في الليسيه -لا شفاعةَ لابنةِ الوزيرْ بقلم : ابراهيم يوسف – لبنان

فن وثقافة …
إبراهيم يوسف – لبنان …

أما مدرسّ اللغة الفرنسية
الذي تعلّمتُ على يديه يا طيَّب الله مثواه..؟
فكان تمادياً في عقابنا وتزكية من الأهلِ
يصفعُنا على وجوهنا، ولا يكتفي..؟
فيستخدمُ  حينما لا تدعو الحاجة
عصاً يختارُها من شجرِ الرُمّان
عصاً بالغة العقدِ يلهبُ بها أصابعَ أيدينا
فتفقدُ الإحساسَ في البرد من شدّة الوجعِ
بينما كنتُ أنافقُ لأهلي في طفولتي
عن اهتمامي وشدّة محبّتي لمدرستي
وضغينتي المُبيَّتة
لمجدِه ورمزِه وأنا أردّدُ النشيد الوطنيّ
ولا زلتُ أنافقُ حتى اللحظة
أن لبنان بلدٌ عظيمٌ بحكّامِه..!
وإمعاناً منّي
في النفاقِ والجبن والخِسّة والتّدليس.. ويكفي
رحتُ بفعل خيبتي وإحباطي، والفساد المستشري
أستخدمُ في مؤخراتِهم “وسطى الأباخس”
بتعبيرِ أخينا من المغرب عبد الجليل لعميري
لأن في هذه الحركة طعمُ الغواية
ولم تُعَدْ مَهانةً لمن أكلوا حقّي وداسوا كرامتي
من طأطأ.. ومرتشٍ وفاسد وخائن ومن يلي
“انتهى الأمر؛ وأغلِقتْ بوابة افتحْ يا سمسم. كانت تسكنُ خلفَها أماني الأطفال الذهبيّة، وتركنُ في إحدى زواياها عربة تجرُّها أربعة خيولٍ مطهمة بيضاء. العربة مِلْكُ ساحرةٍ تحقِّقُ بضربة واحدة من عصاها مستحيلَ الأمنيات، كهدايا الميلادِ للأطفالِ من سائرِ الأشكالِ والأحجامِ والألوان، تحملُها عبرَ المدخنة إلى القلوبِ الحالمة طيلة الليل.
ببساطة تراجعتْ أحلامُ الطفولة العذبة، وتغيَّرَت أساليب التربية، فاختفى العقاب بعصا الرمان، وتبدَّلت أساليب التعليم، وألوان الكتب ورائحة الأوراق العتيقة، ولم تكتفِ كتب اليوم بالصور الجذابة فحسب؟ بل اسْتُبْدِلت صورُ الكتبِ بدمىً تتحركُ على الشاشات المُتنوّعة، تسلبُ عقولَ الأطفال وتشغلُ فكرَ الصغار والكبارِ على السواء.
أرأيتَ يا صديقي كيف صارتِ اللعبةُ أهون ألفَ مرَّة!؟ تغيَّرتْ سبلُ الحياة بفعلِ العجلة وثورةِ العصر، ونحن نركضُ وتنقطعُ أنفاسُنا من شدَّةِ العدو صوبَ سرابٍ، لا ندري  متى ينتهي وأين يحطُّ الرحال؟ وخطرتْ لي من بعضِ الجوانب، نملة شوقي وأنا أستجلي الروافد، حينما هالتْها هيبةُ المُقَطَّم يبدو مريعاً لعينيها من بعيد؛ فتسألُ نفسَها: “ليتَ شعري كيف أنجو إن هوى هذا وأسلم”.!؟ لتقعَ من هولِها في شِبْرِ ماءٍ على الطريقِ وتغرق”.
وأستاذُ التاريخ في المدرسة العلمانية الفرنسية كان قد طلبَ من تلاميذ صفِّه، تحضيرَ أنفسِهم بعد استراحةٍ قصيرة في الملعب، لاختبارٍ يجريه لهم في مادّته. والدرسُ موضوعُ الاختبار..؟ كان لا يقلُّ عن خمس عشرة صفحة، من ثلاثةِ فصولٍ في التّاريخ الفرنسي المفروض عليهم “قسرا”، وكان قد شرحَها لهم في اليوم السَّابق.
ولمّا لم يكنْ قد توَّفرَ للطلاّبِ ما يكفي من الوقت، لمطالعةِ هذه الصفحاتِ الطويلة وحفظِها..؟ فقد اتفقوا فيما بينهم خلالَ الفرصةِ القصيرةِ في الملعب، بالتّمردِ وإعلانِ العصيانِ على الأستاذ وعدم إجراءِ الاختبار. وحينما عادوا إلى الصّف..؟ طلبَ إليهم أن يحضِّرَ كلّ واحدٍ منهم، قلماً وورقة لإجراءِ الاختبار..؟ لكنَّ أحداً من الطلاب لم يتحركْ أو يستجبْ للطلب. وهكذا كرَّرَ أمرَه للمرة الثانية والثالثة، والطلاب لم يتحركوا وهم يلتزمون الصَّمت.
لكنَّ السيّد “بوڠار” وهذا اسمُه، توجَّهَ إلى العريف مسؤولِ الصّف: ليقفَ ويعلنَ عن نفسِه، ويطلعَه على دواعي وملابساتِ امتناعِهم عن إجراءِ الاختبار؟ وبوڠار هذا كانَ محارباً قديماً في الجيش الفرنسي، لا يبتسمُ للرّغيف السّاخن، فيبدو متجهِّمَ الوجهِ مُسْتَنْفَرَ الخاطر في معظم الأحوال. وهو إلى ذلك كان من المشاركين في كثيرٍ من حروبِ بلادِه، ولم يكنْ ليقولَ لطلابِه قرأتُ كذا أو سمعتُ كذا..؟ بل كانَ يقولُ لهم: هذا ما شهدتُه بنفسي في حربِ العلمين مثلا. وأن الجنود العرب يومَها ممن كانوا بإمرتي، “كانوا” من أصلب وأشدِّ المقاتلين الشجعان.
هكذا وقفَ الطالبُ عريفُ الصّف، ليشرحَ للأستاذ بأنَّ الدرسَ طويلٌ للغاية، ولم يمضِ عليه إلاّ بعضَ يومٍ وليلة لم تكنْ كافية للمراجعة وحفظِ الفصولِ الثلاثة، بالإضافةِ إلى أنّ الدرس لم يكنْ باللغة العربية ويتناول تاريخ فرنسا، ونحنُ كما قالَ الطالب ليستْ لدينا القدرة الكافية، لتجاوزِ هذه الصعوبات في يومٍ.. وليلةِ درسٍ واحدة.!
وَرَدَّ بوڠار على الطالب، بكثيرٍ من الإصرارِ والحزم، والتأكيد بأنّه برنامجُ المدرسة. ومن لم يكنْ مؤهلاً أو يجدْ في نفسَه الكفاءة لمواكبةِ البرنامجِ المُقرّر..؟ فليفتشْ عن مدرسة بديلة أهون، تراعي مستواه العلمي وتتوافرُ فيها الإمكانات التي تناسبه. وهكذا خَلُصَ الأمرُ بالطالب بعد نقاشٍ مقتَضَبٍ وقصير، ليردَّ بدورِه بتحدٍ وحزمٍ ويقولَ للأستاذ: ألا ترى معي أنّه من الظلمِ والإجحافِ بحقِّنا وعددُنا ثلاثونَ طالباً..؟ أن نفتشَ عن جملة من المدارس تتناسبُ مع أوضاعِ كلِّ واحدٍ منّا.! أليسَ من المنطق أن تفتشَ سيادتُك عن مدرسةٍ تعلِّم فيها بمفردك.!؟
هذا الجانب المضيء من ديمقراطية ڤولتير، ومعظم كتّاب الغرب ومفكريه، وهذه الحكاية التي نقلها لي شاهدٌ في الصف، زميلُ ابني أيامَ البكالوريا. تخرَّجَ معه من المدرسة إيّاها، وامتهنا اختصاصين مختلفين ولا زالا على مودَّة وتواصل. وأخبرني أن صبيَّة مزهوة بمالها وجمالها؛ كانت تثيرُ صخباً حولها أينما وُجِدَتْ، وقد أشاعتِ الفوضى مرةً وعطَّلتِ الدّرسَ في الصف، حينما طالبَها المُدَرّس أن تغادرَ حصَّته بلا نقاش، وخطرَ في بالها ولم لا!؟ أن تنتقمَ من شوقي وقمْ للمعلِّمِ..؟ لتصفعَ أستاذها بشدةٍ على وجهِه، وهي تغادرُ الصف فلا ترجعُ إليه أبدا.
غادرتِ الصفَّ وفشِلتْ سلطةُ أبيها، في إعادتها إلى المدرسة بعد محاولاتٍ متكررة، حينما اجتمعتِ الإدارةُ على عجلٍ لتتّخذَ قراراً مُلزِماً لا رجوع عنه..؟ يقضي بطردِ الفتاةِ فوراً من المدرسة، ويرفضُ مختلفَ التبريرات وأشكالِ الاعتذار، لتخرجَ ابنةُ الوزيرِ مطرودةً بلا شفاعة، وتفتشَ عن مدرسةٍ جديدة بدلا من بوڠار.
وأخبرني ونحن نلتقي في إحدى المناسبات؟ أن بوڠار المحاربُ القديم وأستاذُ التاريخ، أقامَ بعد التقاعدِ في لبنان وأنه للأسف، أنهى حياتَه ورحل عن الدنيا باختياره، حينما أقدم على انتحار لم يكنْ متوقعاً على الإطلاق.
والليسيه هذا الصرح التربويّ المجيد؟ بات في قبضة متمولين من أصحاب النّفوذ، اشتروه بمالٍ سياسي نظيف، وشهدَ جوارُه احتجاجاتٍ واسعة، لكي لا يباعَ من المالكين الجُدد، ولا يُحَوَّل إلى مركزٍ تجاريّ يتفوَّقُ على المتاجر في لندن وباريس. ولئن كان من حقِّهم أن يتصرفوا بالعقار وفق مصالحِهم؟ فمن حقِّي أيضاً اعتبار المدرسة أفضل من الحانوت. هذا باختصار بالغ يا صديقتي، فارقُ التعاطي في التربية والتعليم بين الأمسِ واليوم.