أرملةٌ على حافة الإنتظار – بقلم : د . سمير ايوب

فضاءات عربية ….
بقلم : د . سمير ايوب – الاردن …
في الطِّيبَةِ تُشبه جدتي لأبي . وقارَبَتْ في العمر عمتي الحجه فاطمة . وتشبه أمي في الجَمال . زرافةٌ محتشمةٌ ، تُناوِشُ الستين من عمرها . بصماتُ النُّبْلِ في جمالها طبيعيةٌ. لم يتدخل في ترميم ما خلق الرحمن ، شئٌ من النفخ والشد ، أوالملونات ، المبيضات ،التنميض ، التخبيص ،الأقنعة ،البواريك . ولا يلوث اناقتها شئ من تكاذب الأعمار .
بعد إغتيال الصهاينة  لشابين من أهلي في سفارتهم بعمان ، عصر يوم الاحد 23/7/2017، إلتقيتها في اعتصام ضد القتلة . يطرِّزُ صدرها رسمٌ ، لشاب وسيم صبيح الوجه مليح القد . إقتربتُ منها أكثر، سائلا وأنا أشير إليه ، أهو شهيدٌ من شهداء السفارة ؟
قالت : لا ، ولكنه ….
تمهلَتْ وهي ترفع رأسها إلى السماء مُتمتمة ، قبل أن أسمعها تُكْمِلُ ، في شئ من فخر حزين : إنه بالنسبةِ لي على ألأقل ، بنفس الأهمية . لهُ في دواخلي سهوبٌ جميلة ، لم تكتمل أحلامُها .
بقيتُ مُنصِتا دون أن أتابع أسئلتي . وملامحُ وجهي تشي بفضولٍ ، يتمنى عليها أن تُكمِل . إبْتَسَمَتْ وقد فَهِمَت صمتي وقسمات وجهي ، فقالت ونحن نتمشى جيئة وذهابا ، قريبا من حشد المُعتصمين :
في لحظة إبتلاء ولا أقسى ، فقدتُ أسرتي ، زوجي وإبنتي الوحيدة ووالديَّ ، دفعة واحدة مع العشرات من بني قومي . في حادثِ إغتيالٍ آثم ، إقترفَتْه طائراتُ الصهاينة ، يوم الرابع من شهر آب عام 1968، حين قَصَفت مدينة السلط ومغاريبها . إثرها تعثرتُ حياتي . يأست ، وفقدت شهيتي للفرح . أغلقت قلبي بعد أن غادرتني ألمعاني الجميلة للأحلام .
قبل عشرين عاما ، كنت أقود تلامذتي في رحلة إلى صرح شهداء ملحمة الكرامة في غور الأردن . إلتقيته أول مرة هناك ، على ضفاف الكرامة . تعثرتُ به على أولى عتبات الصرح . أمسك بيدي ، أنهضني قبل أن أكمل سقوطي . وطيَّبَ خاطري . لحظتها إبتدأ اللقاء ، باللباقة والسمع والنظر ، فتولد ألإستحسان . بعد شهر نبَتَ للإستحسان ريشُ مودة ، حين دعاني للغداء معه في مطعمٍ بسيط ، في مدينة الشونة الشمالية حيث عمله . فهو مهندس زراعي من كبار المستثمرين في البيوت الدفيئة هناك . بعد الغداء ونحن نجوب سيرا على الأقدام ، أرجاء واحدة من مزارعه ، حدثني بوجع قائلا : أنه من قرى مغاريبِ إربد ، عروسِ شمال الآردن . فقد زوجته وولدية ، أوائل كانون ألأول 1968، في ما بات يُعرف بمجزرة كفر أسد ، ألتي إقترفها الصهاينة بغارات طيرانهم على شمال الأردن .
أدمعتْ عيناي وأجهشتُ في البكاء . توقف عن المسير مُندهشا مُتسائلا عما بي . توقفتُ على بعد خطواتٍ منه ، وأنا أقول : نحن ، أنت وأنا ، ضحايا العدو نفسه . فَمَن قتل أحبتك  ، كان قبل أشهر قد إغتال أسرتي . وحدثته عن مجزرة السلط . أمسك بيدي وأكملنا التجوال . ومع العصر ، ركبت سيارتي وعدت إلى بيتي في عمان.
بعد أسبوع دعوته إلى العشاء معي في ضواحي عمان . متجردا من أنانيته ومن غرضية الصيد في عُكارةِ حزني جاء ، وامتص بإنصاته الكثير من وجعي . وإكتسى عُودُ المودة محبة . إمتلأتُ به هوى ، وتضخمتُ به عشقا . بفيضِ طاقته ألإيجابية  ، صرتُ أفضل وأجمل وأرقى . علمني لغات إرتقت بِعشقنا إلى زواجٍ دام خمس سنين ، زلزل بها روحي ، وأنبت التقدير اللائق به . قبل أن يرحل في حادث سيرٍ مريع .
مسَّ صميمَ شخصيتي وجوهرها . إعتبرَني وديعةً تليقُ به . إستدرجني بهدوءٍ بعيداً عن وِحْدتي وحوافها السلبية . أحاطني بدفءٍ مشترك آمِنٍ مُهذبٍ ، يليق بنا معا . فوَلَدتُ معه من جديد .
منذ أن رحل وقد سكَنني ، لا أجد كلما إشتقت له ، إلا أن أطرز وجهي بمشروع إبتسامة ، كانت بسحرها تُضئُ وقتنا  . البسمة يا شيخي ، تَهَبَني إياه من جديد . كلما داهمني يأسٌ مُشاغب .
بَقيتُ صامتا ، منصتا لحديث الروح ، وهي تُكمل برضا : أحرص على أن أُبقيهٍ حيا في كل مفردات الخير المباشر . حوَّلْتُ عباءاته سجاجيدَ صلاة . أنفق ما أورثني من أموالٍ طائلة ، كفالات لأيتام قُصَّرٍ ، وغذاء ودواء لمحتاجين في بيوت المسنين ، وكتبا وأثاثا وماء سلسبيلا أوزعها على حضانات ألأطفال ، وتسديدا لديون فقراء القرى ، وتزويدَ مختبرات مدارس الأقل حظا بما يلزمها من أدوات ومعدات ومواد مخبرية .
غادرنا موقع الإعتصام وهي ما تزال تردد : أسألُ الرحمن الرحيم لزوجي ، مغفرةً واسعةً وجناتِ المتقين . لقد كان وحده بِكِفَّةٍ ، وَالدُّنْيَا بِكُلِّ مَنْ عَلَيْهَا بِكِفَّةٍ أُخْرَى . وَأُلَانَ وهُو خَارِجَ الكِفَّتَيْنِ، بيقينِ ما عرفتُ عنه ومنه ، بِثقةٍ أُزَكيه لله سبحانه .
قلتُ وأنا أرى لؤلؤةً تُشبهُ الدمعَ تتدحرجُ على صفحةِ وجهها المبتسم: يرحمه الله يا سيدتي . هنيئا لكما ما مضى ، وماهو عند رب العالمين .