طريقها خضراء رغم الخراب – بقلم : رشاد ابو شاور – الاردن

آراء حرة …..
بقلم : رشاد أبوشاور – الاردن …
كان من عادتي أن أسافر مبكرا، عندما أتوجه من عمان – العاصمة الأردنية إلى دمشق، وحيدا، أو صحبة أسرتي، أو مع أصدقاء، وأن أتوقف بسيارتي، بعد دخول الأراضي السورية ببضعة كيلومترات، على يمين الطريق في الذهاب والإياب، وغالبا قرب أجمة من أشجار تحف بالطريق، تجمله، وتمنحه بهجة وظلا وراحة تسر النظر والنفس، وتمتع بنسائم الصباح المنعشة، وقد أقضم لقيمات مع نسمات الصباح الطريّة، وسقسقات العصافير، وتأمل حركة الفلاحين وهم يقطفون ما تمنحهم الأرض التي زرعوها، واعتنوا بها…
بقيت على هذا الحال لسنوات..حتى وقع ما وقع من حرب على سورية، فانقطعت لأن طريق دمشق لم يعد أخضرا، وأشجار الطريق التي تنحني مرحبة ومظللة ومطمئنة بدأت تخفي قتلة يتربصون بالعابرين يتهددون الحياة والممتلكات…
لم يعد سهل حوران هو الذي كتب له الشاعر ابن الذيب:
عالبال بعدك يا سهل حوران
شرشف قصب ومزنّر بنيسان
وبصوت الفنان فهد بلاّن ، الحوراني ابن السويداء العريقة، العريض العميق المفعم بقوّة السهل والجبل والحياة.
لا، لم يعد سهل حوران أخضرا، والفلاحون غابوا، تواروا خشية على حياتهم، وبعضهم، وهم قلّة، ضلوا طريق الحقول، ووضعت في أيديهم بنادق تقتل..لا تقطف الخضار التي اينعوها بحدبهم، وشغفهم بارضهم، وعاشوا منها، وعيّشوا سوريين كثيرين بها، سيما الدمشقيين الذين شغفوا بخضار ينتجها سهل حوران…
تهالكت السيارة العجوز، فتخليت عنها، ومشوار البهجة الصباحي إلى الشام قُطع – ودام لسنوات عشر عجاف، وها هو في سنته الحادية عشرة- و..تحررت دمشق من الطوق حول عنقها، ونفضت حلب عنها دخان الحرب الجهنمية، وها هي تُشغّل مصانعها، وتعمّر الكثير مما خُرّب، والطريق عبر حمص وحماه استعيدت، ولكن معركة استكمال تحرير كل الأرض السورية ما زالت مستمرة، وهي تنتظر كنس الاحتلال الأمريكي الراعي للانفصاليين، والسارق للنفط والغاز السوري، وحارم السوريين من حقول قمحهم الذي كان يفيض عن حاجتهم..والاحتلال التركي لإدلب وبعض ريفها، والمجموعات الإرهابية المجلوبة والمدفوع بها لتدمير سورية، والتي رأينا كيف نقل بعضها إلى ليبيا…
نعود إلى الطريق، فبعد القضاء، شبه النهائي على الإرهاب في منطقة حوران..سُلّك الطريق، وعاد إلى مهمته: طريق للسيارات، وتنقّل الناس، وشحن الخضار إلى دمشق..بعد أن عاد الفلاحون إلى حقولهم، ورمت أيديهم بسلاح وضع فيها لتدمير بلدهم، وبدأت الأجساد تنحني على الأرض وكأنها تصلّي، غارسة..وجانية لما غرست، وأكلت مما تزرع و..وأطعمت.
ما أن دخلت السيارة الأمتار الأولى من أراضي حوران بعد ختم جوازاتنا، حتى بدأت أتمتم بتلك الأغنية التي طالما ابتهجت بالترنم بها كلم التقيت بسهل حوران، وكأنها النشيد الحُبّي للعلاقة التي تربطني به، وبفلاحي سهل حوران، فسألني مُراد السوداني: ماذا تغني؟
فأسمعته بصوتي الخشن مطلع الأغنية، فالتقطه بسمعه الرهيف، هو الشاعر المبدع، وجعل يغنيه، فاستفسر الأسير الكاتب الذي قضى عشرين عاما في الأسر عصمت منصور، ثم انتشر همسه الشجي .فصمتنا، وعصمت سيزور الشام – دمشق للمرة الأولى، فهو لم يغادر فلسطين منذ تحرر قبل سنوات، وكانت أمنيته كما عرفت منه أن تكون زيارته الأولى إلى سورية.
كنا ثلاثتنا في سيارة سورية حملتنا من الحدود، وتتجه بنا إلى دمشق تلبية لدعوة للمشاركة في ندوة حول الأحوال الراهنة- وجوهرها الثقافي- في الوطن العربي…
ثمانية أيام غنية بالمشاركة في الندوات واللقاءات الثقافية، حضرت فيها فلسطين من صباحها حتى مسائها المتأخر، وكان نجومها: حي الشيخ جراح واللد وأخواتها عكا وحيفا والناصرة ويافا..وصورايخ غزة التي أمطرت الكيان الصهيوني تلبية لاستغاثة القدس وباب العمود.
في دمشق تحضر فلسطين بكامل بهائها، ودمشق هنا تعني كل سورية التي تنهض من الخراب والدمار وتعيد البناء وتهزم كل اعدائها، ولا تتخلّى عن عروبتها وفلسطينها التي تصفها بسورية الجنوبية ..وهي كذلك في سورية الكبرى.
زيارتنا امتدت من يوم الجمعة 21أيار حتى السبت 29أيار…
في الطريق غنينا لسهل حوران الذي يعود لخضرته وفلاحيه ويفيض خيره على الشام، وسهل حوران كان في زمن الإمبراطورية الرومانية ( أهراء) روما. يعني منتج قمحها وخبزها..وما زال أهراء سورية مع منطقة الجزيرة السورية.
رأينا بقايا الخراب على جانبي طريق حوران إلى دمشق، ولكنني رأيت أن كثيرا من الخراب يعاد إعماره، وأن البيوت الجميلة الأنيقة التي كانت تجذب النظر بجمالها ووداعتها قد استعادت رونقها، وهو ما رايته في ضواحي دمشق التي قصفها القتلة المستأجرون والمدفوع بهم لتدمير كل قطر عربي شُحنوا إليه لتخريبه، لولا أن دمشق صمدت ودفعت الثمن الذي يهون أمام بقائها بتاريخها وتراثها وعراقتها وعروبتها، هي قلب العروبة النابض..كما وصفها القائد الرئيس جمال عبد الناصر.
عشت في دمشق سنوات ممتدة من الطفولة حتى الكهولة، وكلما غادرتها اشتاق لها، ففيها تكونت ثقافيا وعروبيا، وانتميت فلسطينيا، وآمنت بنهوض أمتنا العربية..وما زلت، فدمشق ستبقى قلب العروبة النابض، وبدون حمل راية فلسطين جنوبها..جنوب سورية تبقى ناقصة، لا لأن الجولان محتل..ولكن لأن فلسطين بكاملها محتلة ولأن بقاء فلسطين محتلة يهدد وجودها، وكينونتها..وهذه ثقافة سورية وشعبها العربي الأصيل.
تنويه:
دعينا من اتحاد الكتاب العرب ( سورية)، وأحطنا مع الوفد العراقي واللبناني بحفاوة من رئيس الاتحاد الدكتور محمد حوراني وأعضاء المكتب التنفيذي، ومن التقيناهم من أصدقائنا الكتاب السوريين.
في دمشق التقينا بعشرات الكتاب الفلسطينيين، وتحاورنا حول دورنا ككتاب في الدفاع عن قضيتنا، وتوحيد اتحادنا ليكون قوّة لقضيتنا وجامعا لطاقاتنا.
زرنا الموسيقار الكبير حسين نازك في بيته، وهو يعاني من متاعب صحيّة – لم تقعده عن الإبداع تلحينا، وتأليفا، والذي اشتهر فلسطينيا بأغني ( العاشقين) التي لحنها..وكتب كلمات أغانيها الشاعر الكبير أحمد دحبور الحي بما ابقى من شعر ونثر.
زرنا وكرمنا الشاعر الكبير خالد أبوخالد، بحضور عدد من الكتاب والشعراء والمخرج الكبير باسل الخطيب،وزرنا بيت الشاعر الكبير يوسف الخطيب والتقينا بالسيدة أم بادي زوجة شاعر فلسطين الكبير وبحضور ابنه السيناريست تليد.
زرنا الروائي الكبير حسن حميد في مخيّم السبينة، واستقبلتنا زوجته المثقفة وبعض افراد أسرته، وهو الذي عاد منذ وقت قريب غلى بيته الذي دمّره الإرهابيون وأحرقوا مكتبته