“الفرّاش وأبواب المدينة” قصة قصيرة بقلم : بكر السباتين

القصة …..
بقلم : بكر السباتين – الاردن ….
كان السلم المؤدي إلى مكتبي مظلماً.. فارتقيته بخطوات متثاقلة وبدني يهتز من برد يناير القارس.. “هذا باب المكتب ” بحثت عن ثقبة، أدرت فيه المفتاح، فأحدث صوتاً مألوفـاً.. دفعت الباب بانتياه.. تمزق السكون بصريره الحاد .. بلعت ريقي منزعجاً وتلمظت طعم الخيبة، والعبارات تتلعثم على طرف اللسان، بصقتها لاعناً فرّاش الشركة على سوء ائتمانه “رجعت حليمة لعادتها القديمة” فالرجل لا يتعلم من أخطائه وهو كثير الشكوى والتذمر وعبارة “فقط اسمعني يا سيدي” لا تفارق لسانه.. حتى صار التمرد من طبعه ومذاق العسل في فمه علقم.. وجهّته مراراً إلى صيانة مكتبي والعناية به جيداً ولكن دون جدوى، فالباب ما زال يُحدثُ نفسَ الصرير.. ويزيد من كآبة هذا الجو البارد..
“هل هذا تجاهل للأوامر!! أم ماذا؟ كيف يتحداني هذا الأخرق!”..
ربما هي طريقته في الاحتجاج حينما لا يعجبه شيئا .. فلا يحسن إلا التذمر والشكوى.. فهل هو من بقية أهلي حتى أسامحه كلما عزمت على طرده!
ماذا يريد هذا الفرّاش! هل يكفي أغفر له زلاته لأنه يذكرني بحال والدي الذي كان يعمل عتالاً في قاع المدينة! هل يقلل من قدري لمجرد أنني واسيته ذات يوم حينما باغته وهو يبكي فكتم سره؛ لكنني شعرت بأن همومه تحولت إلى جحيم.. فقلت له” يا عمي الحاج، حتى أنا خرجت من أسرة مسحوقة.. وبعت الكعك في الطرقات لمساعدة والدي الذي أنهكه الفقر والشقاء! ورغم ذلك اجتهدت وظفرت بمستقبل مشرق”
ليته يتعب في عمله كما كان والدي وهو يحمل أثقال الدنيا فوق ظهره الذي احدودب باكراً حتى قتلته الخيبة وتركني يتيماً في عالم الرياء الذي لا يرحم المتقاعصين..هل يريد ترقية مثلاَ !! أم زيادة لا يستحقها على راتبٍ لا يزكّيه بعمله المنقوص !؟
“وهل يستحق أمثاله غير التوبيخ والحسم على الراتب الذي يخرج من بين يديّ كالمفقود الذي لا يعوض!”
لقد اعتاد هذا الفرّاش على تلبية حاجات الموظفين لقاء ثمن، ولكن.. إن كان يتعامل مع رب عمله على هذا الأساس، فهو الاستغلال بعينه؟ أم تراه يتذمر لوطرٍ آخر في نفسه ..
البرد شديد.. فلماذا انشغل إذن بأمره وأبواب صرفه عن العمل مفتوحة ولا تزعج ضميري بشيء!؟”
في الحقيقة.. لست أدري.. فقد حيرني أمره !..
العتمة أخذت تلتهم ملامح الغرفة كأنني في قبو.. تحسستُ الجدارَ، هذا مفتاح الضوء، ضغطت عليه.. ارتجف الظلام تحت وميض الضوء المتوتر كبرق انفتح أخيراً على ملامح المكان.. زكمت أنفي رائحتي الرطوبة والغبار، وأخذت الأسئلة تفتش عن الفرّاش في ذاكرتي التي أصابها خمول ما بعد الصحوِ باكراً
“أي مجنون هذا الذي يدخل مكتبه مع صياح الديك في يناير البارد، فيصبر فوق ذلك على موظف كسول لا يأبه بالتعليمات، لست أدري!! هذا استهتار لا يسكت عنه”
فهذا المكتب مثلاً.. ألفيته في أسوأ حالٍ من الفوضى.. فالغبار على المقاعد الجلدية السود، والفوضى تعمّ مكاتب الموظفين.. فالإنسانية أحياناً في حسابات العمل مردودها سلبي.. دخلت المطبخ.. أعددت المدفأة.. علقت ركوة القهوة على النار.. وغالبت البرد بفرك يدي ببعضهما وشعرت كأنني عارياً كالإنسان الأول..
ذات صباح.. بحثت عنه في المكتب كي يقدم القهوة للضيوف وخاصة أن السكرتيرة كانت مجازة، فلم أجده؛ لكنني عالجت الموقف على مضض، مستعيناً بالمحاسب الذي قام بالواحب عن طيب خاطر.. ثم انتظرت الفرّاش طويلاً، والغضب يلتهم رأسي، ورغم ذلك نسيت أمره في غمرة مشاغلي، لولا السكرتيرة التي ذكرتني به هاتفياً، كما هو دأبها مع الموظفين حينما تريد أن تمرر إليَّ خبراً ما عنهم لتكسب بذلك ثقتي.. وعلى ذلك قمت باستدعائه بعد ساعة، فمثل أمامي طائعاً، فبدا وهو يذوب خجلاً، كأنه قطعة شوكلاتة ذوبتها شمس تموز، والعرق يتصبب من جبينه الملوّح بحرارتها، فيما عيناه تستنجدان بضميري الذي انهَكَتْهُ تجارُبُ الحياةِ القاسية، ثم استَوْضَحْتُهُ الأمرَ وقد كَظَمْتُ غَضَبِيْ.. فأجاب بتمالك:-
” يا سيّدي الحياة صعبة، فبالأمس- واللهِ- استلمتُ إنذاراً بفصلِ ولدي من المدرسة؛ بدعوى فراره المتكرِّرِ منها، تأكدتُّ اليومَ من ذلك حينما ضبطّه يبيعُ السكاكر في مُجَمَّعِ الحافلات.. أنا السبب واللهِ، فقد عودّته على ذلك، فما باليدِ حيلةٌ سوى الصبرِ، ودفعته بعد ذلك أمامي إلى المدرسة دفعاً عله يستقيم رغم أنه مجتهد في دراسته ومن…! قد لا تصدقني.. نعم من الأوائل فهو ذكي بالفطرة لكن الفقر الذي يشاغل حياتنا ويتقصدها…هذا هو عذري راجياً من سيادتكم تقديره…
حينها لم أصدق روايته، لكنني قلت له بحزم :
– الولد يسير على مركِبِ أبيه ، فلو اعتدت الاستئذان في العمل! لجاراك في ذلك.. ولكن لا بأس .. فليستقمْ مركبُكَ أولاً في عملك الذي تعتاش منه،ثم أَطمئن بعد ذلك على ولدك المُضلل.. فلا بأس.. الحلُّ عندي!!
– أدركني به يا سيدي .. !
– ستستلمه بعد دقائق ..
وأخذ يدعوا الله لي رافعاً يديه بتضرع واستجداء كي أرحمه فأقدم له يد العون بدل العقاب.
ورغم ذلك أنذرته شفوياً.. لكنني زودت عليه أعباء العمل لتعويض ما فوّت منها.
أما وقد أعاد الكرة من جديد في هذا الصباح الكئيب من أوله.. فغيره أولى بهذه الوظيفة.. سوف أوقع على كتاب فصله وانتهى الأمر..
وفجأة.. وجدته أمامي وكأنه هبط من السماء، وقد اختطف الذهول الابتسامة من فمه، وقمت بتوبيخه حتى أوشكت على طرده لفظياً.. لكنه أجاب بهدوء بعد أن استعاد زهرة النور لتضيء وجهه المربد:
– صباح الخير يا سيدي..
– صباح الزفت.. لماذا تأخرت!
– يا سيدي ما زال الوقت مبكراً، الساعة السابعة صباحاً.. والفجر لم يَنْجَلِ بعد.. فنحن في الشتاء، سيادتكم أتيتم قبل الموعد بساعة دون أن أُخطر بذلك.. فقط أمهلوني دقائق وسوف أُعِدُّ مكتبكم جيداً.. وستكون قهوتككم جاهزة.
نظرت إلى الساعة متلعثماً من شدة الحرج، ثم ربت على كتفه معتذراً:
“صباح النور.. اسعفني من فضلك بفنجان قهوة فالركوة على النار.. فهي فرصة لتجلس معي قليلاً حتى أسألك عن بعض الأمور”.
في هذه الأثناء.. تناهى إلى سمعي صوت ضربة لسيارة ما أعقبها ضجيج مفاجئ مصدره الزقاق المجاور حيث ركنت سيارتي الفارهة، فقمت متوجهاً نحو النافذة لاستطلاع الأمر.. كان أحد الفتيان يشد بياقة قميص شاب نزل لتوه من سيارته وهو يصيح في وجهه:
“أنت من صدم هذه السيارة.. انتظر حتى أبلغ صاحبها”
يا للهول.. كان يشير ببنانه إلى سيارتي!!.. وبالفعل تركت المكتب إلى حيث الحادث.. وسويت المسألة مع الشاب، حينما اكتشفت بأن الإصابة لا تحتاج إلى تصعيد وخاصة أن المتسبب استعد لتصليح الأضرار.. ولكن ما لفت انتباهي هو أن الفتى المتحمس قد غادر موقع الحادث بعد أن لخص لي تفاصيل الحادث وكان يحمل بيده علبة سكاكر ويجأر بصوته الحاد:
” سكاكر، علكة، بسكويت”
وفي يده الأخرى حزمة كتبه المدرسية وقد طُوِّقَتْ بطوق مطاطي.. بعد أن حذفني بعبارة عابرة:
“انتبه على ما أعطاك الله. يا سيدي”
فقلت له:
” يا بني لولاك لاختفى الشاب دون اكتراث.. خذ هذا الدينار مكافأة لك”
فأغضبه ذلك معقباً:
” يا سيدي الحال مستور.. وغداً حينما امتلك مثل هذه السيارة فقد أجد من ينبهني ويقطع الطريق على أبناء الحرام”
قال ذلك وسؤالي الأخير يطارده:
“وهل أنت مجتهد في دراستك”
فجاءني الرد سريعاً:
” الثاني على الصف دائماً.. ولولا تكرار غياباتي بسبب السكاكر التي أبيعها لمعاونة أبي لانتزعت الدرجة الأولى باقتدار”
وحينما ابتلعته الأزقة مختفياً عن الأنظار.. عدت أدراجي إلى المكتب.. ففاجأني الفرّاش مهزوماً فيقول والخيبة تأكل رأسه:
” يا سيدي أفضل قبول استقالتي قبل أن تطردني.!”
– يا ساتر.. فهل اقترفتَ ذنباً يسترعي ذلك ؟
– ابني خيبه الله.. قلت له اترك بيع السكاكر وانتبه لدراستك.. لكنه عنيد كأمه.. لا بأس يا سيدي.. فيبدوا أنه تسبب لكم بمشكلة.. شاهدته من النافذة وهو يجادلك بأمر لم أفهم تفاصيله.. لا بأس..
– إذن هذا هو ابنك الذي كان يحرج موقفك معي دائما! لا بأس.. سيصلك ردي الذي تستحقه بعد مجيء السكرتيرة.. ولكن أكمل عملك ثم أحضر قهوتي الآن..
بعد قريب الساعة كانت السكرتيرة تسأل الفرّاش:
” ما سر هذا الانقلاب الذي حدث بشأنك من قبل المدير العام!”
– إنها لعبة الأقدار، مجرد شيء حدث معي قبل الدوام بساعة.. أكيد هذا كتاب فصلي!
لا بل زيادة على راتبك نظراً لظروف خاصة!
– ماذا!
ثم أكملت هامسة في أذنه باهتمام:
– أَدْخِلْ عليه فنجان قهوته ثم اشكره ، واحمد الله أنه صبر عليك حتى الآن.
بعد دقائق كان الفرّاش ماثلاً أمامي كأنه خارج من غيبوبة استلبت حواسه، وبدأ يشكرني متمنياً لي الخير والنماء، فقلت له:
“هذه الزيادة يستحقها ابنك الكادح الذي يذكرني بطفولتي؛ ولكن إذا سمعت بأنه يبيع السكاكر أثناء الدراسة من جديد، فسوف أعرضك للعقاب الشديد فالحجة باتت عليك.. عليه أن يظفر بالدرجة الأولى وسيقود سفينتكم إلى بر الأمان.. لا بل سيمتلك أفضل من سيارتي!
ترقرقت دموع الفرح في عينيّ الفرّاش، وخرج من مكتبي مرتبكاً كأنه فاز بجائزة قيمة.. وكان يبتهل إلى الله بالدعاء لي ولوالدي، أثناء ذلك طلبت منه السكرتيرة التكتم على الأمر..
ثم تخيلته وابنه يلتقيان على بشارة هذه الزيادة، فيقول له ابنه:
” لماذا تلمني يا أبي! ألم تقل لي بأن مديركم كان وهو على مقاعد الدراسة يبيع الكعك في طرقات المدينة!”
وقد تعلمت في صغري بأن من يطرق أبواب المدينة بصوته كل صباح ستفتح له أبوابها.
28 ديسمبر 2020