مِنْ تَجَارِبِ الإقْصَاءِ والتَّمْييزِ و الاسْتِبْعَادِ الدِّيْنِيِّ – بقلم : د . بليغ حمدي اسماعيل

دراسات ….
الدكتور بليغ حمدي إسماعيل – مصر …
أن تكتب عن ظاهرة الإسلاموفوبيا من جديد ، فأنت إذن بصدد الاتجاه صوب منطقة محفوفة بالمخاطر لاسيما وأن الغرب لا يزال يرى في الإسلام عدوا مطلقا له ، لا بسبب تعاليم الإسلام السمحة الرائعة الربانية ، وإنما بشأن بعض التصرفات التي ترتكبها فئات وطوائف راديكالية متطرفة بعينها مثل داعش وغيرها من التنظيمات المهوسة التي تعمل بغير فكر أو رؤية دينية سليمة وصحيحة .
و بوصلة المستقبل القريب تتجه غالبا صوب التسامح وتطبيق فكرة التعايش المشترك رغم ما نراه ونسمعه ونشاهده بل وأحيانا نمارسه من صنوف الإقصاء والتمييز ورفض الآخر ، لكن المشاهد المعاصرة التي تفجؤ أدمغتنا بإحداثياتها هي نفسها التي ستدفعنا بقوة للأخذ بأسباب التسامح وقبول الآخر والبحث عن مساحة طبيعية للعيش المشترك بغير اضطهاد أو عنصرية .
ولا شك أن العلاقة مع الآخر في السنوات الخمس الأخيرة شابها كثير من التوتر والقلق المصاحب للتوجس ، الأمر الذي أدى في النهائية إلى تكثيف حدة التعصب والكراهية وكل هذه الحالات الإنسانية مفادها علميا ما يعرف بالوعي المعلوماتي ، فكل رهاناتنا الفعلية مع الآخر مبنية على وعينا المعلوماتي بهذا الآخر القابع بالشاطئ الثاني والذي يفصلنا بينه بحر كبير يبدو أكثر اضطراما وسخونة .
وهذا الوعي المعلوماتي الذي يعقد له مراكز أبحاث ودراسات متخصصة في الخارج طبعا تعكف على دراسة التكوين الثقافي والشعبي والإطار الذهني المرجعي للفرد الذي من خلاله يكون صورة حادة للآخر المختلف دينيا أو عرقيا أو من ناحية النوع كذكر أم أنثى. فما يسمعه الإنسان من محيط أسرته الصغيرة ثم أقرانه ومن بعدهم فلكه المدرسي وما يحيط به من وعي موجه ديني في السجد أو الكنيسة يشكل كل هذا إدراكه صوب الآخر المختلف .
وهذا الوعي المعلوماتي الذي لا يمكن الحكم عليه بالإيجاب أو بالسلب يحيط به قدر كبير من المخاوف تتمثل في عدة مقومات قد تصيبه حتما بمزيد من القلق والتوتر ، أول هذه المقومات وسائط التواصل الاجتماعي التي استحالت في أيامنا تلك إلى ضرورة وليست رفاهية ، وكثير من الشباب نجده قد يفقد صوابه وإدراكه الاجتماعي حينما يعلم أنه بعيد عن الاتصال الإلكتروني ، هذا لأن شبكات التواصل الاجتماعي صارت ملمحا رئيسا في حياتهم وبات من الصعب اليوم أن يستقي وعيه المعلوماتي من مصدر أصيل كالكتاب أو حضور ندوة متخصصة أو الاستماع إلى برنامج إذاعي يعالج قضية ما .
وهذه الوسائط كالفيس بوك وتويتر قد تؤجج مشاعر الكراهية والتعصب إزاء الغير مما يستدعي رقابة وهمية وافتراضية على ما تبثه تلك الوسائط من أفكار ومعلومات.
ومن المقومات أيضا الإعلام ، وما أدراك ما إعلام بعد ثورات الربيع العربي ، والرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه وجه منذ فترة وجيزة نصيحة للإعلام الذي يمكن توصيفه اليوم بالمارد الخارج من قمقمه الضيق ، والإعلام يحتاج إلى موضوعات رصينة ، وأصوات حكيمة ، ولغة تليق بمجتمعات تتجه نحو التنوير ، لكن الواقع الراهن لا يوحي بأن الإعلام يسير في اتجاهه الصحيح والرائق بل نجد عديدا من البرامج الفضائية والإذاعية تسعى إلى تعميق فجوة الحوار والتفاوض مع الآخر ، وهناك بالفعل قنوات فضائية بأكملها تفجر الفتنة الطائفية بين أهل الأديان ، وأخرى بين الدين الواحد وكأنها لا تعبأ برسالتها الإعلامية التنويرية .
وآخر المقومات الإنسان نفسه الذي طالما يخترع لنفسه عدوا باستمرار ، بل إنه إن لم يجد عدوا فإنه دائم البحث عنه من أجل إعلان كراهية تكمن بصدره .لكن اليوم بات من اليقين قبول فكرة الحوار مع الآخر وإيجاد سبل وطرائق مشروعة للتفاهم المشترك ، كوننا نكرس لثقافة تنبغي أن تبقى ظلا ودرعا لأبنائنا في المستقبل سيكونون بالطبع فيه قادة وزعماء .
وإذا كنا نسعى إلى تعزيز ثقافة قبول الآخر فهذا يتطلب منا كأفراد ومؤسسات وهيئات أن نشير بعدم وجود ثقافة تستلب ثقافات العالم من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا توجد ثقافة عديمة النفع أو الأهمية ، فالثقافة طرح بشري إنساني يقبل الصواب والخطأ ، ولا تستطيع ثقافة في تاريخ البشرية أن تحتكر الحقيقة المطلقة بل كل ما نراه من ثقافات متباينة هو اجتهاد عقل يتسم بالقصور لا الكمال ، ومن هنا تأتي فكرة الحوار وقبول الاختلاف كون الإنسان لا يمتلك رهانا يقينيا بواقعه .
وإذا كان المجتمع المصري اليوم يريد أن ينهض وهذا النهوض لا ولن يتحقق إلا بقبول متفاهم مع الآخر المتباين ، فشريطة هذا كله مفاده الحوار والتواصل بقواعد الحوار السليم والهادف الذي لا يعرف للإقصاء سبيلا ، ولا يفطن للاستلاب طريقا .
وكلمة الحوار ذاتها كلمة تبدو مرنة وجميلة رغم كونها في الأصل إجراء يتطلب الكثير من الممارسات والصفات الإنسانية السمحة ، وهذا يتحقق بالتعليم وحده ، هذا التعليم المتمثل في مدرسة متطورة مستنيرة تستهدف إقامة حوار بناء بين الطلاب ، وخلق فضاء للنقد المتصالح ذهنيا ونفسيا وتكوين الفكر المستقل لدى الطلاب ، وهذه الأهداف تتحقق في ظل إدارة تربوية غير تسلطية ولا تتمتع بقمع الموهبة والإبداع.
والبحث عن هوار هادف بناء يجعلنا مضطرين إلى التفتيش عن مكانة المهارات اللغوية داخل مدارسنا وفي مجتمعاتنا العربية ، ولا أعني بالمهارات القراءة والكتابة والتحدث ، بل ما أقصده هنا مهارة الاستماع ، والتي تعني الإصغاء والإدراك وتفسير الأصوات المنطوقة ، وهي بالقطع عملية عقلية يعطي فيها المستمع اهتماما خاصا وانتباها مقصودا لما تلقاه الأذن من أصوات . والمشكلة أننا لا نسمح للآخرين بحق الكلام وبذلك نقمع عادة الاستماع الإيجابي لدينا ، رغم علمنا وفطنتنا بأن الاستماع هو الذي حفظ لنا تراثنا الثقافي والاجتماعي والحضاري عبر الأجيال ، وساعد على احتفاظ كل أمة بخصائصها وعاداتها وتقاليدها . ورغم أهمية مهارة الاستماع بين مهارات اللغة فإنها لم تحظ بالاهتمام اللازم لا في مدارسنا ولا في حواراتنا .
حتى أولئك المتعصبين من أهل الفكر والرأي وربما العقيدة أيضا يحتاجون إلى مساحات واسعة من التسامح والصفاء الذهني مع أنفسهم أولا ، إذا ما قرروا أن يشاركوا في بناء الوطن ، وهذا الصفاء يتحقق في حالة واحدة فحسب هي قبول التعددية الثقافية التي ترى ثقافات متغايرة بعدسة ثالثة أكثر مرونة . وربما تظل النوبة تلك القعة الساحرة بجنوب مصر المحروسة خير دليل عالمي على التعددية الثقافية التي نرى بها كيف تتعايش الثقافات بغير تناحر أو تصارع ، بل إن النوبة وحدها والتي لست منها نسبا أو مكانا هي التي نرى بها مشروع التسامح طاقة نور وتنوير تقودنا إلى احترام الآخر، وجودا ورأيا وحقوقا.
وهذا القبول للآخر بغير تسامح لن يبقى ، ويخطئ كثيرون حينما يظنون بأن التسامح هو التنازل عن المعتقد أو الخضوع لمبدأ المساومة والتنازل. لكن  التسامح في أرقى صوره وملامحه يعني القبول بالآخر والتعامل معه على أسس العدالة والمساواة.
جميل ، حقا كل ما سبق جميل لكنه يفتقر إلى التوظيف أو الوظيفية في الممارسة ، ومن هنا نبدأ القول ، فعلى الجامعات والمدارس أن تتبنى سياسات تعليمية جديدة وممارسات تؤدي إلى قبول الآخر والتعايش الإيجابي المشترك من خلال النشاطات الطلابية ، ومن أجل تطوير التربية العربية الراهنة ، فنحن بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب التربوي نفسه ، وإيجاد إطار مرجعي يحكم الظاهرة التربوية التي تمارس في مؤسساتنا التعليمية الضاربة شرقا وغربا ، وإذا كانت الحياة اليوم تتسارع بصورة رهيبة ، فبات أولى الاكتراث بضرورة تنويع خطابنا التربوي العام مستهدفين خلق جيل جديد من الطلاب يستطيعون مواجهة تحديات المستقبل . وإذا كانت التربية الفوقية التي تصدر عن صانعي القرار التعليمي لا تعكس واقعنا المدرسي الحقيقي فغن هذا يزيد من تفاقم أزمة التربية التي تشارف نهاياتها إذا لم ندرك المفارقة القيمية بين قرار تربوي يصدر ، ومشهد تعليمي مغاير،  وعلى الإعلام بوسائطه المتعددة أن تكرس ببرامجها وحواراتها وأفلامها ومسلسلاتها لثقافة الحوار والتواصل ،وإيجاد وسائط إعلامية متطورة تنبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع.
تجربة : أمكنة الطفولة مثل عناق المطر بالشجر .