الجريمة ….
بقلم : علاء الدين صادق الأعرجي – نيويورك … – محام/ باحث /كاتب عراقي
ملاحظة مهمة: أرجو أن أستميح القارئ عذراً ، لأنني لم أدخل فيما قيل ويقال عن خلفيات الحادث وكونه مفتعلاً أو مدبراً من جهات معادية للعرب والمسلمين، وهذا أمر ممكن ويستحق التحقيق . فأنا أصف فقط. كما أرجو ألا يـُفسر بعص ما جاء فيه وكأنه تعاطف مع ” الآخر” وضد” الأنا”. وأرى ، مع زوجتي، أن الحروب التي جرت والدماء البريئة التي أرهقت، لاسيما بعد الحادث ، يجب شجبها بشدة ، بل يجب رقع دعاوى جنائية ضد مقترفيها ، سواء كانوا أفرادً ا أو حكومات.
الصباح الذي غير وجه العالم.
في صباح ذلك اليوم المشرق الجميل، كنت، أتـناول الإفطار، في الحديقة الخلفية الصغيرة، المُطلــَّة على نهر الهدسن العريض، مع زوجتي التي استيقظتْ في وقت مبكر، على غير عادتها( قبل الثامنة صباحاً). وفي الضفة الثانية للنهر، تنتصب أمامنا نيويورك، مدينة المال والآمال، والأعمال والجَمال، بكل عظمتها وبهائها: غابة هائلة من ناطحات السحاب الجبّارة، تـتحدى العلاء والفضاء، تـتوسطها ثلاثة من أهم الصروح في العالم، هما برجا “مركز التجارة العالمي( 110 طوابق) وإمباير ستيت، (102 من الطوابق).
وبينما كنت أحتسي قهوتي المفضلة، وبعد أن قمت بواجب إطراء طعام الآفطار الذي قامت زوجتي بإعداده، قلت لها، مُداعباً ومعاكِساً نومها الصباحي الطويل المعتاد :” هل لاحظت ِ، يا حبيبتي، أن الطوابق العليا من برجي “مركز التجارة العالمي”، أولُ من يستقبل طلائع الفجر الرائعة، حين تُتوجها خيوط الأنوار الملونة، بألوان قوس قزح الرائقة، فتشتعل قِمَمِها العالية، متألقة في الصباح الباكر!!؟”. فـَهـِمَـتْ زوجتي الدُعابة وأدركتْ النقد الـمـُـبطّن، فأجابت، بابتسامة مُـتحدية :” أترك لك مُـتعة مراقبة “نجوم الصباح” ثم “خيوط أنوار الفجر”، التي تعانق ناطحات سحاب نيويورك، وتـُشعل قممها السامقة، مقابل أن تتركني محتفظة باللقب العربي الجميل، الذي أطلقـْـته عَليّ ، بسبب كسلي الصباحي اللذيذ، وهو ” نوم الدوحا” تقصد “نـؤوم الضحى”(قالتها بعربية متكسرة ومُحَبَــبَة)، وهو اللقب الذي قلتَ لي أنه يطلق على الأميرات العربيات المـُترفات، اللواتي اعتدن النوم المتأخر حتى الضحى”، كما يقول شاعركم الكبير “أمرو كيس”، تقصد أمرؤ القيس، والله أعلم.
وما كادت تنهي عبارتها تلك، حتى سمعنا دويا هائلاً يشبه الرعد البعيد. هبتْ زوجتي من مقعدها مذعورة ، وصرختْ قائلة: “يا إلهي، ماذا أرى! ها هو برج المركز التجاري العالمي يشتعل فعلا ً كما يُعجبك أن تراه ” . التـفتُّ إلى الجهة التي أخذت تشير إليها زوجتي، بيدها المرتعشة بشدة. رأيت أحد الأبراج يشتعل فعلاً والدخان الأسود يتصاعد بكثافة. وفي هذه اللحظة كانت زوجتي قد انطلقت بسرعة إلى الداخل وفتحت جهاز التلفزيون.
المذيع يعلن بتوتر عن خبر عاجل: اصطدام طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالمي “وسنوافيكم بالتفصيلات فور ورودها “. أقفزُ عائدا إلى الحديقة لأراقب البرج المشتعل، وسحابة الدخان الأسود ترتفع وتحجب الطوابق العليا. ثم أعود أدراجي إلى الداخل لأستمع إلى المذيع يقول :” يبدو إنها طائرة ركاب كبيرة أصابت الطوابق العليا(من 94 إلى 98 )من البرج الشمالي “. ( علمنا فيما بعد أنها كانت طائرة أميركان أيرلاين، الرحلة 11، من مطار بوسطن إلى لوس أنجلس، وكانت محمّلة بـ 24000 غالون من الوقود سريع الاشتعال، حدث ذلك في تمام الساعة الثامنة و46 دقيقة من صباح ذلك اليوم المشهود والمشؤوم ).
تعود زوجتي لاهثة ومضطربة، ودموعها تتساقط بغزارة، وتسلمني منظاري المقرِب بيد مرتجفة.
أصبح المنظر واضحاً، إذ رأيت الطوابق العليا من مبنى البرج الشمالي تحترق. قـدَّرت أن عدد الضحايا سيكون كبيراً، بمن فيهم ركاب الطائرة وعشرات الموظفين، بكل أسف وحزن.(قــُدِّر عدد ضحايا الصدمة الأولى فيما بعد بـ 1344).
قلت لزوجتي، بعد أن تركتُ لها الـمنظار: “إنه حادث غريب، أن تصطدم طائرة ركاب كبيرة في البرج بطريق الخطأ أو الصدفة ، فهناك مسار محدد للطائرات عادة، لاسيما طائرات الركاب، إذ يحظر عليها الطيران فوق مدينة نيويورك”.
تختفي زوجتي مرة أخرى وتعود حاملة جهاز راديو محمول. راح المذيع يعلن نفس الخبر، ويقول إن مندوبهم في طريقه إلى مكان الحادث لينقل الأخبار على الهواء فور وقوعها.
اصطدام الطائرة الثانية
أراقب المشهد بالمنظار، فألاحظ طائرة كبيرة أخرى تحوم قريبا من البرجين. قلت لزوجتي” ربما تكون طائرة استطلاع أو إطفاء أو إنقاذ”. وعبّرت عن إعجابي بسرعة استجابة الأمن العام الأمريكي الساهر والجاهز لكل طارئ. ولكنني هتفت فجأة وبانفعال:” يا إلهي!! إن هذا مستحيل، لأن الطائرة العمودية هي المعنية بهذه العمليات عادة، تـُرى أين تقصد هذه الطائرة الأخرى؟”. وبينما كنت أمر بهذه الأفكار اللحظية، وما أن انتهيت من هذا السؤال، حتى أجابتني الطائرة فوراً، حين اصطدمت بالبرج الجنوبي السليم.( طائرة يونايتيد إيرلاين، الرحلة 175 من بوسطن إلى سان فرانسيسكو، محمَّلة بنفس الكمية من الوقود تقريبا. الساعة التاسعة وثلاث دقائق).
كـُرة ٌ نار هائلة تـتـفجر من الثلث الأعلى لهذا الصرح العظيم. نظرتُ إلى ساعتي فكانت تتجاوز التاسعة قليلا. أي بعد ربع ساعة من إصابة البرج الأول تقريبا. زوجتي تهتف وهي تجهش بالبكاء: “يا ربي، هذا فضيع، ثمة شيءٌ مخيفٌ يحدثُ!!”.
ذهني مشوش، لحظيّ الحركة العاصفة، يستنتج ربما بعد لحظات، فيقفز فورا إلى الحقيقة الـمُرّة : أهتف قائلا لزوجتي:”هجوم انتحاري مُبـَيـَّتٌ ودقيق . تـُرى ماذا يمكن أن نتوقع أكثر من ذلك ربما في أماكن أخرى، تُرى هل هي بداية هجوم كاسح ؟
تمثّـَلتُ في هذه اللحظة فقط، مئات الناس الأبرياء، الذين قضوا في هذه المحرقة الكبيرة، والآخرين الذين ينتظرون حتفهم بأمل قليل أو بمحاولات يائسة للنجاة، وهم محاصرون بالنيران المشتعلة، في الطوابق العليا وربما السفلى.
كان الوقت يمر بسرعة والأخبار تتوالى: “إن أمريكا تتعرض لهجوم كاسح”، لاسيما بعد أن أعلن المذيع عن اصطدام طائرة ثالثة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون)، التي تقع في شمال فيرجينيا، وذلك في الساعة التاسعة و45 دقيقة.(أميركان أيرلاين، الرحلة 77، من مطار دالاس الدولي القريب من مكان الحادث ، وهذه مسالة ماتزال مطروحة للشك والتفسير).
زوجتي تنتحب مستندة برأسها على كـَتفي، أحاول أن أواسيها بلطف، ونحن مازلنا نراقب ونستمع إلى مندوب محطة الإذاعة الذي وصل إلى مكان قريب من المبنى، وهو يقول: إنه يشاهد بعض المحتجزين في الطوابق العليا يُلَوِح بقطع قماش طلباَ للنجدة، ولا يظن أن باستطاعة أحد مساعدته، بكل أسف. لأن عشرات من رجال الإطفاء قد عَلِـقوا ما بين الطوابق، ولم يعرف مصيرهم”. ثم صرخ قائلا: “يا إلهي!! إنني أشاهد عدداً منهم يلقي بنفسه إلى حتفه من الطوابق العليا، ربما مفضلين ذلك على الموت حرقا”(قُدِّر عددهم فيما بعد بمئتين).
وبينما كنت أرقب بذهول هذه المذبحة الفظيعة، وأضرب أخماساً لأسداس، عن هوية الفاعلين، وأستبعد “القاعدة”، لأنني لم أكن أتصور أنها قادرة على تنظيم مثل هذا الهجوم الدقيق والكاسح ، ثم يقفز ذهني المشوش والمتحفز، إلى النتائج والتداعيات، بما فيها الحروب وضحاياها ومآسيها. وكنت قد فرغت للتو من مطالعة كتاب مهم : ” الفوضى” لبرجنسكي، الذي يُـقِدرُ فيه عدد ضحايا حروب القرن العشرين بمئة وسبعين مليون إنسان. فهل يبشر هذا الحادث بحروب ماحقة أكبر؟
أقول بينما كنت أفكر في كل ذلك، تضاعف ذهولي وحزني عندما شاهدت البرج الجنوبي وهو يتفجر و ينهار في كرة هائلة من النار والدخان. نظرت إلى الساعة: العاشرة وخمس دقائق. تصوّرت كتل الحديد والخرسانة المسلحة المتهشمة وهي تنهال من ذلك العلو الشاهق (أكثر من 1200 قدم على الأقل) تحمل معها آلاف الأشلاء المهشمة والأجساد المتفحمة، لبشر يحملون آلاف الآمال العظيمة، والعلاقات الحميمة، مع بقية الناس المحيطين بهم(الأسرة والأولاد والأصدقاء). بل يشتركون مع جميع البشر الآخرين في العالم، أينما كانوا، بأثمن رابطة: “الإنسانية”، التي تتجاوز وتسمو على جميع الاختلافات والروابط الأخرى، مهما كانت. أقول جميع تلك العلاقات والآمال، تحطمتْ بلحظة، نتيجة هذا العمل الإجرامي الفظيع.
أستمع إلى المذيع يسعل بشدة ويصرخ قائلا: “يا إلهي!! أكاد أختنق من الدخان والغبار، بل نحن نتعرض لشظايا الانفجار مع أننا بعيدين عن البرجين. الناس يهربون بفزع وانهيار. العويل والبكاء والصراخ يتعالى في كل مكان، من النساء والرجال والأطفال على السواء، يتراكضون بجنون، كأنه يوم الحشر، وهم يتوجهون نحونا يكللهم رداءً غريباً داكناً، من السُخام الأسود، وكأنهم كتلاً من مخلوقات خرافية خارجة من الجحيم. وبعضهم يتساقط على بلاط الشارع المزدحم بالسيارت المتصادمة، فلا يحفل به أحد. وأنا سأهرب مع فريقي إلى مكان آمن “.
وبعد 23 دقيقة من تداعي البرج الجنوبي الأول، شعرتُ بالغثيان، وأنا أراقب تداعي وانهيار شقيقه التوأم، البرج الشمالي( في العاشرة و28 دقيقة )، وهو البرج الذي وقع فيه الاصطدام الأول(في الساعة الثامنة و 46دقيقة)، والذي يضم، مع شقيقه الذي تهاوى قبله، عدداً كبيراً من مقار أهم الشركات الكبرى في العالم، التي تتجاوز ميزانية كل منها ميزانية العديد من الدول. وانهدتْ معه صارية أحد أهم مراكز الاتصالات اللاسلكية العالمية، بالإضافة إلى واحد من أشهر مطاعم العالم، الذي كان يقع في قمته.
لاحظتُ أن زوجتي كانت تذرف الدموع بغزارة، بينما تحاول أن تتمالك نفسها لتلتقط بعض الصور.
وفي هذه اللحظة المأساوية بالذات، قفز إلى ذهني ذلك “العشاء الأخير”، حين دعانا أحد الأصدقاء، من رجال الأعمال الأثرياء، بمناسبة عيد ميلاد زوجته المُدللة. دعانا زوجتي وأنا، مع ثلّة من الأصدقاء، إلى ذلك المطعم الفخم، المسمى، بحق،” نافذة على العالم”، الذي يقع فوق الطابق المائة من ذلك الصرح، الذي يتهاوى أمامي في هذه اللحظة. وتذكرت كيف قضينا واحدة من أجمل الليالي الحالمة والباذخة ، حين كنت أشعر خلالها أننا كنا في أجمل وأكمل وأأمن مكان في العالم.!! وعندما ذكّـّرتُ زوجتي بتلك الليلة، كي أخفف عنها، كما ظننت خطأ، تضاعف نَحـيـبُها. فقررتُ أن أجربَ آخر أسلحتي السحرية:
تذَكرتُ “أغزل: بيت في الشعر العربي، وترجمته لها بلغة مُبَسطة ومفهومة قدر الإمكان، قول الشاعر:
فأمطرتْ لؤ لؤأً من نرجسٍ وسَقتْ وَرْداً وعَضَتْ على العِنّاب بالبَردِ
شرحته لها بما معناه تقريبا وقدر الإمكان: بأن الشاعر يصف حبيبته الرائعة الجمال وهي تنتحب، فيقول: إن دموعها انهمرت مطراً من ، عينيها النرجسيتين الساحرتين، كحبات اللؤ لؤ، وهي تسقي الورد، أي خدّها المتورد ، ثمّ أخذت تعضّ ُعلى شفتيها العنابية اللون ، بأسنانهاالناصعة البياض، التي تشبه حبات البـَرَدِ الثلجيّ اللون.
وما أن أنهيت هذا الشرح المرْهِق، ويا للمفاجأة المذهلة ، حتى ْ تَفَتَحَتْ، من بين الدموع الغزيرة، أساريرُها، عن ابتسامة خفيفة حلوة وخجولة…!!!!