فن وثقافة ….
بقلم : د. سمير ايوب – الاردن …..
لا يهم ، عندما يكون كل رأس عفيفا .
في إحدى جولاته التفقدية لشؤون البلاد والعباد ، إسترعى نظر الوالي ، رجلا يجلس مستظلا بشجرة على حافة نهر، فإتجه بموكبه الى حيث الرجل . وجده راعٍ لزيرٍ فُخَّاريٍّ على حمالة خشبية ، نظيفا مغطى وكوزا للشرب ، ممتلئا بماء صاف زلالا .
هذا زيرٌ يا مولاي ، إشتريته بِحُرِّ مالي . أجمع فيه ماء النهر طوال العام . لأسقي بلا كلل أو ملل وبلا تمنين ، كلَّ من يقاسي عطشا من المارة من هنا . تَصَدُّقاً صامِتاً عن روحِ والِدَيَّ .
نظر الوالي إلى كبير وزرائه وهو يقول : أرى أن تُعِينوا هذا الإبن البار ، بكلِّ ما يُسَهِّل ويُنظِّم ويضمن إستمرار عمله المجاني النبيل ، في سقاية المارة من هنا ، وأن تتيحوا له فرصا لزيارة أهله .
فقال كبيرُ الوزراء : أرى يا مولاي ، أن نجعل لهذا المواطن الصالح ، نائِباً يساعده على ملء الزير مرة بعد مرة . وأن يَحِلَّ مَحَلَّه أثناء غيابه كلما أحَبَّ زيارة أهله . إستحسن الوالي رأي وزيره . فقال :عليك الإشراف بنفسك على هذا الأمر . ورعايته وفق توجيهاتي . وتابع الوالي جولتة التفقدية .
ومرَّتِ الأيام ودارَت . وقرَّرَ الوالي في جولة غير مُبَرْمَجةٍ ، تفقد الزير . فأمر موكبه بالتوجه فورا إلى النهر . وطلب من وزيره ألأول اللحاق به إلى هناك . حاول أحد أزلام الوزير أن يسبق الوالي إلى الزير ، فَمُنِعْ . قبل أن يصل الوالي مقصده ، شاهد مبنى فخما مُسْتَحدَثا على شاطئ النهر , تعلوه يافطة فخمة ، مكتوبة بخطٍّ أنيقٍ : هنا إدارة عموم الزيرالوطني .
فور دخوله بوابة المبنى ، طلب الوالي أن يأخذوه إلى مكتب المدير العام ، وكان ابن شقيقة الوزير وصهره . لم يجده في مكتبه ، بل وجد بدلا منه ، أكواما من الأوراق والملفات ، وطابورا من فناجين القهوة الفارغة ، ومَكْرَهَةٍ من أعقاب السجاير . تبين أن المدير العام ، منذ اسبوعين في بلاد الواق واق ، يشارك في مؤتمر هناك ، عن المقاصد الربانية في سقاية الناس . ولكن الأمين العام إستقبل الوالي ، وراح يتدحرج أمامه . فصادفا رجلا طويل القامة ، عرّف عن نفسه أنه رئيس الديوان ، وتلك مسؤولة إعلام الزير ، وهذه مسؤولة العلاقات الداخلية ، أما مسؤولة العلاقات الخارجية فهي مبتعثة منذ أسبوع ، لتوأمة زير الولاية بزير الموزامبيق . وتلك التي تقرأ المجلة الملونة ، فهي مسؤولة السياحة المائية ، وذاك النائم الشاخِرُ يا مولاي ، هو مسؤول التسويق والترويج . أما المسؤول المالي فهو لسوء الحظ ، غائب وفق مغادرة أصولية ، أما مسؤول النقل فهو معار لمصلحة الموانئ ، وفني الصيانة في دورة متخصصة بعلوم التَّوَحُّد .
وهنا وصل الوزير الأول ، فقال له الوالي مُستنكرا : ويحك يا رجل ، زيرُ ماءٍ وغطاءٌ وكوز ، صار بقدرة فاسد ، مرفقا عاما وإدارات وجيش عرمرم من البطالة المقنعة !!! فأجاب الوزير : إسْتَعذَب الناسُ يا مولاي ، شُرْبَ الماء من الزير ، وازداد الإقبال عليه . فقررت تحويله إلى مرفقٍ عام للخدمات الشعبية ، وفق أحدث فنون الإدارة والضبط المالي .
فسأله الوالي : عن المبالغ المُخَصَّصَةِ لإدارة الزير؟ قال الوزير: لا أذكر بالضبط . ولكنه قروضا ميسَّرة من البنك الدولي ، ودول شقيقة واخرى صديقة يا مولاي . وأظنه لا يزيد عن بضع ملايين . ففي سبيل النفع العام ، يهون أي مبلغ نصرفه . وراح يشرح للوالي عن خططٍ همايونية ، للخروج من عنق زجاجة الديون المتراكمة ، على مرفق الزير .
أخذ الوالي يتنقل بين المكاتب الفارهة المكيفة ، من غرفة الى غرفة ، ومن طابق لآخر ، راح يتفرج ويتعجب . وبعدها سأل وزيره : أين الزير؟ نظر مدير الشؤون العامة ووكيل الأمن المائي أحدهما للآخر ، ثم إلى الوزير الذي قال : إنه هناك يا مولاي ، في قاعته الخاصة في الدور الأرضي .
في الدور السفلي ، دخلوا قاعة واسعة مُتْربَة ، يغطي الغبار كلَّ ما فيها . قال الأمين العام : كان ينبغي أن يكون الزير هنا يا سيدي . ولكننا أرسلناه منذ بضع أشهر إلى الورشة الأميرية للصيانة . فضرب الوالي كفّاً بِكفًّ وهو يصرخ غضبا : تبّا لكم ، كلّ هذا ولا زير؟!
تَلَفَّتَ الوالي حوله ، فوقع بصره على رجل ضعيف شاحب الوجه . عرفه فورا . نعم ياسيدنا ، أنا الإبن البار صاحب الزير . لقد كذبوا عليك . لم يعد للزير وجود هنا منذ زيارتك الأولى .
سار الوالي بضع خطوات ، ثم جلس غاضبا ، من هول ما سمع وما رأى . وقال للإبن البار: عد يا ولدي إلى مضاربنا . وتولى أمر الزير كما كنت تفعل قبل أن نلقاك . هذه دنانير عشر ، إشتري بها زيرا جديدا . وضعه تحت ظل شجرة ، وإسق الناس منه ماء زلالا .
ثم أصدر الوالي حكمه على الوزير ، بأن يسدِّدَ ديون الزير ومصاريف الذين عينهم ، من ماله الخاص . وإن نفد ماله ، فمن مال زوجته وأولاده وأقاربه ، الذين أكلوا المال العام سُحتا في بطونهم .