كتابة السياسة بالدموع ..غرناطة وفيروز! – بقلم : فايز رشيد

منوعات …..
د. فايز رشيد – فلسطين المحتلة ….
أن تكون في حضرة التاريخ في قصر الحمراء الغرناطي الأندلسي, ولا تبك! ذلك هو غير الطبيعي! كما يصف سبينوزا الوقائع العظيمة! أول ما ينتابك بين أطلال أعمدة المرمر الأبيض , والفسيفساء الجدرانية والمنمنات الدقيقة التصميم, المبنية وفق نظام هندسي دقيق, ووسط القبب الصامتة ,التي تغطي بهاء الأمكنة والساحات ,كما النوافير الغناءة المطلة على جنائن العريف والتي تُروى بنظام توزيع مائي ليس له مثيل … تنتابك جملة والدة ابي عبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف في الأندلس, وهو يطل حزينا باكيا على فردوسه الضائع للمرة الأخيرة, من موقع وسيط في طريقه منفيا إلى البشارات ..إبك كالنساء مُلكا لم تحافظ عليه كالرجال! في قصر الحمراء بكيتُ ,كدتُ أصيح  بملء صوتي في جموع المتفرجين, وقد جاؤوا من كل أنحاء العالم :هذا تاريخنا أيها المحترمون! لا تنظروا إلى واقعنا!كدت أصرخ في كل العرب :تعالوا وانظروا. كتمت صرخاتي في بحر دموع صامتة أرسلتها عيناي في انزواءٍ عن شريكة عمري ,وهي مأخوذة أيضا ببهاء وعظمة الأمكنة ,تلتقط مئات الصور للّحظة. لكني  سمعت صدى صراخي ,عندما صدّته جدران القصر ,الذي شهد تاريخا لا يُنسى.

ما أشبه الليلة بالبارحة ! عندما دخلت الأندلس مرحلة “دول وممالك الطوائف”! كانت الاخيرة , المقدمة الطبيعية للذوبان والانهيار والسقوط! اليوم يدخل الواقع العربي مرحلة “الدولة الطائفية” و “الدولة القطرية العربية”!على حساب  الفعل والنضال القومي العربي من المحيط إلى الخليج! هذه التي تعني باختصار: وحدة القضايا الوطنية والقومية العربية. نعم أصبحنا في زمن غير ذلك الزمن! نقولها بكل الألم: زاد الانغماس في الذاتية العربية المقيتة! أصبح كل بلد عربي يرفع شعارا: بلده أولا! دليلي عل ما أقول هو: أن  المتابع لردود الفعل العربية على ما يجري في الوطن العربي  وفي فلسطين المحتلة تحديدا … ينذهل لمدى اللا توازن بين حجم الجرائم والاعتداءات الوحشية على أمتنا , وبين ردود الفعل القومية العربية، المقتصرة على بيانات استنكار رسمي، شعبي، وأحزاب وطنية – تقدمية،إسلامية، قومية ويسارية! وصفها رابين يوما بأنها لا تستأهل الحبر الذي تكتب به.

ولأن التاريخ يلفظ الواقع! تراك مجبرا على الجنوح للغوص في تفاصيل عظمة الأول ! ليس حبا بالطبع في دفن رأسك في الرمل (مثلما تفعل النعامة) ,ولكن علَك تستمد بعض عزم وأنفاس قوة تجابه بها الواقع العربي الردىء في المرحلة الراهنة! 4 تريليون دولار من الأموال العربية مودعة ومجمدة  في الخزائن الامريكية! وسكان مناطق في السودان وغيرها من البلدان العربية يموتون جوعا في القرن الواحد والعشرين! ملياردير صهيوني امريكي واحد يموّل بناء مستعمرة باكملها في الضفة الغربية , والميارديرات العرب لا يساهمون من قريب أو بعيد,حتى في المحافظة على عروبة بيت واحد في القدس! تتغنى دولنا بالقدس ,وبانها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ولا تفعل شيئا من أجلها! رصدت القمم العربية 500 مليون دولارا سنويا للمدينة المقدسة (ذلك منذ20 سنة وما ينوف) , وبتواضع أقول وبناء على معرفتي وصلتي الدائمة  بالمشرفين على الأمر(وأحدهم الصديق عدنان الحسيني) فإن ما وصل للقدس لا يتجاوز 5% من الأموال المفترض أنها تُرصد سنويا لها!. تعرضتُ لسؤال في إحدى الندوات التي أقمتها : عن توقعاتي لو قامت إسرائيل بهدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه ,فماذا سيكون رد الفعل العربي والإسلامي؟ كان ردي يومها مُربكا, حذرا ,مطاطيا ,غير أني ذكّرت ببيت شعر(شيخ الشعر العربي بلا منازع – المتنبي) : من يهن يسهل الهوان عليه  :  وما لجرح بميت إيلام .

بالعودة إلى العبق الأندلسي ذي النكهة الخاصة : لكل مدن الاندلس ومناطقها لونه وطعمه : منطقة حي البيازين تطل عليها من قصر الحمراء, وتطل منه عليها ! تشعر بعاشقين لطالما تناجيا طويلا وما يزالان, كما يصف الروائي المبدع , العاشق الدائم   للتاريخ العربي الأندلسي, أنطونيو غالا ,الساكن في غرناطة والمثقل حاليا بأمراض كثيرة تقعده عن الكتابة,ذلك في روايته الرائعة بعنوان “المخطوط القرمزي” وقد أعدتُ قراءتها قبيل ذهابي وزوجتي في الرحلة (له رواية أخرى بعنوان الوله التركي وأخرى غيرها) ,كما الرواية الرائعة للأديبة المبدعة المرحومة رضوى عاشور بعنوان “ثلاثية غرناطة” ,والتي منذ بداية الثمانينيات خططّت للكتابة عن غرناطة كما قالت , ذلك عندما التقيناها وزوجها الشاعر الفلسطيني المعروف مريد البرغوثي ( وكان ابنهما الشاعر المبدع تميم ما يزال طفلا آنذاك ) . التقت العائلتان في بودابست عام 1984 وذهبنا في رحلات كثيرة مشتركة. حادثتُها عن طموح لي بكتابة رواية عن الاندلس ,اجابت بأن هذا الحلم مشترك بيننا. أذكر أنها سالتني عن كتابي القادم؟ بعد صدور كتابي الاول عن “حصار بيروت”عام 1982, وقالت جملة ما أزال أذكرها : يجب أن لا يتوقف الكاتب مطلقا , فبعد صدور كتاب له ,عليه التخطيط للثاني مباشرة. كلمات ما زالت ترن في أذني.من الروايات الجميلة أيضا عن قصر الحمراء, ما كتبه الدبلوماسي الأمريكي واشنطن ايرفنج تحت عنوان “حكايات قصر الحمراء”. للعلم هذا الكاتب وبعد وفاة خطيبته اعتزل الدبلوماسية واستوطن اسبانيا, وسكن في بيت حاكم غرناطة بالقرب من القصر , وهب حياته لسنوات طويلة غائصا في دراسة تاريخه, وأصدر كتابه الآنف الذكرفي القرن التاسع عشر.

في طليطلة جزء من التاريخ العربي الاندلسي. في الطريق إليها اصطحبني الصديق جمال حلاوة إلى مقهى تاريخي قديم ؟ كان مكانا للالتقاء بين الصديقين : الشاعر لوركا ,الذي اعدمه القتلة من دكتاتوريي فرانكو , والفنان سلفادور دالي وقد كانا يترددان يوميا على المقهى. أُعلمت أيضا أن بيكاسو ,الذي رسم لوحة “الجورنيكا” المشهورة في أواسط ثلاثينيات القرن الزمني الماضي ويصور فيها الدمار الذي لحق بالقرية ,التي تحمل نفس الاسم ,جرّاء القصف الهمجي الالماني لها قبيل الحرب العالمية الثانية بسنوات, وذهب ضحيته حوالي الفين من سكان القرية الجميلة الخضراء. حينها جاء بعض الضباط من قوات الاحتلال الألماني إلى بيته وسألوه: أأنت من رسم الجورنيكا ؟ فاجابهم بكلمتين اثنتين: بل أنتم. في ذات اللحظة خطر بذهني كل الدمار الفاشي الهمجي الصهيوني في وطننا الفلسطيني الجميل على مدى قرن زمني, تذكرت قرية خاتين البيلاروسية التي أحرقها النازيون واهلها في الحرب العالمية الثانية. الفاشية مدرسة واحدة , تعدد ويتعدد اصحابها في كل مراحل التاريخ ,القديم منها والحديث. تذكرت الدمار في العراق الجميل حضارة وتاريخا وواقعا, في سوريا الخضراء وفي اليمن السعيد, في السودان وليبيا والقائمة تطول! إنهم سرقوا ويسرقون مناحفنا ! دمروا ويدمرون آثارنا ليجعلوا أمتنا بلا تاريخ, بلا حضارة ,حتى نصبح بلا هوية.

في قرطبة وإشبيلية أماكن كثيرة أيضا من التاريخ العربي في الاندلس , وفي مدينة الزهراء أيضا بالقرب من الأولى ,ترى مخلفات نماذج متعددة  من القصور الاموية الدمشقية .تتعدد أسباب تشييد المدينة  . بناها عبدالحمن الثالث الملقب بالناصر على سفح جبل العروس , وهو أسود اللون,  للدفاع عن قرطبة ,واسماها على اسم جارية أحبها (وقد طلبت منه في الأساس بناء مدينة تسمى باسمها) ولما رأت الزهراء بياض المدينة ومدى جمالها , علقت قائلة : يا سيدي ,أمن المعقول ان يكون كل حُسن الزهراء في حضن زنجي؟ فأمر بإزالة الجبل الأسود!. ومن لحظات الدخول في التاريخ تصحو, يملأك الوجع والانين من مرارة الواقع : مدن وبلدان عربية يجري تدميرها مثلما أشرت , يهوّدون القدس , يسرقون صباح كل يوم أرضا فلسطينية جديدة لمشاريعهم الاستيطانية , حروب مذهبية ,طائفية وإثنية بين عربية وفي دواخل العديد من الدول العربية . الواقع يزداد انسحاقا ونحن في غفلة! بدل المجابهة, نسطّر مقالات وإشاعات عن الفنانة فيروز ,المستحيلة التكرار , تجود قريحة أحدهم بإشاعة كاذبة فتأخذ بالانتشار بين الأعراب كالنار في الهشيم ,لا يمعن احد منهم التفكير فيما يصل إليه من إشاعات !لا يُخضعها للعلم ولا للمنطق, فتراه يرددها مضيفا عليها من خيالاته! فيروز غنَت للمدن والبلدان العربية , رفضت الغناء لمطلق زعيم عربي!رغم الملايين والضغوطات التي عُرضت ومورست عليها ,فيروز لحن الأمل والجمال بكل معانيه, فيروز الحب العذري للطبيعة والإنسان بكل طهارته ونقائه,  فيروز صوت الموسيقي المنطلق من خرير مياه نبع الجبل, ومن حفيف أشجار الارز… أصبحت في عرف البعض ألعوبة وشريكة اقتصادية لرجالات حكم نظام عربي مجاور! بالله عليكم كفى هذرا! في الزمن العربي الرديء يصبح كل شيىء ممكنا! ألم ير البعض (وأقسموا على ذلك!) صورة زعيم عربي على سطح القمر؟!. ما أحلى الهرب إلى الأندلس ولو لشهر. كلمة أخيرة أقولها: من بين مشاريعي إن امتد بي العمر: كتابة رواية عن الأندلس… وهكذا تُكتب السياسة بالدموع في كثير من الأحيان