آراء حرة ….
إدوارد فيلبس جرجس – نيويورك …
أحيانا تحدث أشياء تعيد الماضي أو بعضه إلى ذهن الإنسان ، سواء كان هذا الماضي حزينا أو به بعض السعادة ، لكن ما حدث أعاد إلى ذهني سعادة مختلطة بالحنين ، قصة قرأتها عن الموسيقار والفنان الكبير ” يحي خليل ” رائد موسيقى الجاز في مصر والشرق الأوسط ، لها بعض الارتباط بي ، فنان حقيقي ، والفنان الحقيقي هو الذي لا يكون محترفا لأحد مجالات الإبداع فقط ، بل هو صاحب رؤية ، وأن تكون ذا بصيرة ورأي قوي ، وهذا من ينطبق تماما على الموسيقار الكبير ” يحي خليل ” . في حفله الأخير الذي أقيم بدار المصرية ، قدم أجمل مقطوعاته الموسيقية المميزة ، ولم يكن فقط يمتع آذان جمهوره الكبير بموسيقاه ، لكن الرجل كانت له مداخلاته المميزة التي لا تقل أهمية عن ألحانه الموسيقية ، كان يخرج مع كل فاصل ، ليتحدث إلى جمهوره ، الذي كان يستمتع أيضاً بآرائه ويبدو لوهلة وكأنه خطيب محبوب وقف أمام أنصاره , تحدث عن حال الفن ومدى التأخر الذي يعاني منه ، تحدث عن الجمال وتأخر الذوق العام وبدى واضحا حزن الرجل على الحال الذي صنع كل هذا القبح في بلدنا وجعل البعض يسمونه فنا وجمالا وإبداعا . لكن أكثر ما لفت الانتباه في حديث ” يحي خليل ” كانت حكاية ” أبونا عجمي ” الكاهن المسئول عن رعاية إحدى كنائس مصر الجديدة ، ” وهي الحكاية التي أعادت السعادة والحنين إلى ذهني لارتابطها بموقف معي أيضا ” . لفت نظر يحى خليل ، الذي كان ممتلئا بالفن والجمال الذي يحبه الله ، أصوات المرنمين والمبتهلين التي كانت تتسرب من نوافذ الكنيسة ” ، وكان يتمنى أن تتاح له فرصة أن يتعلم ويعزف على آلته الأثيرة ” الدرامز ” . ذهب إلى راعي الكنيسة وطلب منه أن يأتي بآلاته ويعزف عليها داخل أسوارها بين المؤمنين والمتقربين ، لكن ” الكاهن الشامي ” بلكنته المميزة رد عليه ردا بسيطا برر له رفض طلبه ، بأن الكنيسة مخصصة لخدمة أبناء الطائفة ، أحس وقتها يحي خليل أن حلمه قد تبخر . مرت الأسابع وبعد حوالي ستة أشهر وبينما كان خليل ينظر من نافذة بيته إلى السماء يسأل الله لماذا حببه الله في آلة الدرامز ، وصعَب عليه العزف عليها ، رن هاتف المنزل ، وعندما رفع سماعة الهاتف ، وجد صوت ” أبونا عجمي ” يأتي من بعيد ليخبره بأنه ظل يبحث عن هاتف منزله كل تلك الفترة ، لأن شعر بقلبه المؤمن أنه صدم قلب هذا الصغير ووقف أمام طموحه بأن يتعلم شيئاً رائعا ، وأكد أنه خصص له حجرة كانت له كي يجلب فيها ” الدرامز ” ويتعلم عليه فيها ، كما سمح له أن يجلب أصدقاءه من محبي الفن ليتعلموا معه . وزاد يحي خليل بأن مواقف ” أبونا عجمي ” لم تتوقف عند ذلك ، بل أخبر جمهوره أن أول جيتار جاء للموسيقار الراحل عمر خورشد ، كان أهداء من الكاهن المؤمن ليتعلم عليه ” خورشيد ” ويحترف العزف عليه . أما قصتي أنا فكانت أيضا مع أبونا عجمي ، عندما تخرجت من الجامعة قررت أن أعمل ولا أنتظر ما يسمى بتعينات القوى العاملة ، ورأيت أن أفضل شئ وبداية العام الدراسي قد قربت أن أعمل مدرسا في مدرسة خاصة ، درت على الكثير من المدارس وكانت الردود كلها موحية بالرفض لحداثة تخرجي ، وكان الأمل الأخير عند ” أبونا عجمي ” فلقد كانت لهم عدة مدارس خاصة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء ، وعندما سألته العمل لم يزد عن كلمتين ” تعالى في أول يوم تبدأ فيه المدرسة ” وذهبت بالفعل فنظر إلىِّ ولم يزد عن قوله أطلع لفصل ثالثه أعدادي أول ، والحصة التالية وجهني لفصل آخر ، ثلاثة أيام لم تخرج عن هذا النظام ، وفي اليوم الرابع ناداني وضحك قائلا ” كنت أختبر صبرك ونجحت ” وفي كلمات قليلة سألني كم تدفع الحكومة للمتخرج حديثا قلت له 20 جنيها تنتهي إلى سبعة عشر بعد الخصومات ، قال لا لن أخصم وستتقاضي المرتب كله . قضيت بهذه المدرسة عدة أشهر أتذكرها حتى الآن وتركتها حزينا عندما اُستدعيت للخدمة العسكرية الت ظللت بها أعواما طويلة حتى انتصار السادس من اكتوبر 73 ، كانت أمورا كثيرة قد تغيرت في حياتي لكن ذكرى ” أبونا عجمي ” والمدرسة لا تزال في داخلي جرفني إليه الحنين بعد أن استمعت إلى قصة الموسيقار ” يحي خليل . فقط تعليق بسيط ، ياترى ما حدث مع يحي خليل وأبونا عجمي قد حدث هذه الأيام ، أي لو قام كاهن بمثل هذا الموقف الآن ؟ ربما كان سيتهمونه بالتبشير وربما حوكم أيضا وربما كان ليرفض أن يساعد الشباب من البداية ، إما لأنه لا يعرف تعاليم الله جيدا ، أو لأنه خشى مساءلة الناس ، حقا لقد انتهى الزمن الجميل .
[email protected]