تهب الرياح من كل اتجاه .. هكذا أفكر أنا – بقلم : ادوارد جرجس

أراء حرة ….
إدوارد فيلبس جرجس – نيويورك …
من الأشياء التي افتخر بها جلوسي أمام الطبلية كواحد من أفراد أسرة كبيرة ، والطبلية هي المنضدة الأرضية التي كانت تجمعنا وقت تناول الطعام ، وإن كنت لم أعاصرها سوى لفترة قصيرة لكن هذا لا يمنع أن أقول بإنني ” تربيت على طبلية أبويا ” ، مقولة يرددها الكثيرون في مجتمعنا ليصفوا بها ذلك ” الجدع الشهم ابن الأصول ” إذ يقولون إن هذا الرجل ” متربي على طبلية أبوه ” ، سألني أحدهم لماذا الأجيال الحديثة تختلف عن الأجيال القديمة فأجبت لأنهم ” لم يأكلوا على طبلية أبوهم ” ،  وكأن الأكل على هذه «الطبلية» قيمة فى حد ذاتها، تعلى من شأن من تلقاها، وتخسف بمن حرم منها إلى أسفل سافلين، إذ تُبرز تلك المقولة كيف أصبحت «الطبلية» «قيمة وطنية» راسخة فى عمق وجداننا، من حق من جلس أمامها أن يفخر بما عاش من تجارب، وليس على من حرم منها إلا التوارى عن الأعين فى ساحات المفاخرة . هنا لابد أن نعرف أن «الطبلية» بمرور الزمن أصبحت أكبر من معناها المادى، هى تلك الحالة التى يقترب فيها جميع من فى الأسرة إلى جميع من فى الأسرة، هى جسر بين «الكبير» و«الصغير»، وعليه تمر خبرات الحياة وفضائل العائلة، حول الطبلية يجلس الجميع وعلى رأسهم الأب، ينبه الأبناء إلى أهمية أن ينتظروا حتى يحضر الجميع ليبدأ الأكل، تتوالى الأطباق فى النزول إلى ساحة الطبلية المقدسة، فلا يمد أحد يده إلى طبق حتى تنتهى الأم من وضع جميع الأطباق، فى العادة تكون الطبلية أضيق بكثير من استيعاب الجميع، وهنا يتعلم الجميع كيفية التآلف لكى تسع الطبلية كل أفراد العائلة، يجلس كل واحد لا بالشكل الذى يريحه فحسب، وإنما بالشكل الذى يوفر له ولأخيه مساحة كافية، ترى العائلة وكأنها «بنيان مرصوص» لا مكان ليدخل الشيطان بيننا ، وقد ساوينا الأيادى وسددنا الثغرات ، يقول لنا الأب، «قل بسم الله» قبل أن تأكل، فنتعلم أن نتحكم فى شهواتنا، يقول لنا الأب، «احمد الله بعد أن تشبع»، فنتعلم فضيلة «الرضا» على الطبلية ويتعلم الجميع المحبة، يتبادل الجميع النقاش، يوزع الأب على أبنائه «المناب»، فيتعلم كل واحد كيف يرضى بما قسَمَه الأب دون اعتراض، فى الغالب «لا ينوب المقسّم إلا مصمصة صوابعه»، فيرى الأبناء كيف يضحى الأب بملذاته ليشبع ملذات الأبناء ، فنتعلم أن التضحية أول شروط المحبة، وعلى الطبلية يرتفع مبدأ الشفافية ، فهذا هو كل الطعام، وعلينا أن نشبع به، ولهذا نتعلم أن الأكل ببطء أسرع وسيلة للشبع، نتعلم آداب الطعام وآداب الحياة، وآداب الاستمتاع، نحترم الكبير ونعطف على الصغير، نرى الفرح فى أعين إخوتنا بما آتانا الله، فتصاب أرواحنا بالبهجة، نضحك، نمرح ، نشبع، فتغرف أرواحنا من «الونس العائلى»، ونعرف أن الأوطان كالعائلة، من يصونها «متربى على طبلية أبوه»، ويخونها من هو دون ذلك . ذهب زمن الطبلية فانفرط عقد الأسرة ، وتبعثرت ، وأصبح الأب حتى لو وجد على المائدة يكون كضيف وسط أغراب ، الجميع ينشغلون بما في أيديهم من هواتف عليها ما عليها ، فأصبح الشيطان يجالسهم فذهبت البركة ، فتسربت الكثير من القيم وضاع الكثير من المبادئ وهذا هو الفرق بين اليوم والأمس ، ولا أستطيع التكهن بالفرق بين اليوم والغد لكن البعض يتنبأ بأن الأب سيكون مكانه أسفل المائدة !!!! .