سياسة واخبار (:::)
بقلم : جيمس زغبي – واشنطن (:::)
نشاهد الآن العنف يتفشى في القدس، وهناك أعمال قتل وهجمات تفضي إلى الموت في إسرائيل وأماكن أخرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن تبقى القدس هي بؤرة الأحداث التي تشهد أعمال العنف. وهذه المأساة محوطة بحقيقة أن معظم المحللين والقادة السياسيين في الولايات المتحدة يجانبهم الصواب تماماً في تقديراتهم المفرطة في التبسيط أو قِصر النظر، وفي بعض الأحيان المتعصبة، إزاء ما يحدث هناك وخلفياته وأسبابه.
وعلى سبيل المثال، يقول «جيفري جولدبيرج» الكاتب في دورية «ذي أتلانتيك» إن العنف سببه جنون الاضطهاد الفلسطيني، ورفض الإقرار «بالحقوق القومية والدينية» لليهود، وأما «بيرت ستيفنز»، الذي يكتب في «وول ستريت جورنال»، فيتهم الفلسطينيين بـ«التعطش للدماء»! ومن جانبهم، يتبارى أعضاء الكونجرس لمعرفة من منهم يستطيع أن يصدر أشد الإدانات وأقصاها بحق السلطة الفلسطينية بسبب «التحريض» أو عدم فعل ما يكفي للسيطرة على الأوضاع.
وفي الواقع، إن جذور العنف في القدس أعمق وأكثر تعقيداً من كل تلك المزاعم، فعلى مدار عقود، ظلت إسرائيل تمارس خنقاً ممنهجاً للقدس الشرقية برفضها منح الفلسطينيين الحرية والكرامة والأمل، مع كل ما لذلك من تأثيرات سلبية مدمرة. وقبل أن تعزل القدس عن بقية الضفة الغربية في عام 1994، كانت المدينة تمثل شرياناً لحياة الفلسطينيين. ولم تكن مهمة فقط بسبب دورها الديني، وإنما كان كل المؤسسات الفلسطينية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والطبية والخدمية الكبرى موجودة في القدس.
فالقدس قلب فلسطين، وكان تدفق دائماً الناس منها وإليها بمثابة تدفق الدم من القلب وإليه. وكانت حياة الناس والشركات والمؤسسات في القدس نشطة من خلال حركة الأشخاص الذين يدخلون من الضفة الغربية يومياً للعمل أو التسوق أو الزيارة أو الاستفادة من الخدمات التي تقدمها، وفي المقابل كان الفلسطينيون من بقية الضفة الغربية الأخرى يستفيدون مما كانت المدينة تقدمه. ومن ثم كان الشعور بالتأثير الخانق لإغلاق المدينة فورياً، وقد أصبح من الصعب بل والمهين المرور عبر نقاط التفتيش لدخول القدس، إلى درجة أن الناس توقفوا عن المحاولة، وصاحبت ذلك أوامر إسرائيلية تطالب المؤسسات الفلسطينية بمغادرة المدينة والانتقال إلى رام الله.
ولم تتوقف إسرائيل عند حد الإغلاق والمحاصرة، وإنما كثفت أيضاً الصعوبات التي تواجه السكان العرب في المدينة. وأُجبر الفلسطينيون الذين لم يتمكنوا من إيجاد فرصة عمل في القدس على البحث عن مكان آخر للعمل، ولكن عندما يجد الإسرائيليون أن المواطن الفلسطيني لا يعيش بصفة دائمة في المدينة، يلغون إقامته مباشرة، ويرفضون عودته إلى القدس، وقد تم إصدار أكثر من 14 ألف إلغاء إقامة بالفعل لذلك السبب.
وخلال العقود القليلة الماضية، صادرت إسرائيل أيضاً أكثر من ثلث الأراضي الفلسطينية حول القدس لبناء مستوطنات لليهود فقط، وشبكة طرق سريعة تصلها بإسرائيل، ويعيش في هذه المستوطنات في الوقت الراهن أكثر من مئتي ألف مستوطن يهودي، وفي الوقت ذاته، رفضت السلطات الإسرائيلية في القدس منح أي تصاريح بناء للفلسطينيين، وهو ما اضطرهم إلى بناء منازل جديدة من دون تصاريح لاستيعاب أعدادهم المتزايدة. وأصدر الإسرائيليون أوامر إزالة – عمداً – ضد المنازل التي يعتبرونها «غير قانونية». وتم إصدار آلاف من هذه الأوامر، وخلال العقد الماضي وحده، أصبح أكثر من ألفي فلسطيني بلا مأوى في القدس بسبب عمليات الهدم.
ومما يزيد من تعقيد هذه الأوضاع محاولات الجماعات الإسرائيلية المتطرفة، بمساندة «الجمعيات اليهودية الأميركية»، مصادرة المنازل والممتلكات في قلب الأحياء العربية القديمة في القدس والمدينة القديمة لشغلها بمستوطنين متطرفين. وكثيراً ما تحدث عمليات المصادرة هذه تحت جنح الليل وحماية الجيش الإسرائيلي. وخلال السنوات الأخيرة، استوطن أكثر من 2000 متعصب هذه المشاريع الاستفزازية. ولأنها تقع في قلب الأحياء العربية، وتحرسها القوات الإسرائيلية، أسفرت عن تعطيل كارثي لحياة الفلسطينيين اليومية.
ويمكن ملاحظة التأثيرات النفسية والمادية المصاحبة لذلك على الفلسطينيين في القدس الشرقية، فسكان القدس أصبحوا فقراء، ويعيش ثلاثة أرباعهم في الوقت الراهن تحت خط الفقر، وبلغت معدلات البطالة زهاء 40 في المئة، إذ لا يستطيع معظم الفلسطينيين من القدس الشرقية الحصول سوى على وظائف متدنية في الضفة الغربية. ويواجه الشباب الفلسطيني المتعلم الاختيار بين القبول بعمل كنادل أو سائق تاكسي أو التخلي عن إقامته في القدس للحصول على فرصة عمل خارج فلسطين.
ويرى الشباب الفلسطينيون آباءهم في حالة من اليأس ويعرفون أن مستقبلهم -في أحسن الأحوال- يخلو من الوعد بحياة أفضل، ومهّد كل ذلك الساحة لتفشي العنف، الذي يحدث الآن في القدس.
وأما «ستيفنز» و«جولدبيرج» وأمثالهم في أميركا فلا يرون سوى الضحايا الإسرائيليين، ويحصرون تركيزهم على حوادث الطعن والشباب الذين يلقون الحجارة ويلومونهم. ولكن هناك قصة أعمق هي أن هؤلاء الشباب هم أنفسهم ضحايا عقود من القمع وغياب الأمل، وإلى أن يفهموا أن حياة هؤلاء الفلسطينيين مهمة أيضاً، ويتم اتخاذ خطوات ملموسة لمنحهم الحرية والفرصة والأمل، ستستمر المأساة