فلسطيــــن …
بقلم : تميم منصور – فلسطين المحتلة …
مضى أسبوعاً على رجوع أبي سليم سالماً بعد عملية التسلل التي قام بها الى قريته ، وطنه ، لكن زوجته أم سليم بقيت في حالة خوف وقلق والنار تشب في قلبها وروحها المشتتة ، بذلت كل ما في وسعها لتقصي ومتابعة أخبار القرية ، لعل هناك إشارة أو كلمة تدل على وجود زوجها ، كانت تصغي لأحاديث الناس في القرية ، لعل خبر استشهاد زوجها ينتشر ، خاصة أن أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت عندما تقتل المتسللين تُبلغ مختار القرية ويطلبون منه الدفن بسرعة وفي منتصف الليل .
أصبحت غاية أم سليم التأكد من سلامة زوجها ، طلبت من أبنها سليم سماع أخبار المتسللين لعل أحدهم يحمل أخباراً ، ثم توجهت الى امام المسجد كي تستفسر منه عن
هذا الأمر ، وعندما رآها قادمة عدّل من عمامته ووضع يده على طرف ذقنه الطويلة بشكل غريزي وأخذ يُسبح بمسبحته وقد ظن بأنها جاءت لطلب المساعدة المادية ، لأنه كان دائماً يستجير بالمصلين لتقديم المساعدة للمحتاجين ، سارع بالاعتراف أنه مقصر معها ومع أطفالها ، لكن أم سليم ردت عليه بخجل :
– لا يا سيدي الشيخ والله مستورة معانا ، لكن جاي أسألك اذا سمعت عن مقتل متسللين في المنطقة .
استغرب سؤالها وقال :
– استغفر الله يا بنتي .. فال الله ولا فالك ، ليش هو أبو سليم كان متسلل عندكم ؟؟؟ . والله ما سمعت شي يا عمي !!
لقد شعرت ام سليم بنوع من الاطمئنان وعادت الى بيتها ، وقد تسللت الى صدرها ريحاً دافئة أنعشت روحها وطردت حزنها .
بعد مرور شهرين بدأت تظهر عليها علامات الحمل ، اعتبرت هذا الحمل لعنة وفضيحة أمام أهلها وجيرانها وسكان القرية ، ماذا ستقول لهم ؟ عتبت على أبي سليم الذي تركها في مهب رياح الفضيحة والعار ، وأخذت تتساءل هل سيتذكر زوجها ما قام به ؟ أم سينكر ويتهمها بالزنا ؟ .
لقد وجدت نفسها بين نارين ، نار الفضيحة ، هل سيصدق والدها وأخوتها وسكان قريتها أنها حامل من زوجها ؟؟ ونار الخوف من الحاكم العسكري حيث نار السجن لأنها تسترت على متسلل ، ولأن حملها سيكون الشاهد عليها .
كيف ستخرج من هذا المأزق ، أخذت تبحث عن خيار ثالث بعيداً عن السجن والفضيحة هو التخلص من الجنين بكل الطرق ، لكن أي محاولة اجهاض قد تودي بحياتها ، عندها سيصبح أطفالها الخمسة مشردين لن يقبلهم أحد حيث الفقر يعض بأنيابه جميع الناس .
عاشت الليالي وهي تفكر ، وقد وصلت الى قرار أن السجن أفضل من الفضيحة وذل العار الذي سيلبس عائلتها ويكلل رأسها بأشواك القال والقيل .
أبلغت والدها وأخوتها بالحقيقة ، قامت بتفريغ لياليها السوداء وحيرتها ودموعها في جعبة والدها الذي تفهم وضع أبنته ولم يقم بلومها مثلما لامها شقيقها الأصغر ، بل صرخ والده بوجهه محذراً من لوم اخته ، قام بمعانقتها وهدأ من روعها .
كيف علم الحاكم العسكري بأمر الحمل ، بقدر ما كان التكتم على الموضوع الا أن بطنها بدأ يكبر ، وهي تعرف المثل الشعبي لا يمكن إخفاء ( الحب والحبل والركب على الجمل ) لذلك كان الاستدعاء الى مكتب الحاكم امراً متوقعاً .
عندما طلب منها الحاكم العسكري توضيح أمر الحمل ترددت ، خافت من السجن ، عرف الحاكم ماذا يدور في نفسها ، قال لها أنت زانية ؟؟ أجابت أنا حبلت من زوجي ..! ضحك قال يعني كان متسلل ..!! لازم انت تنحبسي توخذي جزائك .. حتى يتعلموا المتسللين انو عيالهم رهائن عنا .
تدخل المختار وبعض الوجهاء لدى الحاكم العسكري لمنع سجن أم سليم ، واعتبروا سجنها عاراً على المجتمع العربي ، وهي لم تذنب فقد تسلل زوجها دون علمها .
أنجبت أم سليم طفلة وقد علم زوجها بولادة طفلته ، أرسل لها المال عبر أحد المتسللين ، وبعد سنتين حملت ام سليم مرة أخرى ، وقد قصت أم سليم قصتها التي أصبحت من نوادر القرية ، أنها هي تسللت وذهبت الى زوجها في بلدته وراء الحدود ، فقد كان التسلل هذه المرة عكسياً ، مكثت عنده خمسة أيام ورجعت ، حيث كان والدها وأخوتها يعرفون بذهابها ، لقد أصبح حملها عادياً ، لم يعد الحاكم العسكري يسألها ، وقصتها أصبحت نكتة في البلدة .
بعد عدة سنوات توسط الوجهاء للم شمل الاسرة ، وفعلاً نجحوا بذلك ورجع أبا سليم الى قريته التي استقبلته استقبال الأبطال ، فهو لم يخرج من البلدة ، كان أولاده يولدون الواحد تلو الآخر .
عندما التقيت به كان عجوزاً لكن يملك روح الدعابة ، وكانت أم سليم دائماً الى جانبه يجلسان أمام بيتهم ، حتى أصبحا معلماً من معالم التحدي للحكم العسكري والتصميم على أن لا شيء يوقف الحياة .
وعندما سألته كم من الأولاد أنجبت من وراء الحدود أجاب أربعة .. !! أجاب بخفة دمه المعهودة ، لو بقيت هناك أكثر كان خلفت عشرة .. يعني بدو يمنعوا نسلي .. مستحيل !!!