الدول العربية ومرض الرهاب من “إسرائيل”

التصنيف : دراسات (:::)
بقلم : بكر السباتين * (:::)
دراسة معمقة في مقومات بقاء ” إسرائيل”!؟
إن قرارات مجلس الأمن، وقرارات الجمعية العمومية التي صدرت بشأن الصراع العربي الصهيوني كثيرة جداً، وإحصاءها يحتاج لكثير من الوقت، والورق، إن المعاهدات والتسويات مع الكيان الإسرائيلي وعبر مسار خمسين عاماً، تؤكد أنها تخدم الكيان، من خلال الممارسة ودون النظر للفخاخ التي تتضمنها النصوص والصياغات، ونحن نشهد قراءات مبسترة وأيديولوجية ووفق الهوى والمزاج، فهذا يختار قراراً وذاك مادة أو بنداً من قرار، فلو كان هناك شرعية دولية نزيهة، أو جاء وقت أصبحت نزيهة لاختلفت النتائج.
لقد صدر قرار الجمعية العامة رقم 181 المؤرخ في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، موصياً بتقسيم فلسطين ، وإنشاء دولة صهيونية على التراب الفلسطيني ، والذي أعطى القيادة الصهيونية ضوءاً أخضراً للشروع بإقامة كيان الصهاينة الطارئ في منطقة ليست لهم، وانتزعوا فلسطين من أهلها عنوة تحت مراوغة أممية تكاد تصل حد التواطؤ الذي يتجلى في السكوت عن انتهاج الصهاينة سلوك المستهتر المستخف بكل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بفلسطين السليبة.
إذْ اتخذ مجلس الأمن ما يزيد عن المائة قرار ملزم للكيان الإسرائيلي تم تجاهله على مرأى ومسمع العالم، ومؤخراً صدرت عدة قرارات بشأن انسحاب الكيان الإسرائيلي الفوري من الأراضي الفلسطينية المحتلة وهي القرارات أرقام (1397) و(1402) و(1403) ولكنها لم تنفذ. لا بل وصل التمادي بهذا الكيان المتغطرس إلى حد العبث ببنود اتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية رغم عبثيتها! بانتهاج سياسة التسلل البطيء إلى أراضي الضفة الغربية وإقامة المستعمرات عليها.. ثم سد المنافذ على حق العودة المشروع لأصحاب الحق الأصليين (الفلسطينيون) بإقرار يهودية الدولة والتضييق على الصامدين من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر لتهجيرهم . والضرب بعرض الحائط بالموقف الدولي المتواطئ إزاء حربه الأخيرة ( الجرف الصامد) على قطاع غزة المحاصر.. ورغم سقوط أكثر من (2000 ) شهيداً و(10000) جريحاً، وتدمير آلاف المنازل؛ إلا أن وزارة الخارجية الإسرائيلية ما زالت ترفض المشاركة في أعمال اللجنة الدولية المعنية بالتحقيق في انتهاكاتٍ القوانين الإنسانية من خلال التحقق في نتائج الحرب القذرة.
فالوحش في نهاية المطاف سينهار حينما يفقد كامل طاقته! والكيان الإسرائيلي سيخضع في محصلة الأمر لهذه الحقيقة البديهية. فهو يستمد مقومات بقائه من عدة عوامل، أهمها:
1-  تلاقي المصالح الغربية في بقاء إسرائيل. إذْ يدرك الجميع في سياق انتهاك الكيان الإسرائيلي السافر لحقوق الشعب الفلسطيني بأن السبب في بقاء هذا الكيان وكأنه الثابت الوحيد في منطقة أنهكتها التغيرات، هو تلاقي مصالح الدول الكبرى ومنها أمريكا في الوطن العربي وخاصة الخليج العربي الذي يتمتع بأكبر احتياطي للبترول في العالم ما يتوجب بالنسبة لمصالح الغرب، على بقاء دور الشرطي الإسرائيلي فاعلاً، في منطقة مصابة بالرُّهاب من الصهيونية؛ ولكن إلى متى! فالجواب مرهون بمدى إدراكنا لحقيقة أن الكيان الإسرائيلي ليس ثابتاً أبدياً بل بقاؤه سيظل رهناً للأسباب الموضوعية التي تزوده بطاقة الصمود في وجه العواصف التي تتناوح على هامش الأحداث.
وخاصة أن استنفاذ الكيان الإسرائيلي لدوره كعدو للعرب بالنسبة لسياسات الدول العربية الرسمية، قد بات في طي الماضي؛ لأن بقاء هذا الكيان بات مرتبطاً بمشروع اندماجه التطبيعي مع الشعوب العربية المغبونة بسياسات دولها المنخرطة فيه، وفق تقديرات مصالحها، سواء أكانت ذلك من خلال اتفاقيات السلام المبرمة مع الكيان الإسرائيلي، والرامية في جوهرها إلى تصفية القضية الفلسطينية والتخلص من أعبائها، أو استقطاب هذا الكيان من قبل بعض الدول العربية إلى تحالفات دولية ضد بعضهم البعض. كما جرى في العدوان على غزة( الجرف الصامد) أو ما يدور في كواليس التكالب ألأممي على سوريا بذرائع متناقضة.
2-  المساعدات الأمريكية للكيان الإسرائيلي
يساهم دافعو الضرائب في الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في دفع قسم أكبر من فاتورة احتلال فلسطين.
الكيان الإسرائيلي هو أكبر مستفيد تراكمي من المساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تلقى هذا الكيان مبلغ 113,9 مليار دولار خلال الفترة 1949-2008. خصَصت واشنطن نحو 1,8 مليار دولار أمريكي سنوياً لهذا الكيان الطفَيْلي على شكل مساعدات عسكرية بعد عام 1973، ونحو 3 مليارات دولار على شكل منح سنويَة بعد عام 1985. هذه المبالغ تساوي 500 دولار أمريكي لكل مواطن إسرائيلي. وبالتأكيد تتجاوز هذه الأموال، عند حسابها مع الفائدة، التكاليف الأمنية للاحتلال. يقول (وليام بولز) من المركز الأمريكي لتبادل المعلومات ( “: (USإنه رغم أن الاقتصاد الإسرائيلي ينبغي أن يكون على حافة الانهيار، فهو مازال قائماً بشكل مصطنع، فقط لأن المساعدات الأمريكية تموَل احتلال فلسطين مباشرة.
ومن اللافت للنظر أن يتمَ تسليم جميع المساعدات الخارجية للولايات المتحدة ل(لكيان الإسرائيلي) في الشهر الأول من السنة المالية، في حين تتلقى جهات أخرى مساعداتها على أقساط.”
إن استلام الكيان الإسرائيلي لكل مساعداته الاقتصادية والعسكرية سلفاً ونقداً، مع عدم تقديم كشف حساب عن كيفية استخدام هذه الأموال، يسمح له بالحصول على مبالغ كبيرة من الفوائد على الأموال التي لم تنفق بعد.
لقد عبر (توماس ر. ستوفر) عام 2002، (المحلَل في مجال الطاقة والخبير الاقتصادي في واشنطن)، عن الموقف المعارض لهذا الدعم السخي للكيان الإسرائيلي منوهاً إلى أن “دعم الولايات المتحدة لإسرائيل قد كلف دافعي الضرائب الأميركيين حوالي 3 بليون دولار (3,000 مليار دولار أمريكي.”
وربما يكون الرهان على هذا العامل مرتبطاً بانهيار الاقتصاد الأمريكي المدرج وفق احتمالات ممكنة! في هذه الحالة على الكيان الإسرائيلي البحث عن البديل المستحيل، وقد يتحلل في بوتقة (الديمغرافية) الفلسطينية، أو يرحل.
3-  عقدة الذنب و(الهلكوست) والعداء للسامية.
لقد تغذت هذه الأسطورة المحتملة على كره الغرب لهتلر الزعيم الألماني العنصري! فالحقائق حول المذبحة متناقضة إلا أن الصهيونية العالمية استطاعت منذ عام 1942 أن تستدر عطف العالم الغربي. والذي وصل إلى حد فرض بدل تعويضي على ألمانيا نظير ما اقترفه زعيمها النازي في الحرب العالمية الثانية.. وتحول سلاح العداء للسامية الفزاعة التي ألجمت كل الأفواه الناقدة للسياسة العنصرية التي يمارسها الكيان الصهيوني المحتل على الفلسطينيين.
لكن السحر أخذ ينقلب على الساحر بعد جملة الجرائم التي انتهكها الكيان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين منذ نكبة عام 48 مروراً بنكسة عام 67.. وما حصل من جرائم بشعة بحق الإنسانية ضد الفلسطينيين في صبرا وشتيلا عام 82، كذلك قمعه للشعب الفلسطيني الأعزل خلال الانتفاضات المتعاقبة في الضفة الغربية والقطاع، وصولاً إلى العدوان الغاشم المتكرر على غزة هاشم. ناهيك عن استمرارية ذات الكيان العنصري في بناء المستعمرات وانتهاك حقوق الإنسان والتنكر للحق الفلسطيني المشروع.
من هنا بدأت الحملة العالمية على صعيد المؤسسات المدنية في فضح الممارسات الصهيونية العنصرية ومواجهة الآلة الإعلامية الصهيونية الضخمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير في الرأي العام العالمي باتجاه فرض المقاطعة على هذا الكيان المتمدد، وقد نجحت هذه الحملات في معظم الدول الأوربية وبخاصة بريطانيا التي تمنهجت مؤسساتها بمنأى عن موقف الحكومة الرسمي، نحو مقاطعة البضائع القادمة من المستوطنات في الضفة الغربية.
ويمكن إدراج التحركات الدولية القانونية الرامية إلى تقديم قادة الكيان الإسرائيلي إلى محكمة الجنايات الدولية من خلال التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية على غزة مؤخراً؛ في سياق تجريد الكيان الإسرائيلي من رداء الحمل الوديع بإظهار مخالب الذئب المتربص بالضحية.
الكيان الإسرائيلي يحاول جاهداً إخفاء قلقه من اتساع حملة مقاطعته اقتصاديا وأكاديميا لكن الجدل الداخلي يكشف عن قلقه العميق من الوضع.
فقد أطلق عدة مسئولين أبرزهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري تحذيرات من أن فشل المفاوضات قد يؤدي إلى عزل الكيان الإسرائيلي الأمر الذي سيمس اقتصاده. وتصريحات كيري هذه لاقت انتقادات من قبل مسئولين إسرائيليين بدءا ب(نتنياهو)، فاتهموه باستغلال التهديدات بالمقاطعة من أجل انتزاع تنازلات إسرائيلية في مفاوضات السلام.
لكنها انسجمت مع مواقف أكثر من مئة رجل أعمال إسرائيلي طالبوا (نتنياهو) بالحفاظ على نمو الاقتصاد الإسرائيلي واستقراره من خلال التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين في أسرع وقت ممكن.
ففي دراسة أعدها الباحث خلدون البرغوثي أصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية بتاريخ: 02/03/2014 أفاد فيها بأن وزير المالية الإسرائيلي (يائير لبيد) قال في خطاب ألقاه أمام مؤتمر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بتاريخ 29/1/2014، معلقا على تعاظم حركة مقاطعة إسرائيل في العالم:” إن عدم الشعور بتأثير المقاطعة حاليا سببه أنها عملية تدريجية.. لكن الوضع الحالي خطير جدا.. فنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يتنبه إلى بداية حملة المقاطعة التي تعرض لها”.
وتأتي تصريحات لبيد هذه، ضمن العديد من التصريحات المشابهة التي أطلقها مسئولون في الكيان الإسرائيلي وخارجه. فرئيس الدولة (شمعون بيريس) ورئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) ووزيرة العدل (تسيبي ليفني) ومسئولون في وزارة الخارجية ناقشوا موضوع المقاطعة، بل وصل الوضع إلى جدل وتبادل للاتهامات بين وزارة الخارجية الإسرائيلية التي اتهمت (ليفني) بالتحريض على مقاطعة إسرائيل، والأخيرة التي ردت بأن المُصِرِّين على مواصلة البناء الاستيطاني هم الذين يشجعون المقاطعة.
وهو اعتراف صريح بالكارثة التي ألمت بالكيان الإسرائيلي ومعرفة واقعية بالأسباب؛ لكن التجبر أصاب قادة هذا الكيان بالعمى في طريق مليء بالحفر والأشواك.
4- نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على الجيش العتيد الذي لا يقهر. وفي الحقيقة أنه منذ حرب تموز عام 2006 والكيان الإسرائيلي يعيد حساباته في هذا الشأن.. فقد تحطمت هذه النظرية في حرب لبنان وسلسلة الحروب المتعاقبة على غزة.. كان الكيان الإسرائيلي مدرك بأن إيقاع هذه النظرية على العقل العربي بدأ يتلاشى نتيجة هزيمته في كل الحروب التي خاضها بكل قوته ضد تنظيمات بسيطة كحزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية بكل أطيافها في غزة.. رغم أن الرهاب من هذه النظرية ظل متحكما بالحكومات العربية إلى الآن! لكن خطورة الموقف تجلت في الحرب الأخيرة على غزة ( الجرف الصامد)التي أثبتت بأن المقاومة قادرة على اختراق الأرض بالأنفاق لحماية مقوماتها.. فيما استطاعت تهميش جدار الفصل العنصري باختراق سماء الكيان الإسرائيلي بالصواريخ الفاعلة المحلية الصنع.
5-  التماسك المجتمعي في الكيان الإسرائيلي بين الرؤية التوراتية القائلة بأرض الميعاد، والتي تمخض عنها قرار يهودية الدولة واعتبار القدس عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي في إقليم تتحكم فيه الطوائف، والشعور القومي الإسرائيلي المتمثل بالصهيونية، والمفهوم القطري للدولة الديمقراطية الحديثة في مجتمع دولي علماني، التي تنتمي إلى دول جنوب المتوسط في إطار مشروع (بيريز) الإقليمي.
هذا التماسك أخذت تعترض طريقه سياسة الاندماج في إقليم يأخذ صبغة التنوع العرقي ما يجعل الكيان الإسرائيلي قادراً على التنفس والعيش الآمن. لكن هذا الخيار الاستراتيجي استلزم جملة من التنازلات (في الحسابات الإسرائيلية) وذلك من خلال اتفاقيات سلام منتهكة ومن ثم القبول بأقل رقعة جغرافية ممكنة للتحول إلى فكرة السيطرة الاقتصادية وربما تحويل كيانهم إلى منطقة حرة دولية منافسة!! ومنطقة ملائمة لغسيل الأموال والتجارة السوداء.
سوى أن التأقلم مع هذه التنازلات بات شبه مستحيل في ظل الصراع الديني التوراتي المتشدد في مطالبه بطرد الفلسطينيين من القدس الشريف والتقاسم المكاني والزمني في الحرم القدسي‘ وتصادم ذلك مع (براغماتية) العلمانية في إطار الدولة الديمقراطية، وواقعية تقبل الآخر وفق شروط السلام البينية لترسيخ وجود هذا الكيان.
وأخيراً.. هذه هي المقومات التي تتنفس من خلالها ما تسمى ب” إسرائيل”.. وقادتها يقيمون مستقبل بلادهم على هذا الأساس من خلال دراسات استشرافية تضع اليد على الجراح.. في حين أن معظم هذه الأسباب قائمة في سياسات الدول العربية التي يتحكم بها مرض الرهاب من الكيان الإسرائيلي الذي لا يقهر. علماً بأن هذا الكيان ليس الثابت الوحيد في معادلة التحول والتغيير (الجيوسياسي) في منطقة مهزوزة المقومات! بل هو متغير يرتبط بمدى ثقتنا بأنفسنا وتمسكنا بهويتنا العربية وتقبلنا للآخر على أساس الاحترام المتبادل..
__________________________________________________
*فلسطيني من(الأردن)
رابط المؤلف:
http://www.bakeralsabatean.com/cms/component/option,com_frontpage/Itemid,1/