فن وثقافة (:::)
عدنان الروسان – الاردن (:::)
كالمتاهة الصينية هي دروب الحياة ، نبقى ندور بين زواياها و تعرجاتها و ننظر إلى انعكاسات وجوهنا في المرايا التي نصدفها في حواري تلك المتاهة دون أن نلحظ كم حفر الزمن من أخاديد و متغيرات على وجوهنا ، نظن أو هكذا نريد أننا مازلنا كما كنا قبل عشرين عاما و ثلاثين عاما و ربما أربعين عاما ، مانزال نظن أن بمقدورنا أن نقفز عن ” حيط ” مدرسة محمد بن القاسم الإعدادية أو مدرسة الزرقاء الثانوية و ” نفل ” من الحصتين الأخيرتين اللتين غالبا ما تكونا ثقيلتين و باهتتين و يكون الأساتذة مرهقين من سماجاتنا و تعليقاتنا و ربما مللنا الذي يصيبهم بالإحباط.
اتصل بي و بدا حديثه ب ” ولك ” و حيث أنني لا أسمح عادة لأحد أن يناديني بذلك الضمير الأردني المنفصل و المتصل نستعمله حسبما نريد و حيث يأتي موقعه من الجملة و الذي تقديره ” هيي أنت ” و حيث أن لا أحد يستعمل بين طبقتنا نحن المثقفين أو أنصاف المثقفين هذا الضمير الذي يختزل عادة معنى من معاني رفع الكلفة الكبير الذي يصل إلى حد الإهانة أحيانا ، و صمتت هنيهة لأتعرف على الصوت و قد وجدته في ذاكرة الأيام المخزنة في دماغي ، إنه علي ، أحد أصدقاء الصبا و أيام الجامعة التي كنا نقضي الأيام فيها بلا هموم ولا مسؤوليات و أحيانا بلا حتى تأدية واجبات الدراسة ، كنا نعيش على وقع أحلام المستقبل سنصبح أطباء أو مهندسين أو مخترعين و كنا نقضي فترات طويلة نعاكس البنات في الجامعة أيضا ” الله يكفيكوا شر أردني لا تغرب ” غير أن هذا لم يشغلنا أن نشارك أو نؤسس اتحادات طلابية و معسكرات صيفية وطنية و قومية و دينية و أن نحاضر بين البعض في الأخلاق ، البعض كان يشرب الخمر حتى يرتوي و البعض بقي صامدا بلا سكر و البعض تزوج من إيطالية والبعض من عربية والبعض كتب على ظهره ” هذا جناه أبي علي و ما جنيت على أحد ” .
الصوت كان لعلي ، و قد مرت سنون طويلة دون أن نلتقي أو نتحدث على الهاتف حتى ، فالدنيا تأخذك حيث تريد هي و ليس حيث تريد أنت ، و أخذتني الدنيا إلى عالم الأعمال أو البزنس و إلى دنيا السياسة والصحافة والكتابة ، و أخذت عليا إلى عالم الطب ن قال أتذكر أنك استعرت دراجتي الهوائية أيام الجامعة و أعدتها لي و بدل أن تشكرني قلت لي بعد أن رميتها على الرصيف ” خذ بسكليتك كل شي فيه بزمر ماعدا الزامور خربان ” و قهقه طويلا بعد أن ضمن الضحكة سعلتين مفتعلتين بقيتا معه منذ ذلك الزمن فهذه طريقته في الضحك ، المهم تحدثنا و قال يجب أن نلتقي ، قلت نلتقي ” ولك أنا مشتاقلك ” و كأنما لأرد له كلمة ولك ، و قررنا أن نلتقي مساء و ذهبت إلى بيت عمر أخو علي الذي أعرفه أيضا لأجد عرابي المغربي و عبد الفتاح وريكات و كليهما من أصدقاء ذلك الزمن الغابر… يا الله كيف يمر العمر و كيف تتوارى السنون سريعا و كسف ” تغمض عين و تفتح أخرى ” و إذا بالبنات اللواتي كنت تعاكسهن يخاطبنك بكلمة عمو مسبوقة للحديث و تشعر بخنجر ينغرس في قلبك ، إذن لقد أمسيت ” عمو ” أي يا عماه ، ثم شاب أخر يتوقف و يسألك ” حجي هل تعرف شارع الجاردنز ” و تنسى الجاردنز و تفكر بكلمة حجي ، إذن لقد صرت حجي و عمو و ياختيار و يبدأ العدو سريعا إلى المرآة والى الحلاق كي نصبغ ما تبقى من شعورنا عله يحسن شعورنا و نتأنق في ملابسنا و نتعطر و نعتني بمظهرنا و لكن ” لا يصلح العطار ما أفسد الدهر ” ، لقد دخلنا في أسواق الآخرة و ويل لمن دخل سوقا ولم يعرف أشراطها وأسعارها ، إذا لكان من الخاسرين لا محالة .
كانت أمسية رائعة قضيتها مع بعض أصدقاء الجامعة ، حزنت لمرض بعض الأصدقاء ، لم أحزن كثيرا أن معظمهم أوكلهم ” صلعان ” بل سرني ذلك كثيرا لأنني وجدت نفسي محظوظا بعشري الكثيف نسبيا و الذي ما يزال يغطي رأسي و تناسيت أن شعري صار أبيضا و لم يعد بذلك السواد الذي كانه يوما ، رغم أن أصدقائي يزعمون أن الأذكياء فقط هم الذين يخسرون شعرهم و أن من كان مثلي يعني أنه ليس من الأذكياء و فضلت أن أكون اقل ذكاء و أكثر شعرا على فروة رأسي.
لعلي أمتعت البعض من القراء في سرد صفحة من يوميات شاب أصبح كهلا ، والله بالمناسبة العنوان جيد لكتاب و لو أن ناشرا يعدني بنشر كتاب بهذا لعنوان ” شاب أصبح كهلا ” لربما تمكنت من تأليفه في أشهر قليلة ، المهم أنني شعرت بكثير من المشاعر الغريبة عندما التقيت أصدقائي القدامى ، كانت المشاعر متناقضة و متنافرة كمشروب مكون من أشياء كثيرة مر و يعجبك ، حلو و ينعشك ، يروي ظمأك و يزيدك ظمأ أحيانا ، تحبه و تكرهه ، فأنت تسأل عن بعض الأصدقاء فيصدمك الجواب لقد مات مسكين ، إذا لقد دخلنا في قائمة الدور و صرنا على لائحة الانتظار ، يا ألله ما أجمل ذلك الزمن ، ليت أبنائنا يشعرون بقيمة الوقت ، لم يصدق الأوروبيون و الأمريكيون كما صدقوا حينما قالوا في مثلهم الدارج “Time is Money ” غير أن ما ورد في تراثنا العظيم أكثر تأثيرا ووقعا على النفس ، فقد ورد عن حسن البصري أنه قال ” ما من يوم ينشق فجره إلا و ينادي ، يا أبن آدم أنا خلق جديد و على عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ” ، و في بعض النصوص حديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل هذا المعنى ة مختلف في النص و لم أورده لأنني لست متأكدا من صحته .
سررت بلقاء بعض أصدقاء الجامعة أيام كنا بلا مسؤوليات ولا مشاغل سوى التفكير في مستقبلنا ، و لم نكن ندري أن المستقبل مليء بما هو ممتليء به اليوم من قتل و ذبح ، و مليء بضياع فلسطين و تدمير غزة و حصارها ، و لم نكن ندري أن المستقبل سنجد في ” عمو ” و حجي و ياختيار و قد أخذنا الزمن على حين غرة فلا يأخذنكم .
شكرا علي ، شكرا عراب شكرا عبد شكرا دريد و عمر و كل الأصدقاء الذين أججوا في نفسي بعض المشاعر التي دفعتني لكتابة ما تقرؤون ، و على كل حال ” مالدنيا إلا كرجل استظل بظل شجرة ثم مشى ” .
adnanrusan@yahoo.com