والجاذبية، وليس الموضوع مرتبطا بالجنس والعرق واللون ومسقط الرأس! أما الرجال فمعظمهم يشرق بالصحة والحياة والخطى الرياضية الواثقة، كما تشع عيون البعض بالذكاء اللماح والفطنة، ثم توقف تفكيره لوهلة وعجز عن المقارنة المجحفة …وسافر لمدة ساعة في اتجاه منطقة زراعية تقع على أطراف المدينة، وبعد أن كان اخر المغادرين …وجد نفسه بعد دقائق امام محمية بيئية جميلة وقرأ على المدخل “هذه اول محمية حيوانية–نباتية يتم استصلاحها من محجر قديم”، ودخلها منبهرا بجمال المكان وروعته “خضرة وماء وهواء ووجه حسن”، وقارن المحمية بالمحاجر البائسة في قريته وكيفتقوم الشركات الأجنبية بالتعاون مع وكلاء محليين باستنفاذ شباب وصحة العاملين وحشرهم كالبهائم في ظروف عمل قاسية لتنجيم المعادن “النادرة”التي تضخ الحياة في عجلة الصناعة الغربية المتغولة، وكل هذا الشقاء مقابل دراهم قليلة لا تسد رمقهم او احتياجات عائلاتهم، وانعكس القهر مجددا على سحنته البائسة، لكن حديقة الطيور الغناء غيرت من مزاجه المتعكر ، فقرر التضحية ببعض النقود لشراء علبة طعام من دكان صغير أنيق، فقرأ على الغلاف ”يحتوي الجزء الداخلي على الطعام بينما يحتوي الجزء الخارجي على مادة الجير الحي موجودة داخل الماء، وفور نزعك للغطاء تحدث تفاعلات طاردة للحرارة تسخن الطعام، فاستمتع بطعامك ساخنا”، فامتنع هذه المرة عن المقارنة لتحسن مزاجه، واكتفى بالاستمتاع بالطعام الساخن اللذيذ، ثم عاد راجعا واشترى صحيفة وعصيرا باردا، وجلس على أريكة خشيبة داخل حديقة عامة جميلة متأملا الأطفال اللذين يلعبون وبعض العجائز اللذين يتشمسون، ولفت انتباهه عنوان لخبر طبي : ” حياة انسان مقابل حياة حيوان” فقد تمكن الأطباء خلال احدى عشر ساعة من العمليات من زراعة كبد قرد من فصيلة البابون لانسان يعاني من كبد مصاب بقيروس قاتل، وذلك بعد أن نجح الأطباء من ابتكار عقار خاص يحافظ على مناعة الشخص المتلقي ويحميه من رفض الجسم للعضو المزروع، ثم قرا أن جمعيات الرفق بالحيوان قد احتجت بشدة على ذلك، الا أن البرفسور القائم بالعملية رد قائلا ” يجب ان نكرس كل عواطفنا والتزامنا تجاه الكائن البشري اولا واخيرا ” .
وتساءل الافريقي المشرد : اي كائن بشري يعني ؟ هل اعتبر انا مثلا حسب مقاييسهم كائنا بشريا ؟! فربما يفضل الكثيرون منا الموت جوعا وعطشا تحت الشمس الحارقة في الأرض الجدباء القاحلة او حتى في معسكرات النازحين ، فكرامتنا الانسانية لا تسمح لنا بتسول المعونات ، ونفضل احيانا ان يكون التعاطف حقيقيا لا يستند للشفقة …ولماذا لا نستلم معونات حقيقية من اخواننا العرب (المسلمين ) المقتدرين الأثرياء بينما اموالهم الباهظة تسير كالدماء في عجلة الاقتصاد والبنوك الغربية ، على كل فالمعونات شحيحة جدا وغير كافية، وربما يفضل بعض النازحين أن يسمح لهم ببيع الأعضاء الانسانية مقابل المال والطعام له ولعائلته…..والأكثر تضحية ربما يفضل بيع حتى قلبه او كبده وكليته مقابل نقود وطعام لافراد اسرته، ولم لا فهو ميت على أي حال بالمجاعة او بالاقتتال العبثي، والنسور الأفريقية الجائعة تنتظر جثته بفارغ الصبر!
هرب من كآبته وهواجسه وتأملاته في اغفاءة قصيرة، واستيقظ مشوشا لا يعرف بالضبط ما الذي حدث له؟ فهل انتقل من قريته النائية في بلد افريقي-عربي تمزقه الحرب الأهلية والصراعات السياسية والمجاعات، كما تعبث فيه الميليشيات والعصابات المسلحة، و تنهكه المحسوبيات والسرقات والرشاوي وفساد المتنفذين وتجار الدين والحروب! ام هل انتقل فعلا عبر قوارب المهربين ونجا بالدخول خفية لاحدى المدن الغربية الكبرى؟ فكيف نجا اذن واين عائلته؟ كل ما يتذكره عن وطنه الأصلي أنه حافل بالبؤس والمجاعة وأن أغلب الأطفال هناك يملكون بطونا منتفخة وعيونا جاحظة خاوية من المعنى ورؤوسا متضخمة، وهم يحاولون بنظراتهم الفارغة لسع الانسانية ولكن دون جدوى!
يحدث هذا التناقض في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ولا يزعج ذلك أحدا !
***
كاتب وباحث وناقد سينمائي
Mmman98@hotmail.com