آراء حرة …
بقلم : إدوارد فيلبس جرجس – نيويورك
كثيرون يعتقدون أن الموت هو فقط الذي ينطبق عليه تعريف أنه انطلاق الروح خارج الجسد وبذلك يصبح الجسد في حكم الميت ويُذهب به إلى مثواه الأخير . هذه النهاية في الحقيقة هي أبهج ميتة للإنسان لأنها النهاية الطبيعية لكل البشر وقد تريحه من متاعب الدنيا . كثيرون يجهلون أن أنواعاً أخرى من الموت تداهم الإنسان وهو لا يزال يسير على قدميه ويظل يسير بموته ويقال أنه لا يزال حياً يرزق . نوهت في العدد السابق عن دراسة الإنسان والشخصية الإنسانية وبأن البحث لا يزال مستمراً . موت الإنسان أو الشخصية الإنسانية لها دورها في هذه الدراسة ، فالإنسان يمكن أن يموت في عين نفسه ، أو قد يموت في عين الآخرين ، وكل ميتة منهما أمر من الأخرى ، كم من البشر ماتوا في عين أنفسهم لكنهم يجاهرون ويكابرون بأنهم لا يزالوا أحياءاً ، وكم من البشر ماتوا في عين الآخرين وهم يظنون أنهم لا يزالوا على قيد الحياة . الخائن لوطنه شخصية تجردت من الإنسان السوي وارتدت الشخصية الغير سوية التي سقطت في بئر الخيانة وتحول إلى متجرد من كل مظاهر الحياة في عين نفسه ، قد يحصد نتيجة خيانته ماديات لكن إحساسه بأنه في كفنه لا يفارقه . أما الذي مات في عين الآخرين فالقصص كثيرة ومتنوعة وقد يكون أبشعها ما سأرويه الآن ، قصة حقيقية استمعت إليها وكأنني أسمعها من فم ميت نهض ليرويها ثم يعود إلى الثرى . قصة اختزنتها في ذاكرتي منذ فترة طويلة كنوع من تشوهات الشخصية الإنسانية التي ليس لها علاج . كنت أذهب إلى مدينة باترسون بين الوقت والآخرقبل أن أنتقل من نيوجيرسي إلى نيويورك ، وكثيراُ ما كنت أُفاجأ بالبعض الذين يتعرفون علىَّ ككاتب ونقف للحديث معاً ، في ذلك اليوم تقابلت مع أحدهم الذي أصر أن يستضيفني في أحد المقاهي على فنجان قهوة بالرغم من محاولتي المستميتة للاعتذار ، ، كان في البداية مجرد حديث عادي ثم انقلب بالنسبة لي إلى ما يشبه حديث سرادق العزاء عندما سألته عن آخر مرة ذهب فيها إلى مصر فضحك قائلاً أنه لم يذهب منذ 18 عاماً ، ظننت أنه لقيط ليس له أهل ، لكن الفاجعة أتت في كلماته التي تشبه النواح ، ترك هناك أسرة من أب وأم وإخوة ، ومنذ ذلك اليوم لم يطالع وجوههم ، سألته وأنا أحاول أن أخفي دهشة باطنها الرثاء ، ألم تشعر بالاشتياق نحو الجميع ونحو الوطن ، ضحك ضحكة مجوفة ونطقها كجملة قبيحة ، نعم اشتقت لكن الوطن هو المكان الذي أُرزق فيه ، والأهل هم الزوجة والأولاد الآن ، وكسؤال أحسست أنه كتحصيل حاصل : ألم تجد بعض الوقت حتى تذهب إلى هناك في عطلة ، أجاب بأنه كثير التنقل من عمل إلى عمل ويخشى أن يطلب عطلة فيفصلوه ، وكسؤال كالهباء : هل تصلك أخبارهم ، أجاب بين الحين والآخر ، علمت أن والدتي قد رحلت أما أبي فهو في رعاية أختى الكبرى ، لم أشعر بالتقزز في حياتي كما أحسسته في هذه اللحظة ، كنت أود أن أقول له كلمات الرثاء لأُعزيه في نفسه ، لكن أحسست أنه لا يستحقها . من المؤكد أنه مات في عين أسرته قبل أن يموت في عيني !!.
edwardgirges@yahoo.com