عن الأدب والــــسـيـــاســة الآن – بقلم : د . احمد الخميسي

سياسة واخبار ….
د. أحــمــد الــخــمــيــســي – مصر …
في وقت ما قبل ثورة يوليو 1952 كانت قضية المجتمع المصري الرئيسية هي الصراع بين الاقطاع حيث تحوز قلة من الأفراد لا تتجاوز 5% ثلثي الأرض الزراعية، وأكثر من 90 % الثلث الباقي. حينذاك نشرت جريدة المصري الوفدية عام 1953، رواية عبد الرحمن الشرقاوي” الأرض”، وبلورت الرواية أمام المجتمع قضيته المركزية الأولى. وبتلك الرواية كان الشرقاوي، الروائي، يشتبك بالسياسة مباشرة، لأنه يقوم بإدانة سياسة النظام الملكي تجاه الفلاحين. في عام 1966 وضع نجيب محفوظ يده على قضية المجتمع الأساسية ألا وهي القلق تجاه مصير ثورة يوليو، فنشر نهاية عام 1966 روايته ” ميرامارا” حلقات في جريدة الأهرام، ثم كتابا بعد ذلك بعام. في الرواية يضع محفوظ يده على قلب السؤال المركزي حينذاك : لمن تكون مصر؟ للوفدي القديم الليبرالي؟ للشيوعي؟ للاقطاعي؟ للعامل البسيط؟ وكان هذا القلق مثل حدس بالنكسة التي وقعت. وبذلك كان محفوظ الروائي يشتبك بالسياسة مباشرة بطرحه التساؤلات المشبعة بالخوف على مصير ” زهرة” التي تجسد مصر. في الحالتين وضع كل من الشرقاوي ومحفوظ يده على القضية المركزية التي أرقت المجتمع قبل ثورة يوليو وبعدها، القضية التي لا تعني فقط فردا أو فئة أو شريحة، بل مصر بأكملها. الآن حين تفتش بعينيك في معظم الروايات التي تصدر حاليا، ومنذ عشر سنوات، ستجد أن معظم الكتاب يرجعون إلى شخصيات وأحداث تاريخية من الماضي، وليس لكي يفسروا بها الواقع الحاضر، بل ليفسروا بها الماضي مرة أخرى، أو أنهم يثبون إلى الغرائبيات والعجائب التي لا صلة لها بالحياة، مع أن الواقع عامر بكل بما هو مدهش حقا. الأمثلة وأسماء الروايات والأدباء، كثيرة، المؤكد أنه أمسى من الصعوبة الآن، أو شبه الاستحالة أن تجد رواية تحدق بالواقع في عينيه مباشرة، بقوة، وتمسك بجوهر التحولات الاجتماعية والثقافية الراهنة، مع أن الحقيقة كما يقول شكسبير تعشق الصراحة. يقول الكثيرون في تبرير ذلك إنه لا ينبغي على الكاتب أن ينغمس في السياسة، وأن عليه أن يظل “مبدعا يحتفي بالجانب الجمالي”. لكن ما هي هذه السياسة التي قد ينبغي للأديب أو بالعكس لا ينبغي عليه أن ينغمس فيها؟. السياسة بشكل عام هي مجال للنشاط الانساني مرتبط بالعلاقات بين الطبقات والفئات والدول والأمم. وقد يبدأ الأديب علاقته بذلك المجال بالاعلان الصريح عن موقفه من أزمة أو أخرى، أو من أحداث الصراع الاجتماعي، وصولا إلى انخراطه في حزب أو نشاط برلماني. ولا يستطيع أحد أن يطالب الأديب بأن يكون ” سياسيا ” بذلك المعنى المباشر، ذلك أن كل أديب حالة قائمة بذاتها، وله أن يقتحم المجال السياسي المباشر كما فعل يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهما، وله ألا يقترب منه كما فعل نجيب محفوظ. إلا أن الكاتب سواء ابتعد أو اقترب من السياسة فأنه منغمس فيها لأسباب فنية في الأساس، ذلك أن الروائي أو القاص يتعامل مع وعي الناس ومشاعرهم ومواقفهم والعلاقات التي تربطهم، أي كل مادة الأدب التي تنشأ في ظروف محددة اجتماعية واقتصادية وسياسية. وإذن فأن الكاتب يتعامل في النهاية مع ثمرة وضع سياسي وتاريخي ، وتعكس أعماله الأدبية –شاء أم أبى – جانبا أو جوانب من عمليات الصراع الفكري والاجتماعي والسياسي، وبهذا المعنى فإن كل أديب أو روائي هو كاتب سياسي، لأن مادة أعماله هي البشر ومشاعرهم ومعتقداتهم، ولا يعكس الأديب كل ذلك من دون رؤية سياسية ما، وعلى سبيل المثال فان الفنان بمجرد تعاطفه مع فقراء في إحدى قصصه انما يجسد رؤية سياسية، وبعبارة أخرى يشتغل بالسياسة، لكن الرؤية السياسية الملازمة للأدب شيء، والانهماك في السياسة بصورة مباشرة شيء آخر. وأديب عظيم مثل نجيب محفوظ لم يمارس قط عملا سياسيا بالمعنى المباشر، لكن رؤاه السياسية كانت الأشد تأثيرا حين صور أزمة الديمقراطية في المجتمع الناصري، بل إن رواياته كلها تنضح بالموقف السياسي، وأنت لا تستطيع أن تفصل في أعماله بين الروائي والسياسي، وما من أديب كبير إلا وكان لديه تصور سياسي للشكل المثالي للمجتمع والعالم وهذا التصور وثيق الصلة برؤيته الفلسفية. هكذا كان تولستوي، وديكنز، وكوتزي، وساراماجو وغيرهم، وفي هذا السياق تبقى عبارة بريخت مثل بوصلة تشير الى الحقيقة : ” إذا لم تهتم كلماتي بالناس.. فلماذا ينبغي على الناس أن يهتموا بها ؟”.
د. احمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري