إشكالية التربية والتعليم في منظور المفكر والباحث علاء الدين الأعرجي – بقلم : د. حسين المناصرة

دراسات ……
د. حسين المناصرة – كاتب أكاديمي فلسطيني ….
“إنَّنا جميعًا سُجناءُ في سِجنِ العَقل المجتمعيّ الضيِّق أو الرَّحب حسبَ الأحوالِ والظروفِ التي تُحيقُ بالمجتمع الذي نعيشُ فيه”. (ص97)
تقديم
تبدو الدراسات المعنية بالنقد البناء لمناهجنا التربوية والتعليمية محدودة نسبيًا، ولعل دليل ذلك يكمن في أن هذه المناهج قد أكل عليها الدهر وشرب، إلى الدرجة التي غدت فيها مجرد مناهج تلقينية إنشائية، راكدة تمامًا، لا تفيد كثيرًا في بناء مجتمعات حضارية إنتاجية نامية، تواكب تطورات العصر، الذي هو عصر اقتصاد المعرفة عمومًا، في أقل تقدير منذ خمسينيات القرن الماضي.
ولو أنّ مناهجنا التربوية والتعليمية تستفيد من هذا النقد البناء، لربما كنا اليوم في حال غير هذه الحال التي نحن عليها، بصفتنا اليوم مجتمعات متخلفة تربويًا وتعليميًا، يتأسس وجودها على البنيات الخدماتية والاستهلاكية، ومناطق مستباحة باستلاب خيراتها الخام، التي منحها الله لها، وتحول القوى البشرية المعطلة فيها إلى ثقافات تشرذمية وإرهابية متصارعة في ذاتها بفعل عوامل هدم ذاتية، أو بخطط ومؤامرات استعمارية عالمية، تنطلق من وجود الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في فلسطين وبعض الأراضي العربية، عدا عن تغلغله السياسي عربيًا استنادًا إلى ظهره الاستعماري الغربي، وخاصة أمريكا.
بكل تأكيد، لو أنّ مناهجنا التربوية والتعليمية قررت هذا الكتاب التربوي التعليمي النقدي البناء في مدارسنا وجامعاتنا، لانتقلت حالنا في هذا المجال من الحال الأسوأ إلى الحال الأفضل من كثير من الدول اليوم، خاصة أننا نردد كثيرًا: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس….”!!
هذا الكتاب لا يشرح الواقع بما هو عليه من التخلف وإعادة إنتاج التخلف فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى تقديم كثير من الطرق والأساليب التي تنقذ غريقنا من الاختناق في الأساليب التربوية والتعليمية التقليدية، مما هي فيه من رداءة، ومسيرة حتمية بائسة نحو العالم السفلي!!
تعدّ كتابة المفكر والباحث علاء الدين الأعرجي كتابة علمية بأسلوب سهل ممتنع، ذات مستويات متعددة؛ تمتد من مستوى السطح المباشر الذي يتلاءم مع مدارسنا الابتدائية…انزياحًا نحو أعمق الأعماق إلى المستوى الجامعي في الدراسات العليا، بل يتجاوز ذلك إلى الطليعة الفكرية الفلسفية المعرفية التي تخطط لمناهجنا التربوية والتعليمية، إذا كانت لديها النية الصادقة والأمانة العلمية في إحداث ثورة معرفية نوعية في هذه المناهج التربوية التعليمية المهترئة، تهتم بالنوعية المتلائمة مع المعارف العصرية، نابذة أي اجترار للماضي وآفاقه الكمية التلقينية المعطلة للتطور والتحضر.
إن رؤوس مثلث نظريات الأعرجي: العقل المجتمعي، والعقل المنفعل، والعقل الفاعل؛ خطاب فلسفي معرفي ثقافي، يلخص كل ما يمكن أن يثار على أرضية اهتراء مجتمعاتنا تربويًا وتعليميًا، ومن ثم الاهتراء في كل مستوياتها المعيشية من هذا المثلث الخصب بوعيه المنسجم في إطاريه النظري والتطبيقي؛ إذ بإمكاننا أن نؤسس لبنيات تربوية وتعليمية تقوض وتهدم المثلث الأسوأ من غيره في الحياة، وهو مثلث: الجهل، والظلم، والفقر!!
لعلّ الخطيئة الكبرى في بلداننا العربية المتشرذمة اليوم، تكمن في ذلك الشعار الاستعماري الكارثي، الذي يصورنا بأننا أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تطبق، وإن طبقت لا تحسن التطبيق!
نحن لم نكن كذلك عندما قدنا العالم فكرًا وثقافة في العصر العباسي الأول، ولم نكن كذلك عندما وحدنا الإسلام بعد انحطاط جاهليتنا… ماذا يعني أن تقرر وزارات التربية والتعليم العربية تدريس كتاب في حدود مئة صفحة، ينسف مناهجنا التربوية والتعليمية المتخلفة، وينسف توجهات عقلنا المجتمعي المنهار، ويحد من عقولنا المنفعلة المستسلمة للعقليات المجتمعية الراكدة المتجمدة في عفن الماضي وصدأ الحاضر… ومن ثم يعلي من شأن عقلنا الفاعل الواعي المنتج الإستراتيجي في واقعه وتطلعاته لدى مفكرينا وباحثينا في ماضينا وحاضرنا المحفِّزين والثوريين منهجيًا في التربية والتعليم؟!
قاتل الله الفساد الذي غزا كل المجالات في مجتمعاتنا العربية، وخاصة مجال التربية والتعليم!!

عنوان الكتاب وكسر التابو
تدخل إشكالية التربية والتعليم في عالمنا العربي دائرة التابو/ المحرم؛ لذلك كَسَر عنوان الكتاب، من منظور “استكشاف المجهول وفضح المحظور” (ص11)، أفق توقعنا المدجَّن لمصلحة المسكوت عنه، ومن ثم طمر انتقاداتنا لهذه الإشكالية (التربية والتعليم)، رغم إدراك كثير من مفكرينا ومثقفينا لكثير من العيوب الصدئة في تربيتنا وتعليمنا… من هنا يكتسب عنوان هذا الكتاب أهميته الخاصة في ربط منظومة التربية والتعليم بإنتاج كارثة التخلف الحضاري وتدويرها. وهنا يحدد الأعرجي مفكرًا وباحثًا الترابطَ بين بعض المصطلحات؛ فالتعليم الذي يتصف بتدني التحصيل المعرفي، وضعف القدرات التحليلية والابتكارية، ومن ثمّ اطراد التدهور فيهما، هو جزء من التربية التي تعني تنشئة الإنسان العربي المعاصر ماديًا ومعنويًا تنشئة متخلفة، ومن ثم فإن التخلف التربوي ينتج تخلفًا تنمويًا؛ ليصل الباحث إلى أنّ عملية التنمية في العالم العربي فشلت فشلًا ذريعًا، رغم امتلاكنا موارد طبيعية هائلة.
لا يمكن هدم المقولة التي تؤكد أن التربية والتعليم في عالمنا العربي يعيدان إنتاج التخلف؛ بالنظر إلى أن هذه الإعادة للتخلف أشد خطورة من التخلف ذاته؛ إذ إنّ معنى الإعادة ” أننا ما نزال نعيد تكريس التخلف ونضاعفه” (ص13)… هذا واقع ملموس في بناء الأجيال، لا الأفراد، الذين يمكنهم أن يحققوا إنجازات فردية بحسب قدراتهم الخاصة وأفكارهم المتنورة، وغالبًا ما يكون أثرهم جليًا، في غير بلدانهم، التي لم يعد بإمكانها أن تستوعبهم، كما استوعبهم الغرب, وأنجز كثيرًا من منجزاته الحضارية العلمية والثقافية على أكتافهم. في حين استسلمنا لتخلفنا الحضاري الذي فتك بأمتنا جهلًا، وظلمًا، وإرهابًا، وفتنًا، وحروبًا…إلخ.
كتاب “إشكالية التربية والتعليم وإعادة إنتاج التخلف في الوطن العربي: بحث في علاقتها بنظرية العقل المجتمعي”؛ هذا العنوان إشكالي في كونه مرتبطًا بنظرية العقل المجتمعي الذي يعرفه الباحث في ضوء التربية بقوله: ” أن التربية في أي مجتمع، هي عملية من شأنها تكييف الناشئ ليكون عضوًا منسجمًا مع مجتمعه. وبعبارة أخرى ينبغي أن يدجن عقله، يحيّن أو يكيف؛ ليصبح خاضعًا، بشكل أو آخر، لموجبات أو مسلمات العقل المجتمعي السائد في الوحدة المجتمعية التي يعيش فيها”. (ص95-96)
ينطلق الباحث منهجيًا في كتبه وأبحاثه العديدة من ثلاث نظريات رئيسة، استنبتها على هذا النحو، كما وردت في هذا الكتاب (ينظر: الحاشية ص12-13) :
1- نظرية العقل المجتمعي (العقل المتخلف المتبلور من تاريخنا المظلم) الذي يتحكم بالعقل الفردي، ويُكوِّن تصورات المجتمع والأفراد.
2-نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل؛ فالأول نقدي منتج مؤثر في التغيير والتطور، والثاني مستسلم ومتأثر، ومستكين للتقليد ورفض الجديد، وهو الوليد الطبيعي للعقل المجتمعي المتخلف.
3-نظرية العقل العربي البدوي المتخلف؛ بسبب أنه لم يمر بمرحلة الزراعة؛ فهو لا ينتمي إلى المفاهيم الاقتصادية الحديثة.
وفي سياق التربية والتعليم، يتحدد الهدف الرئيس من هذه الكتابة التربوية العلمية، حيث ينطلق الكتاب في عبارته الأولى من مقولة مهمة تحدد مركزية الإنسان في هذه الإشكالية، وهي عبارة: ” البشر هم الثروة الحقيقية للأمم” (ص11)، ثم تتأكد هذه العبارة في عبارة أخرى معاضدة، وهي: ” الإنسان أعظم رأس مال بالنسبة إلى أية أمة” (ص13). ولعلنا نتفق – في المحصلة- على أن الإنسان أرخص سلعة في عالمنا العربي!! فيؤكد الأعرجي مسألة مهمة، وهي العلاقة الجدلية العميقة والوثيقة بين كل من: الإنسان، والتربية، والتنمية، في سياق إنتاج الحضارة والتقدم، وخاصة التربية التي يصفها بقوله: ” وھكذا نحن نَرى أن للتربية هدفًا ساميًا ورسالةً اجتماعيَّةً وإنسانيَّةً مقدَّسة: وهي تكوينُ ذاتِ الإنسان، أو بالأحرى تكوينُ عقله وشخصيَّته المتميِّزة، وبالتالي تقرير سلوكه، ومستقبله ومَنحى حياته ومَصيره” (ص23).
في ضوء ما سبق، نستنتج أن الفصل الأول في الكتاب (نحو تحديد المفاهيم) وضح كثيرًا من المفاهيم النظرية، في أسلوب فكري واضح، يضع النقاط على الحروف في بناء مصطلحات تخلف أمتنا، والأَمَرُّ يكمن في إعادة إنتاج تخلفنا تربويًا وعلميًا… فكل جملة تقرأ في هذا الكتاب -على أية حال- تسهم في بناء مفاهيمي مهم في معالجة إشكالية الكتاب الرئيسة المتمركزة في عنوانه، كما سنرى في عرض الفصول الخمسة التالية.

جذور البناء والهدم:
الموروث التربوي والتعليمي العربي الإسلامي
لا شك في أن جذورنا التربوية والتعليمية في الحضارة العربية الإسلامية تسهم بفعالية فيما نحن فيه اليوم، وكثيرًا ما كانت هذه الجذور سببًا في البناء أو الهدم في ثقافتنا عمومًا، وخاصة في مجال الهدم، عندما يتحول ” الإسلام السياسي” – على سبيل المثال- إلى معاول تدمر وجودنا وعلاقاتنا الدولية بمسميات عديدة، تفضي إلى الإرهاب والهمجية، ولعل هذا ما أشار إليه الباحث في مستوى التربية والتعليم، انطلاقًا من أساس الصراع في العقل المجتمعي بين قيم التحضر من جهة، وقيم التخلف من جهة أخرى، في قوله: ” ظل الصراع مستعرًا بين القيم الثورية التقدمية الجديدة التي أثرت في العقل المجتمعي، وبين تلك القيم البديلة المتخلفة التي كانت سائدة في العقل المجتمعي الجاهلي، والتي استمرت بعد الإسلام، بل إلى يومنا هذا، بأشكال مختلفة” (ص40).
ورد في الكتاب إشارة مهمة، نلمسها اليوم في علاقاتنا بالآخرين، وهي استغلال الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، لما نحن فيه من خلافات طائفية ومذهبية، أفرزتها الثقافة التربوية والتعليمية غير الحيادية أو غير العادلة المستجلبة من موروثنا العربي الإسلامي: ” إنَّ جزءًا كبيرًا من الأسبابِ التي أدَّت إلى ضعفِ العربِ وتخلُّفِهم، في العصر الحديث، وبالتالي استغلالهِم وإذلالِهم من جانبِ الآخَر، هو ھذا الخلافُ المذھبيُّ والعقائديُّ الذي ورثناه من تاريخِنا السياسيّ والمجتمعيّ، والذي تكرَّسَ ونَما، خصوصًا في العصورِ المظلمة؛ فأصبح يُشكِّلُ جزءًا رئيسيًّا من “العقل المجتمعي” العربيّ المعاصِر (…). وأكبرُ دليل على ذلك ما يحدثُ اليومَ في بعضِ البلدانِ العربيَّة، لاسيَّما في العراق وسوريا واليمن، من صراع طائفي. عِلمًا بأنَّ ھذا الخلافَ قد استفاد منه آخر، الغرب، وإسرائيل بوجه خاص، في تثبيت وجودھا وتأكيد تفوقها في شتى الميادين ولا سيما الإنتاجية والعلمية والتكنولوجية، وبالتالي العسكرية. إسرائيل اليوم تسبح في عُرس دائم لأنها ضمنت وجودھا وتقدمها خلال فترة قادمة طويله، فقد دُمِرَتْ جميع الجيوش العربية التي كانت تهدد إسرائيل) في العراق وسوريا (وحُيّد الجيش المصري. ومن جهة أخرى فإنها قد تستعمل طرقًا جهنمية لصبّ الزيت فوق النار، وتأجيج الصراع المدمر لجميع الأطراف المتصارعة. وھكذا نستعيد القول المأثور” يفعل الجاھل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه”. وقول الشاعر:
لا يُدرك الأعداءُ من جاھل – ما يُدرك الجاھلُ من نفسه” (ص64).
لا مجال للتعليق على هذا النص المقتبس الطويل نسبيًا؛ لأن ما نشاهده في الفضائيات يكشف عن درجة عليا في الدمار والموت الذي يحدث بسبب نظريات الفوضى الخلاقة، التي أنتجت الربيع العربي، الذي هو جحيم عربي بكل المقاييس الإنسانية والثقافية.
في الفصل الثاني المعنون بـ ” التربية والتعليم في الحضارة العربية الإسلامية”، يستعرض الباحث الأسس التاريخية والثقافية للتربية والتعليم في الحضارة العربية الإسلامية، وذلك من منطلق الدور الفاعل للموروث في حاضرنا التربوي والتعليمي، وهو الموروث الذي ” كان لاختلاط العرب بالثقافات الأخرى، دور كبير في دفعهم إلى العلم والتعلم” (ص37)، ولهذا الاستعراض ما يسوغه في المنظور البحثي، ومن ذلك (ينظر: ص 30-31) :
1-لا بدّ من معرفة المرجعيات التاريخية لأزمة التربية والتعليم الراهنة.
2- يعد عصر التدوين الذي بدأ في منتصف القرن الثاني للهجرة البنية التحتية للحضارة العربية الإسلامية.
3- يتطلب إعادة مجد أمتنا أن نُقيِّم التاريخ بمعيار الحسنات والسيئات.
الثابت في هذا المجال هو أن الإسلام يحمل في طياته ثورة على الجهل، واحتفاء بالقراءة والكتابة، والتوصية باستخدام العقل، وحث على طلب العلم، وحرب على البداوة والعصبية القبلية، وحرب على كل ما من شأنه أن يحط من قيم العلم والمعرفة، والعدل والمساواة. أما المتغير فهو أن فساد الحكام واستبدادهم أديا بمجتمعاتنا إلى غياهب الجهل والفقر والظلم.
وفي الفصل الثالث: ” وسائل التربية والتعليم في الحضارة العربية الإسلامية”، يكشف الباحث عن استهانة العقل المجتمعي واحتقاره للمعلم، وكذلك إيمان هذا العقل بعصا الترهيب والقسر في تعليم الأبناء، تحت سوط أو شعار ” خذه، وأدبه، فلك اللحم، ولي العظم” (ص51). ويفصل الباحث الأعرجي في وسائل التعليم التي كانت متاحة قديمًا في الحضارة العربية الإسلامية، ومنها: الكتاتيب، والمساجد، ومجالس المناظرة، والمكتبات والمدارس. وهنا نجد إشارة مهمة جدًا إلى ما نتج عن التربية والتعليم من مذهبية كانت سببًا مباشرًا في كثير من المساوئ في ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم.

فلسفة التربية
يعد الفصل الرابع من الناحية النظرية وتمثيلاته التطبيقية، وهو بعنوان: ” إشكالية التربية والتعليم وفلسفة التربية”، أهم فصول هذا الكتاب التربوي التعليمي المهم؛ لأن النظرية المنجزة في ضوء فلسفة التربية، هي المركز الذي تنطلق منه القيم الحضارية، وفي الوقت نفسه قيم التخلف وإعادة إنتاجه؛ فإشكالية التربية والتعليم هي مفتاح أزمة التطور الحضاري؛ لذلك ليس مهمًا أن يحرص المجتمع على إنجاب الأبناء، وخاصة الذكور منهم بحسب عقلنا المجتمعي، لأن هذا الإنجاب بحد ذاته يمكن أن يكون في مستوى التربية والتعليم استثمارًا بشريًا في إنتاج الحضارة، أو استثمارًا بشريًا عكسيًا في إنتاج التخلف والبطالة والإرهاب، وكل ما من شانه أن يجعل الأمة أو المجتمع في أدنى السلم الحضاري البشري.
في فلسفة التربية، والتعليم جزء منها، يؤكد المفكر الأعرجي مسألة مهمة جدًا في العلاقة بين الفرد والمجتمع، فالعقل الفردي المنفعل يكون خاضعًا مستلبًا متقزمًا منفعلًا في العقل المجتمعي الحامل لقيم غير حضارية في حالتنا عمومًا، وعلى عكسه يتشكل العقل الفردي الفاعل الذي يحمل قيم التحرر والانعتاق من العقل المجتمعي، ومن ثمّ فإن فلسفة التربية التي ينتجها العقل المجتمعي تكون عاملًا حاسمًا في إنتاج سلوك الأفراد في المجتمع، سواء أكان هذا السلوك إيجابيًا أم سلبيًا على العموم: فـ” العقل الفردي للعامة يظل منفعلًاً بالعقل المجتمعي، مهما تغيَّر، صعوداً أو نزولاً، تقدمًا أو تخلفًا” (ص77).
ولعل المقارنة بين الحضارة الغربية في ذاتها بين “زمكانيتي التخلف والانعتاق” منه من جهة، وبينها وبين الحضارة العربة الإسلامية في ” زمكانيتي التخلف والانعتاق” منه أيضًا؛ تشير إلى أنّ النماذج التطبيقية في سياق فلسفة التربية هي خير دليل على دراسة المجتمعات وتطورها انطلاقًا من إشكالية التربية والتعليم نفسها، بصفتها أزمة حضارية، أو حضارة حقيقية، بالنظر إلى أن ” التربيةَ عمليَّةً تُواكبُ الإنسانَ من ساعةِ وِلادتِه إلى لحظةِ وفاتِه” (ص74). فالحضارة الغربية في ذاتها رسمت حالة باهرة للتطور؛ إذ “إن الغرب قد نجح في تعديل بل تغيير العقل المجتمعي الأوربي الأوسطي بواسطة ظهور مفكرين يحملون عقلًا فاعلًا، ما أدى إلى ظهور النهضة الأوربية، التي تمخضت عن الثورة العلمية، فالثورة الصناعية، فالثورة المعلوماتية، فالثورة الرقمية الراهنة التي تتمخض عن سلسلة من الاكتشافات والتطبيقات المتوالدة بسرعة ھائلة لم يسبق لها مثيل في التاريخ” (ص77). أما طامتنا العربية الكبرى اليوم، فهي على النقيض تمامًا مما لدى الحضارة الغربية، وفي ذلك يعيد الأعرجي إعادة إنتاج التخلف عربيًا إلى استلاب عقلنا المجتمعي لحرية عقولنا المبتكرة الحرة الفاعلة، يقول: ” وهكذا أرى أننا نعيد إنتاج التخلف؛ ذلك لأن عدم توفر الحرية الكافية للتعبير عن الرأي ولاسيما الرأي الآخر، يحدّ من ظهور عقول فاعلة كافية لكسر حلقة التخلف، ما يسفر عن بقائنا ندور في حلقة مغلقة، تعيدنا إلى ما كنا عليه في الجيل السابق. والأدهى من ذلك أن الحركات الأصولية المتطرفة ترى أنه يجب أن نُلزمَ أولادنا بمبادئنا ومعتقداتنا الخاصة، ورفض أي فكر مختلف آخر؛ لأنه فكر كافر يجب اجتثاثه وتصفية أصحابه كواجب عين” (ص79).
لا بد من كبح عقل الأفراد المنفعل في العقل المجتمعي المتخلف، وإطلاق العنان للعقل الفاعل في تغيير العقل المجتمعي، ومن ثمّ يكون الصراع مفتوحًا بين هذين العقلين الفاعل والمنفعل، في انتظار أن يكون العقل الفاعل هو المنتصر. وفي هذا السياق الحريص على فتح الباب على مصراعيه للصراع المتوازن بين العقلين الفاعل والمنفعل في إطار العقل المجتمعي، يشير الأعرجي إلى خمسة مواطن، تؤكد أزمة الحضارة بين إنتاج التطور وإعادة إنتاج التخلف، نلخصها لما لها من أهمية في الإفصاح عن فلسفة التربية في المجتمعات المختلفة على هذا النحو (ينظر: ص79-80) :
1.في المجتمعات كلها يوجد صراع دائم بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، ما يؤدي إلى تعديل العقل المجتمعي أو تغييره، لا سيما في المجتمعات النامية، وخاصة مجتمعاتنا العربية.
2.في المجتمعات المتخلفة أو النامية، يصعب أو يتعذر تعديل أو تغيير العقل المجتمعي؛ لأن العقل المنفعل بالعقل المجتمعي المتطرف يهيمن على العقل الفاعل الحر ويستبعده.
3.يستند التقدم في أي مجتمع إلى تغلب مفاهيم العقل الفاعل على مفاهيم العقل المنفعل في العقل المجتمعي السائد.
4.قامت النهضة الأوربية على أكتاف نخبة من المفكرين والعلماء الفاتحين الذين يتحلون بعقل فاعل، تمكَّن من كسر المسلمات السائدة في العقل المجتمعي الكنسي المتخلف.
5.مرت المجتمعات كلها بأزمنة تكبح العقل الفاعل؛ كما يحدث اليوم في بلداننا العربية.
إن الإعلاء من شأن العقل الفاعل، وتعظيم دوره في التطور الحضاري، وتأسيس التربية والتعليم في ضوئه، لا يعني بالضرورة – بحسب رأي الأعرجي- مواقف متطرفة تجاه استبعاد العقل المنفعل من البنية الاجتماعية السائدة: ” لاسيما وأن العقل المنفعل ينطوي على مفاهيم مفيدة أيضًا وضرورية للاستقرار الاجتماعي، وللحفاظ على “السيرورة” الاجتماعية، وللحيلولة دون تحول التقدم إلى قفزات متقطعة في الفراغ. ولكن ما يحصل ھو أن “العقل المنفعل” ھو الذي يقوم في الواقع بالسعي لإزاحة “العقل الفاعل” من المعادلة، ويحاول طرده من التاريخ) من أجل العودة بنا إلى تاريخ آخر). وھذا موقف متطرف أيضًا، كما أنه يشكل معاندة، تحولت إلى هستيريا مرضية، لحركة التاريخ نفسه، ولقيم التقدم العلمي، التي تجبر كل الشعوب على قبولها، شاءت أم أبت. ومن الواضح، فإن ظواهر مثل داعش والقاعدة وغيرها من حركات الإسلام السياسي، ھي تعبير صادق عن الطبيعة الهستيرية لهذا المرض” (ص81).

وظائف التربية
تناول المفكر والباحث الأعرجي في الفصول الأربعة السابقة المرجعيات التاريخية والمعرفية لإشكالية التربية والتعليم في أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي. وفي الفصل الخامس (وظائف التربية وعلاقتها بالعقل المجتمعي)، تناول بعض النظريات المتعلقة بإشكالية التربية والتعليم للصغار والكبار، انطلاقًا من هذا السؤال الرئيس: ” كيف نستطيع أن نجدد عقولنا؛ لنكون جديرين بتكوين عقول أبنائنا، ليس لحاضرنا بل لمستقبلهم؟” (ص 86).
ومن أهم النظريات أو الآراء التي تناولت وظائف التربية، يورد الباحث منها ما يأتي (ينظر: ص87-93) :
1- رأي ماكس فيبر: وظيفة التربية أنها وسيلة من وسائل تثبيت الهيمنة الاجتماعية، أو البناء الاجتماعي من أجل الهيمنة، ومن ثمّ قد تقود الهيمنة إلى التقدم والحركية أو إلى المحافظة والركود.
2- رأي إميل دوركايم: وظيفة التربية أنها أداة المجتمع إلى تحقيق الوفاق الاجتماعي أو التكامل الاجتماعي، بوساطة غرس التشابهات الجوهرية التي تتطلبها الحياة الجماعية.
3-رأي كارل مانهايم: وظيفة التربية أنها تتجلى في تقنيات معينة أو أساليب اجتماعية تؤثر في سلوك الفرد؛ لينسجم مع أنماط السلوك الاجتماعي السائدة في مجتمعه.
4-رأي هيرسكوفتز: وظيفة التربية أنها عملية دمج ثقافي مستمرة مدى الحياة، وفق تكييف واعٍ أو غير واعٍ للأفراد ضمن حدود مجموعة التقاليد التي يكتسبها الإنسان لتحقيق الكفاية الاجتماعية داخل ثقافته المجتمعية.
5- رأي مدرسة علم النفس الاجتماعي: وظيفة التربية أنها عملية تطبيع اجتماعي، تعلم الفرد كيفية التكيف مع جماعته باكتسابه للسلوك الاجتماعي المرضي للجماعة.
وتعقيبًا على هذه الآراء أو النظريات الخمس، وبعد المداخلات عليها، يرى الأعرجي أنها ” تَصبُّ، أخيرًا، في ھدف واحد، ألا وھو السَعيُ لتطبيعِ أو تطويعِ (العَقل الفاعِل) للناشِئ، لقواعدِ) العَقل المجتمعيّ) ومُسلَّماتِه، بتحويلهِ إلى) عَقل مُنفعِل) ” (ص90).
6- رأي برتراند رسل الثوري: أن المناهج التربوية المتبعة في جميع المجتمعات البشرية تمثل مؤامرة كبرى على حرية الفرد، انطلاقًا من أن عملية التربية تفضي إلى إنتاج المواطن الصالح الذي يرتبط وجوده ومصالحه بوجود مجتمعه ومصالحه.
في ضوء ما سبق، تجاه هذه الآراء أو النظريات، يعقب الأعرجي، انطلاقًا من آراء برتراند رسل الثورية في المجال التربوي، على تعدد المدراس التربوية بقوله: “على الرّغم من تعدُّدِ المدارسِ التربويَّة، فيمكنُ أن تَندرَجَ جميعًا في مَدرستَين رئيستَين: إحداھما تُحاول أن تُوفِّقَ بين الطِفل وبيئته، والثانية تَنحو إلى تَنميةِ نفْسِ الطفل واستِعداداته الطبيعيَّة. فأصحابُ المدرسةِ الأُولى يَطلبون من المربِّين تكييفَ الناشئ لينسجمَ مع مجتمعِه. فنظرًا لعدَمِ إمكان تغيير أوضاع المجتمع لتنسجِمَ مع طبائع الطِفل، فمنَ المنطقيّ تهذيبُ طبائعِ الطِفل وتغييرُھا لتنسجمَ مع أوضاع المجتمع. بينما يهدفُ أصحابُ المدرسة الثانيةِ إلى العنايةِ بالطِفل نفسِه لتنموَ طبيعتُه بصرف النظر عن مُواءمةِ تلك الطبيعةِ مع ثقافةِ المجتمع. وموضعُ الخلافِ بين النظريَّتين يكمُن في التساؤل”: ھل نُربِّي الطِفلَ ليكونَ مُواطنًا صالحًا فقط، أم نُربِّيه ليُصبحَ فرداً مستقلا، وبالتالي فالمدرسةُ الأولى تَرى أنَّ من مَصلحة الجماعة أن تَحدَّ من فرديَّة الطِفل، باعتباره عُضوًا فعَّالاً في المجتمع، بهدفِ أن يُصبحَ مُواطنًا صالحًا. أمَّا المدرسةُ الثانيةُ فتَرى أنَّه من أَجل نُموِّ فَرديَّة الناشئ نُموًّا يُحقِّقُ طبيعَتها بغير أن يُحدِّد مجرى نَمائِها، لا بُدَّ من رفْضِ مُختلفِ العوَامل الاجتماعيَّة” (ص94).
وأخيرًا، يطرح الأعرجي سؤلاً كبيرًا، هو: ھل ھذه النظريَّاتُ المتعلِّقة بوظائفِ التَربية تصلُح للتطبيق على جميع المجتمعات، بما فيها المجتمعاتُ المتخلِّفة، أو النامِية من أمثال مجتمعاتِنا العربيَّةِ والإسلاميَّة؟ ثم يجيب عن هذا السؤال في ضوء نظرية العقل المجتمعي، بهذه النقاط الثلاث:
1-أنَّ العقلَ المجتمعيَّ يتطوَّرُ ويتغيَّرُ بتطوُّر الوحدةِ المجتمعيَّة؛ فيحدث تفاعلٌ جدليٌّ بين العَقل المجتمعيّ والتطوُّرِ الحضاريّ للمجتمع، فيؤثر أحدهما في الآخر، ويتأثَّر به فيُغيِّرُه، ومن ثمّ كلما ارتفعَ المجتمعُ في سلَّمِ الرُقيّ، تغيَّر العَقلُ المجتمعيُّ وتكيَّف تَبعًا لذلك. وعلى هذا الأساس، فإنّ “مُجتمع الحدَاثةِ الذي يتميَّزُ بـ”عَقل مجتمعيّ” مَرن يستوعبُ أكثر القِيمِ تحرُّرًا. وبذلك يُترَكُ لـ”العقل الفاعل” حرِّيةُ الحركة والابتكار والإبداع، فينتصرُ على “العقل المنفعل”، الذي يلتزمُ بالتقليدِ والاتِّباع”. (ص100)
2-أن وجود فلسفات تربوية تحرر الناشئ من سطوة المجتمع في المجتمعات المتقدمة، وهي مُعارضةً لنظريات التربية التي هدفها إنتاج مواطنين صالحين ينسجمون مع مجتمعهم في المجتمعات المتخلفة؛ فإن هذه النظريات الثورية كنظرية برتراند رسل، يصعب تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وغالبًا ما يصفى جسديًا ومعنويًا كل من ينادون بمثل هذه النظريات التربوية الثورية.
3-أن تطبيق النظريَّات المتعلقة بإنشاء مواطنين صالحين ينسجمون مع مجتمعهم، على المجتمعِ العربيّ الذي يتميَّزُ عقلُه المجتمعيُّ بكونِه يعودُ في تكوينِه إلى أكثر من ألفِ عام، يعني أن نُعيد إنتاجَ التخلُّفِ في أجيالنا القادمة.
كذلك يتناول الباحث في الفصل الأخير (الفصل السادس) آراء المفكر العربي محمد جواد رضا الذي يرى أن التربية قوة اجتماعية، من يمتلكها يمتلك القدرة على تقرير مصير المجتمع؛ لأن إشكالية التربية والتعليم تلازم أزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي؛ إذ إن رأيه يتمثل في أنه بإمكاننا أن نتجاوز أزمتنا التربوية الكائنة في العزلة الحضارية بوساطة الانتساب إلى حضارة العصر. وهنا يشيد الأعرجي بهذه الرؤية، ويضيف إليها مسألة التوازن في الأخذ من حضارة العصر، وذلك من خلال “التركيز على العلم والتكنولوجيا والفكر الحر والديمقراطية في الحكم، وفي التعامل مع الآخرين، فضلًا عن التنظيم والإدارة. كل ذلك مع حفاظنا على ھويتنا المتميزة وثقافتنا الخاصة” (ص107).
حدد المفكر محمد جواد رضا ثلاثة انقلابات ثورية جوهرية للإسلام في الحياة العربية، وهي:
1-نبَذَ الجاهلية لمصلحة المجتمع المتحضر.
2-أعاد تشكيل الفكر السياسي العربي بتحويله الحكم من الفرد والعائلة إلى المؤسسات الاجتماعية.
3-اشترع العقلانية نقيضًا للظن في فهم علاقة الإنسان بالكون والمجتمع.
ولكن هل تحققت هذه الانقلابات الثورية الإيجابية فعليًا في المجتمع العربي الإسلامي، يرى الأعرجي أنها ” لم تتمكن من تغيير العقل المجتمعي بين ليلة وضحاھا، لاسيما لأن مبادئ العقل المجتمعي الجاھلي كانت ولا تزال إلى حدّ ما أقوى من الدين، وأقوى من القانون، بدليل أن الأخذ بالثأر و”الفصل” بين العشائر ما يزال قائمًا في بعض المناطق في البلدان العربية” (ص109).
أما بالنسبة إلى رأي رضا في أن عصر المأمون الخليفة العباسي ازدهر بسبب تحقيق مبدأين اجتماعيين، هما: مبدأ العقلانية، ومبدأ العدل الاجتماعي؛ فإن الأعرجي يتحفظ على هذين المبدأين، فيرى أن العقلانية آنذاك كانت على مذهب المأمون المعتزلي، ومن ثم كانت له محاولات للقضاء على المذاهب المخالفة. كذلك لم يتحقق العدل الاجتماعي؛ لكون المجتمع كان في جميع مراحله يتكون من ثلاث طبقات: الطبقة الخاصة ذات الامتيازات والثروات، والطبقة العامة، وطبقة الرقيق. ومع ذلك فإنه يتفق معه على أن العرب – والرأي لرضا -: “مواجَهونَ اليومَ بقضيَّتين: العقلانيَّةِ في التعامُل مع الكَونِ والإنسان، من جِهة، وقضيَّةِ العَدل الاجتماعيّ أو الارتفاع بالإنسانِ ذاتهِ إلى مَركز القيمةِ الخُلقيَّةِ العُليا، على ھذه الأرض، من جهة أُخرى”. (ص114) ؛ لأنه يرى أن منطلقات الحضارة الحديثة تبدأ من العقلانية، والإيمان بكرامة الإنسان.
ولعلّ خلاصة رأي رضا تكمن في أنّ “عصرنة المؤسسة التربوية العربية يعني بالضرورة علمنتها (…) إنَّ العَلمنة ھنا لا تَعني أكثر من تَنشئةِ الأجيال على وَعي العَصر وقبولهِ والتكامُل معه لاحتلالِ مركز فيه، وذلك بتَمكينها) يقصد الأجيال (من مَعرفةِ القُوى الفِعليَّةِ الحاكِمة في ھذا العَصر وتَقديرِھا. وھذا من عمل المنهج المدرسيّ” (ص 116) ؛ لذلك يقترح عدة كفايات ينبغي للأطفال أن يكتسبوها، وهي: الكفاية في استعمال اللغة القومية، والتمكن من العمليات العلمية الأساسية، والتمرين على استعمال المبتكرات الرمزية. وفي هذا الجانب أيضًا، يبين النواقص في تربية أطفالنا؛ وذلك من خلال اغتيال حرية الطفل، وفي هذا المجال يسهب الأعرجي في الحديث عن سجون العقل العربي؛ ومن ذلك أنه سجين السلطة، والقهر السياسي، وضرورات الجسد وحاجاته، والتخلف الحضاري، والقهر الاجتماعي، وزنزانة السلف الصالح، ولا تاريخيته، وخلافاته الدينية والمذهبية، والتمزق، وبداوته العريقة، والنظام الأبوي…إلخ. وكذلك من النواقص في تربية الطفل قمع الذاتية الفردية، ومن ثم يكون قتل الفكر المستقل بعدة وسائل، منها: تحقير العواطف الإنسانية، ووأد الأصالة الفكرية، وإعطاء الطفل حقائق غير مترابطة.
خاتمة
لا مجال إلا للقول المؤكد في أن هذا الكتاب المهم قد طرح إشكاليات تربوية وتعليمية عديدة من منظور الباحث والمفكر العربي علاء الدين صادق الأعرجي، تعد مفاصل حقيقية في انحطاط المجتمعات أو تطورها؛ انطلاقًا من أن النظريات التربوية هي مركز دائرة كل شيء في المجتمع، مادام الإنسان هو الاستثمار الحقيقي في الأزمات الحضارية وانفراجها.
إن الأعرجي باحثًا ومفكرًا، يتقن أدواته البحثية، ويصوغ رؤياه الفكرية في هذا الخطاب المعرفي الثقافي الذي يهشم العقل المجتمعي المتخلف، ويقوض تابعه العقل المنفعل المعطل للتطور والتحضر، والمتجمد في أيقونات قيم وتقاليد بالية، ويجيب عن أسئلة رئيسة تجعل الحلول الحضارية الممكنة مسكونة في العقل الفاعل، هذا العقل الذي يكاد يكون مغيبًا في حاضرنا العربي الإسلامي الفضفاض المترهل، ما يجعلنا نقبع في مستويات التخلف والأزمات الحضارية والإنسانية، وأيضًا الأخلاقية!
لن يجد قارئ هذا الكتاب قراءة متمعنة معمقة ما يختلف فيه مع مؤلفه؛ لأن المؤلف المفكر في كل سطوره وعباراته يضع النقاط على حروفها، منطلقًا من واقع تربوي علمي مأزوم بانتقاء ثقافة تاريخية مرجعية سلبية من جهة، وحاضر متشرذم في صراع ثقافات مذهبية وطائفية وسياسية غير سوية، مشبعة بالانهيار والمأساوية، ومستقبل لا يبشر بالخير، ما دمنا نحرص على أن نعيد إنتاج التخلف التربوي في تدجين أجيالنا القادمة، لمصلحة التخلف المجتمعي المهيمن على النشء، تحت سقف شعارات بالية؛ كالأمن المجتمعي، ومصلحة الوطن، والوحدة الاجتماعية، وغيرها من الشعارات التي تجعل تغيير الحال من المحال.
ولعل الانتهاء من قراءة هذا الكتاب، في سياقاته المرجعية، ونظرياته التربوية، وإشكالياته التعليمية المختلفة، تفضي بنا إلى الاقتناع بوجود أزمة حضارية تربوية حقيقية في بلادنا النامية المتخلفة، لا يجدي بها أن نطمر معها رؤوسنا في الرمال؛ لنضحك على أنفسنا، فنعزيها بأننا في أحسن أحوالنا، أو أننا نضع رؤوسنا بين رؤوس الدول النامية المتخلفة، ونقول: يا قطاع الرؤوس! ومن ثمّ سنبقى على هامش الحضارات، إن أتيح لنا هذا الهامش أساسًا؛ لأن إعادة إنتاج التخلف التربوي التعليمي تقذف بنا في متاهات الخراب، والعقم، والتلاشي، والاحتراب..إلخ؛ وذلك استنادًا إلى النص المقتبس أعلاه، وأعيده لتأكيد أهميته في التأسيس لثقافة التخلف، وهو: ” أنّ التربية في أي مجتمع، هي عملية من شأنها تكييف الناشئ ليكون عضوًا منسجمًا مع مجتمعه، وبعبارة أخرى، ينبغي أن يدجن عقله ويحيَّن أو يكيَّف ليصبح خاضعًا، بشكل أو آخر، لموجبات أو مسلَّمات العقل المجتمعي السائد في الوحدة الاجتماعية التي يعيش فيها” (ص 95-96).
لعلي في نهاية هذه المقاربة (المراجعة والعرض) لهذا الكتاب المهم جدًا، أن أدعو وزارات التربية والتعليم العام، ووزارات التعليم العالي، والمراكز البحثية والعلمية التربوية الإستراتيجية… إلى اعتماد هذا الكتاب مقررًا دراسيًا في المراحل التعليمية المختلفة، وأن يكون مرجعًا رئيسًا في اللوائح الداخلية لمنهجيات تطوير التعليم الحضاري النوعي الحقيقي، ومن ثم بناء مؤسسات تربوية حقيقية متحضرة، لا شكلية متخلفة.

• الكتاب:
علاء الدين صادق الأعرجي: إشكالية التربية والتعليم وإعادة إنتاج التخلف في الوطن العربي ” بحث في علاقتها بنظرية العقل المجتمعي”، إصدارات دار إي – كتب، لندن، ط3، تشرين الأول/أكتوبر 2018م.