قيمٌ من اللُّغة (6) بقلم : د . مجدي ابراهيم

دراسات ….
بقلم: د. مجدي إبراهيم – مصر …
إذا كُنّا نضع في هذه السلسلة من الفصول، مبادئ أولية تتأسس على دعائم روحية وروابط يجمعها الشعور العربي والوجدان العربي، تربطه بلغته، وتحفظ له هويته، وتعلو من شأن اللغة العربية التي هى بالأساس لغة دين وأدب وفن وعلم : ولغة حضارة على التعميم؛ فإنما نفعل ذلك؛ لأننا نؤمن بقيم باقية فاعلة في لغتنا العربية؛ وأهمها في سياق البحث عن الجذور : تقدير الهوية العربية، وتقدير الأمانة الفكرية والمعرفية، وتجنيد القرائح بمقتضاها في ساحة العمل الشريف للسعي إلى المثل العليا التي تتولاها وتقوم عليها وهى : مُثل التسامح، والسلام، وقبول الآخر المختلف، والعدل، والمساواة.
فلئن كانت فكرة الصهيونية لا تزال هى الفكرة الرائدة عند أصحابها، قائمة باقية تُدَعمُ كحركة عالمية؛ فإن المقابل لها هو فكرة القومية العربية : فكرتان تصطرعان عبر الزمن، لكننا مع شديد الأسف أهملنا من جانبنا كعرب فكرة القومية العربية؛ لتضيع مع هذا الإهمال هُويّتنا ضياعاً يكاد يكون تاماً. وقد كان من المنتظر لفكرة القومية العربية الانتصار والتقدم فيما لو كنا عليها محافظين وبها مستمسكين.
لقد كان بالإمكان الذي لا شك في الإيمان به : أن تصبح مع التطبيق والرعاية فكرةً حيةً متطورةً متجددةً هى نفسها الهوية العربية يريد أصحابها لها الحياة بإيمانهم بها وتمسكهم بما فيها من قيم باقية عاملة، ومن أمثلة عليا في إطار الصلة الوثيقة القائمة بين العربي والعربي من طريق اللغة؛ إذ كانت ولا تزال الرباط الأمثل الذي يحفظ الهوية ويُسلم العرب جميعاً من آفات التمزق والانقسام.
لم يبلغ الزمن قدر الستون عاماً بل يقل، يوم أن كانت أقلام المثقفين في العالم العربي تمجد في أصول القومية العربية، وتقارن بينها وبين القوميات الأخرى كما ظهرت في مطلعها الأول كقومية الروم وقومية الفرس. ولم يكن تمجيدهم لها صادراً إذْ ذَاكَ عن فرائض سياسية أو فروض اقتضتها أحوال العالم العربي يومئذ، بل عن قناعة إيمانية باتصال القومية العربية بمعدن الهوية الحضارية في الإسلام، وانبعاث الأولى من الثانية ضرورة، واعتمادها عليها، وتغذية وجودها بالقيم والمبادئ التي تتأسس عليها. ولم تزل تلك الحضارة فاعلة بالقيم الجديدة التي تغلبت على القيم التي كانت موجودة في حضارة الفرس والروم. إذْ ذَاَكَ سئم الناس غطرسة حكام الفرس وعنجهيتهم، وفساد الحياة في بلاد الروم، وانصراف رجال الدين إلى مجادلاتهم البيزنطية ومماحكاتهم النظرية التي أودتْ بهم إلى عقم التفكير وفساد المنطق المقبول وعدم جدوى المناقشات. أما ملايين الشعب في كلتا الدولتين فكانوا يساقون كالأغنام، ويعيشون معيشة أحط من حياة السوائم لا ينعم فيها الإنسان بحريته ولا بكرامته.
ثم جاءت القومية العربية في مواجهة القوميتين الرومية والفارسية؛ لتقرر للفرد حرية الفكر والعقيدة، بشرط أن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد القهار، ومساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وتقرر وَحْدَة العرب والمسلمين وتضم أشتاتهم المتفرقة في إطار من المبادئ والقيم التي تأسست عليها الحضارة الإسلامية والعربية إذْ ذاك. ولم تكن اللغة العربية سوى قنطرة عبور الوعي الحضاري لتحقيق تلك القيم في ظل المثل العليا التي تدين لها بالولاء.
وأعودُ فأقول : إنّ إيماننا بهذه الفكرة لينبعث ولا شك عندي من تقدير أصول القومية العربية من حيث كونها فلسفة حضارة لا من حيث كونها فكرة سياسية وكفى، ظهرت في فترة زمنية محدودة وظهر الاهتمام من نبلاء الزمن الماضي بها بل من حيث إنها ثمرة حضارة عربية إسلامية كان اللسان العربي أبرز عناصرها، وكان هو بالأساس لغة كتابها المقدس وقرآنها ودينها بمقدار ما كان في الوقت نفسه لغة علومها وآدابها وفنونها. وليس يمكن الفصل مطلقاً في هذه الحضارة بين اللغة والدين ولا بين العلوم والفنون ولا بين الآداب التي تضمها جميعاً تلك الحضارة الإسلامية ولا تفرقها أو تجزّئها.
ذلك هو عندي المبدأ العاصم للهوية من التفرقة والتمزق والشتات. لكن هذا المبدأ يحتاج إلى تفاصيل توضح معالمه وترشدنا إلى تجنيد الطاقة العاملة لمواجهة أسباب الانقسام التي تفرق العناية به ولا تجمعها تحت راية وطيدة. فلئن كنا ذكرنا فيما تقدم أننا نضع هذه السلسلة مرتكزة على مبادئ هى الباقية، وهى نفسها الفاعلة أيضاً، وأنها لتتأسس على دعائم روحية مستقاة من مبدأ التوحيد العاصم من الفُرقة والشتات، والحافظ للهوية العربية من الضياع، ومن الانزلاق تحت مهاوي التمزق والتجزيء والتفتيت؛ فإننا نعوّل بادئ الرأي على التوجهات الروحية في حضارتنا العربية الإسلامية. وعلينا أن نذكر بادئ الرأي أيضاً أن هذه التوجهات لم ينفصل فيها مطلب واحد من مطالب العقل عن مطالب الشعور والوجدان، ولم ينعزل فيها النظر العقلي عن تلك المطالب التأسيسية للأخذ بقيم التقدم في الحضارة الإسلامية؛ فإذا كنا من تلك الجهة نركز على هذه المطالب مجتمعة؛ فإننا من جهة أخرى لا نتغاضى عن الأساس الكاشف للفكرة الروحية المثالية الدائمة والشروع في إماطة اللثام عنها بمنهاج “الوعي القلبي” وهو الوعي الذي يفرز اللغة ويقيمها على الدوام موصولة بذلك المبدأ العاصم للهوية العربية من التفرقة والتمزق والشتات.
* * *
فإذا نحن – من بعدُ – عَوَّلنا على القلب في جميع ما ندرك، وفي جميع ما نحيا. أقول؛ عَوَّلنا على القلب، لا على الحس كونه مطالب مادية صرفة، ولا على العقل المجرد من الشعور والوجدان، ولا على شيء آخر من مدارك المحدود في الإنسان، كان الصدق الذي تحدثنا عنه طويلاً لازماً لهذا الوعي القلبي لا يفترق عنه بحال، وصارت لهذه “الكلمة” دلالتها المُوحية بالوعي الإنساني في مفهوم ما ندرك له وما نعمل فيه؛ حتى إذا ما رُحنا نتصور مثل هذا “الكاتب” الذي يقول وحياته هى هى قوله لا يتعدّاه، ويكتب وحياته هى هى فكره الذي يخوضه في غمار التجريب، دَلَّ تصورنا على الوعي القلبي فيه ممثلاً في الصدق. ولكن قد يقال : أين هو الرجل الكاتب الذي ينقل لك هذا الشعور، ويهيئ لك هذه الفرصة النادرة صدقاً من اتصال الوعي القلبي؟
إنه العنقاء الذي يتحدثون عنها في أساطير الأولين! قد يقال : إنه من المستحيل أن يكون مثل هذا الرجل موجوداً بين ظهرانينا، مَنْ ذلك الذي يستطيع أن يكون كلامه – كله أو بعضه – هو عين حياته، وحياته هى عين كلامه ومعتقداته .. مَنْ؟!
وأقول لك مخلصاً من أجل ذلك فَسَدَ الأدب وضاعت القيمة الخُلقية من وراء الأقوال. وبفساد الأدب فسدت اللغة حقيقةً ليس فيها مجاز. ومع ذلك، فأكثر الذين أوقفونا على هذه المعاني هم بشر مثلنا كانوا موجودين على ظهر الأرض؛ فمثل هذا الرجل الذي يستحيل وجوده في توهم المتوهمين كان موجوداً في الأزمنة الخوالي، ولا تزال آثاره الفكرية والروحيّة تتدارسها الأجيال جيلاً وراء جيل. وسأضرب لك مثلاً باثنين فقط : أحدهما ينتمي إلى ثقافة غير الثقافة العربية والإسلامية، وهو “سقراط”، الفيلسوف اليوناني.
والثاني : هو فيلسوف مسلم؛ وإنْ لم يكن من أصل عربي، لكن الجانب الديني عنده مُقدّم على الجانب الفلسفي؛ هو حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (ت505 هـ)؛ طوسيِّ المولد والنشأة، عربي اللغة والمربي، أشعري المذهب، صوفي النزعة والاتجاه. وإنما وقع اختيارنا على هذين دون غيرهما، أحدهما فيلسوف يوناني خالص، والآخر يغلب عليه النزوع الديني؛ لنؤكد على شيء مهم عندنا، وهو أن أهم فعاليات الفلسفة هى هى أهم فعاليات الدين؛ فأما الأول سقراط : فقد كانت حياته هى أقواله، وأقواله هى حياته، لم يتناقض مع نفسه، ولم يسن التناقض لأتباعه ومريديه، ولكن أفكاره وآراءه هى لب حياته التي كان يعيشها، أسر قلوب أتباعه بسلوكه وعمله وحس التصرف فيه، قبل أقواله وآرائه وأفكاره، تطابق عنده الفكر مع العمل، والنظر مع التطبيق، والعقل مع الممارسة الفعلية. ولم ينفصل لديه النظر العقلي عن التطبيق المعرفي ولا مقاصد الأول عن مطالب الشعور والوجدان.
ولنتأمل أقواله التي كانت هى عين حياته حيث قال فيما رواه عنه مؤلف مجهول هو صاحب كتاب :”فِقَر الحكماء ونوادر القدماء والعلماء” : “اعلموا أن الدنيا دار عمل والآخرة دار ثواب. وأسعد الناس من قدَّم لنفسه عملاً صالحاً، والدهر عدو الأعداء للإنسان، فلا يغتر بمسالمته عاقل. والعقل من أفضل المواهب والجهل مُوجب للمعاطب. وحاجة الإنسان إلى العقل أكثر من حاجته إلى المال؛ لأن العقل يُصلح لأهل الدنيا والآخرة، والمال لا يصلح إلا لأهل الدنيا. وصفاء النفس بالرياضة. والسعيد من استظهر لنفسه واعتبر بمُعْنيِّ أمْسُه. والثقة بالله تعالى أقوى أمل والتوكل عليه أزكى عمل. والطاعة حرز، والقناعة عز. والدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقي لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تعري عن محنة. وأجهلُ الناس من طلب ما لا يناله. إلى أن يقول :” ولا تقطن الحكمة حيث يقطن اللهو، ولا توجد المروءة عند مَنْ لا حياء له. وأشدُّ عيوب الإنسان أنه لا يرى عيوب نفسه، ويرى عيوب الناس. وأفضل ما يقتنيه العاقل حسن الذكر من الناس بعد طاعة الله تعالى، ولا ينبغي للعاقل أن يعمل في السِّر ما يستحي منه في العلانية. والحكمة هى طبّ النفس. والحكيم من كف نفسه عن الشهوات…”(راجع : فِقر الحكماء ونوادر القدماء والعلماء, نشرة د. عبد الرحمن بدوي؛ طبعة دار صادر؛ سنة 1973م؛ ص217- 218).
وفي هذه الصفحات المُشار إليها، أقوالُ كثيرة منسوبة إلى سقراط ، لو تتبعناها، وليس هذا غرضنا، لطال بنا الحديث، في : الفقر والغني، والصحة والمرض، والدنيا والآخرة، والعدل والجور، والصدق والكذب، والمحبة والكراهية، وحسن الخلق وسوءه، والحياة والموت، إلى آخر ما كان ذكره المؤلف المجهول في كتابه النادر.
أما الشخصية الثانية التي نوردها هنا على سبيل التذكير بوجود التطابق بين القول والعمل في الفرد الجامع لهما بغير تناقض ولا تهافت لأحدهما على الآخر؛ فهى شخصية حُجة الإسلام الإمام الغزالي، فلقد كان شغوفاً طُلْعة، جواداً بنفسه في سبيل المُرتقى العلوي الذي ينشده ويتطلع إليه في كل حال، قرأ الفلسفة وعلوم الأوائل ونقدها بعد أن فهمها، ولم ينقدها قبل الفهم كما يَدَّعي الذين يُشوِّهون عن عمد تراثه الفكري، واتجه إلى علوم المسلمين فطاف عليها جميعاً طواف العالم المتبحر فيها، لا طواف العابر المعزول العاجز الخامل المستكين، ثم لم تشفْ غلته جميعاً لا علم الكلام ولا الفلسفة ولا مذاهب التعليمية كما كان يسمِّيها، فالتجأ إلى رحاب التصوف، بعد لجوئه إلى الله في أن يُعينه، ويقرب له مسالك الوصول إليه.
خاضَ الغزالي التجربة الروحيّة خوض الجسور لا خوض الجبان المخذول، وعكف على القراءة والبحث سنين طويلة فلم يجني الثمرة المرجاة فأتجه إلى العمل والتطبيق حتى فتح الله عليه بنور مقذوف في قلبه، عرف منه الحق معرفة اليقين الذي لا شك فيه. وبعد أن أنتهى من رصد رحلته الروحية التي دوَّنها لنا في كتابه “المنقذ من الضلال”، جاءت حياته كلها انعكاساً لفكره، وفكره دليلُ على حياته، وأقواله ثمرة لممارساته، لا انفصام لديه بين قول وعمل، ولا تناقض بين نظر وممارسة. حياته هى هى فكره، وفكره هو هو حياته، هنالك اتساق في حياة الغزالي فُهم خطأ من أكثر الذين درسوه وأطلقوا عليه أحكاماً مبتسرة لا تمت إلى الصحة بصِلة.
فقد كان بحق أول العقول التي مارست ملكة الشك، وكيفية الوصول إلى اليقين، الأمر الذي جعله يختبر جميع المذاهب في عصره وينقدها، باحثاً عن اليقين، وناقداً لقيم الأصناف الفكرية والدينية الخاطئة من أهل العلم في عصره، كالمتكلمين، والفقهاء، والباطنية، والوعاظ، والزهاد، والعباد، وعلماء اللغة, وأدعياء التصوف…, والمغرورين من الصوفية، كأهل الشطح منهم، والذين تشكلوا بأشكال الدين، والأغنياء من الفجرة والفُسَّاق ممن لا يرتفعون بالإنسان عن مراغة الحيوان، وعوام الخلق, وغيرهم، وغيرهم، إلى كثير مما لو تعقبناه لطال بنا المقام.
ثم إنه لم يجعل المعرفة الدينية تقليداً يُمارس بالعادة وكفى، ولا بالدراسة النظرية والتفكير العقلي، ولم يجعلها كذلك جدلاً نظرياً كما هو الحال عند المتكلمين، وإنما جعلها إحساساً صادقاً ومعايشة باطنة، تجربةً ذوقية بالأساس, وتطبيقاً عملياً لإيمان وجدانه وعقله وضميره. وحدَّدَ معالم هذه التجربة تحديداً لم يسبق إليه، وشرطها بأركان من العمل في ميدانها كما هو مشروط في قانون الطائفة، فأعطى من ثمَّ للإسلام في عصره، وفيما بعد عصره أيضاً، ذوقاً جديداً وعمقاً روحياً بعيداً، حين دَوَّنَ التجارب الصوفية وقعدها في أصول، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، كان الغزالي صوفياً إيجابياً عنيَّ بشئون عصره، فبيَّن أصناف المغترين من طبقات الناس وطوائفهم على اختلافها، وأقسام فِرَق كل صنف في “كتاب الإحياء”، ناقداً لها مصوِّراً لأوضاعها الاجتماعية، شارعاً في تفنيد حُجَجها الواهية، كاشفاً عن وجه الخطأ في اعتقاداتها، وقيمها، وبواطلها، وعاداتها الفكرية والعملية والتقريرية، وقد وقف في وجه المذاهب الفكرية المنحرفة بقوة وشجاعة وصرامة، لا يتراجع ولا يتوانى، ونقدها نقداً علمياً دقيقاً، وكان من الممكن لهذه المذاهب – فيما لو تركت وشأنها ولم تجد من يتصدى لها – أن تقوض دعائم المجتمعات الإسلامية في عصره وتفسد قيمها الإيجابية. ليس هذا فقط، بل تورث الأجيال فن الجدل في تقويض القيمة على مر الأزمان؛ الأمر الذي آثار إعجاب الباحثين العرب والأوربيين، فكتبوا عنه أمتع الصفحات وأجملها وأخلدها على وجه الزمان؛ كتبوها بالإعجاب لمفكر عاش آراءه، وكانت حياته كما قلنا هى فكره، وفكره هو حياته، وكان لجمال أسلوبه وثراء لغته حماسة روحية لا تفارقهما. والشاهد على ذلك دوام هذه اللغة واستمرار وقعها على الشعور ونبضها بالإحساس وتحلقها في سماء الحقائق الروحيّة، لكأنك حين تقرأها اليوم وتعيش معها كأنك تقرأ لكاتب معاصر؛ لا لفظة نابية ولا عبارة معوجة ولا جملة ليست في موقعها ولا شيء مما ينبو عن طبع المستقيم وسليقة المتذوق الأصيل.
وترك من الآثار على قلوب الصادقين من العلماء الأصفياء والمفكرين الخلصاء، والمتصوفة وأهل الرأي والأدباء والفقهاء والمُفسِّرين والأصوليين، وكل من يحمل في رأسه فكرة مستنيرة عن الدين والحياة الروحية في الإسلام، ما لم يتركه أحدُ غيره يعمل بمثل عمله، ويعطي من نفسه، ويجود بما لم يكن من السهل الجود به إلا أن يكون صاحبه مخلصاً إلى أبعد حدود الإخلاص، صادقاً في معاملة الله على القصد إلى أبعد حدود الصدق، عارفاً بثمار الفكرة المهذبة في الوعي والعقل والسلوك والضمير.
هذان هما الفيلسوفان اللذان ضربت لك بهما مثلاً ليكونا أمامك صورة كاشفة تستحق أن تحتذى لتمثيل الفكر للممارسة العملية، وتمثيل القول النظري للتطبيق العملي، وتمثيل اللغة اللفظية للتحقق من صحتها روحياً ومعنوياً، واختبارها بالفعل على أرض الواقع، كيما تكون “ذات النفس” القائلة، هى هى “ذات النفس” الفاعلة، وقبل أن نغادر هذه الفقرة، يهمُّنا أن نذكر ممَّا تقدَّم من أمثلة بين سقراط والغزالي ملاحظتين.
الملاحظة الأولى : تطلعنا على أن أهم فعاليات الفلسفة هى نفسها أهم فعاليات الدين؛ فيما لو صحَّ ما ورد عن سقراط باعتباره ممثلاً هنا للفكر الفلسفي الخالص. هذا من حيث عمق المسألة لا من حيث ما ينظر إليها من جهة سطحها البرَّانيِّ، ولكن مع ذلك فلا يجوز للدين أن يتحول عن قضاياه كما تتحول الفلسفة عن قضاياها؛ لأن قضايا الدين ليست كقضايا الفلسفة منظوراً إليها من جهة المنهج لا من جهة الموضوع : قضايا الدين حيوية حسَّاسة، غاية في التأثير على الوجدان الديني، تمسُّ الشعور بمقدار ما تمسُّ العقيدة، وتفعل في أعماق الإنسان أفاعيل لا يفعلها العقل الفلسفي المجرد وحده : عقل التحليل والإدراك والمنطق الصارم.
يعتمد الدين منهجياً على يقين الوحي وركيزة الإيمان، وتعتمد الفلسفة معرفياً على العقل. وللعقل منهج هو الدليل يُعمله معرفياً في قضايا الفلسفة.
بيد أن هذا العقل، الذي هو بمثابة الدليل الهادي، يظل في الغالب مهما أوتى من حيل منطقية – ما لم تسعفه البصيرة والإلهام – يدور حول ذاته؛ فيعجز عن استخلاص “القيمة” الحقيقية للوجود الإنساني في مسيره ومصيره.
ولكن مع ذلك؛ فجوهر الفلسفة هو جوهر الدين. وفي كثير من الموضوعات يختلط على العقل الفلسفي نفسه أمور تتشابه وتتلاقى بين الدين والفلسفة؛ فلم يعُدْ يفرق بدقة بين أهم فعاليات الفلسفة وأهم فعاليات الدين؛ خذ مثلاً مفردات فلسفية كالتأمل (Meditation)؛ الذي هو تفكير عميق في موضوع معين يحاول الإنسان بمقتضاه أن يستخرج جوانبه العامة، والاستغراق، والتركيز، والنظر إلى الأمور الكلية، والاستبصار، وأحادية الرؤية، والإرادة الجبارة، والعزيمة عن طريق التركيز الشديد، هذه مثلاً مفردات تؤكد أن أهم فعاليات الفلسفة هى نفسها أهم فعاليات الدين : نصف الدين صبر، والنصف الآخر شكر، كما جاء في الخبر المشهور. والإرادة الفاعلة تكمن في الصبر، الصبر على المكروه، وعلى المحبوب، وعلى الطاعات، وعلى المعاصي؛ لأنه بلا إرادة فاعلة لا يكون الدين ديناً، ولا تكون الفلسفة فلسفة. وبغير الإرادة والعزيمة ينهار الإنسان ويضيع، ثم إن الدين هو مُلْهم الفلسفة. أصلُ الفلسفة تأملات دينية، حِكم وشذرات وخاطرات دينية فَعّلَ العقل فيها طاقاته المعرفية كما هو واضح في الفكر الشرقي القديم، ولم يكن بالغريب على “هيجل”، الفيلسوف الألماني أن يقول :”إنّ الفلسفة هى دين العقل”.
تلك كانت هى الملاحظة الأولى. أمّا الملاحظة الثانية : فتنصب على العمل العقلي التحليلي المسنود على الشعور الوجداني والذوق القلبي في كشف القيمة في الواقع الفعلي، ونحن نستخدم كلمة العقل هنا، بأبسط معانيها، باعتباره وسيلة وليس غاية، وسيلة كاشفة تستنبط “القيمة” وتستخلصها، وليس بالمنهج المُوغِل في الإفراط العقلي لدرجة التقديس. وبمقتضى كشف القيمة واستخلاصها واستنباط دلالتها في الواقع الفعلي يمكن أن ينسحب هذا على تمثيل اللغة اللفظية للتحقق من مصداقيتها منظوراً إليها من جهة القيمة، ومدى ما تمثله اللفظة العربية من ثراء المضمون في قرارة الواقع وقرارة الآراء.
وإني لأعيدُ هنا ما كنت ذكرته من قبل لأقول مرة ثانية :”مَثِّلْ لنفسك كاتباً يقول، وحياته هى هى قوله لا يتعداه، ويكتب؛ وحياته هى هى فكره الذي يؤمن به ويخوضه عملاً في رحاب التجريب : ينظر ويحلل ويدون فيُبين، وكل هذا كله هو “ذات نفسه” منشورةً من أعصابه ودمه وطواياه على الأوراق، لا ريب ذلك هو “الصدق” يتوخاه في التعبير، كما توخاه قبلاً في طريقة التكفير”.
وأغلبُ أفكار المفكرين إذا هى لم تورث أعمالاً فباطلة، وإذا هى لم تغيِّر في حياة الناس فعاطلة، وما كانت من البطلان والتعطيل إلا لكونها مفتقرة إلى الصدق في القول والإخلاص في التفكير حين يجيء التفكير عملاً غالباً لأهل الفكرة. وفقرها في هاتين الصفتين؛ لهو بالحقيقة ذلك “الفقر الذاتي” إزاء الشعور الدائم بالعجز عن إصلاح النفس وتغيير بواطن السريرة من الضعف إلى القوة، ومن المرض إلى الصحة، ومن الآفات والرذائل إلى المزايا والفضائل؛ ثم أخيراً من ضياع الهوية في العلم والمعرفة والثقافة إلى استردادها مع القيم الحضارية العليا. ذلك العجز الذي تتولاه طبيعة الضعف في كل نفس ضعيفة طبعت صاحبها بطبائع الاعوجاج.
* * *
وأنت ترى في كل هذا الذي تقدَّم صلةً قريبةً موصولة بقيم عامة لا تستثنى منها قيم اللغة, بل تتضمنها وتشملها, وإنْ كانت لم تصرح بها, ولكنها تحتملها على وجه التضمين والشمول؛ فكل الذي سبقت إليه الإشارة له وطيد العلاقة باللغة فيما لو رحنا نلتمس منها “القيم”، وأخذنا على عاتقنا تأصيلها في الضمائر وتمكينها في القلوب، وعلقنا الدلالة هنا على العلاقة بين اللغة وقِيَمَها؛ لتوافق العلاقة بين المرء وقلبه, أو العلاقة بين المرء وضميره، أو العلاقة بين المرء وقلمه, أو العلاقة بين المرء وفكره, أو العلاقة بين المرء ولسانه؛ فلا ريب تتقدَّم اللغة بتقدم هذه العلاقة وتتأخر بتأخرها؛ لأنها علاقة الإنسان بقيَمه, وعلاقته بوجوده الروحي الخالد الباقي الممتد, دون الوجود المادي الزائل الفاني. (وللحديث بقيَّة).