فضاءات عربية …
بقلم : تميم منصور – فلسطين المحتلة …
عندما سمع الشيخ سلامة عبارات الأستاذ فارس المهينة طأطأه رأسه صامتاً ، مستسلماً ، وحتى يثبت الأستاذ فارس أن الشيخ سلامة فعلاً هو البغل الذي يلزمه طورية نمرة خمسة ، ناوله طورية كبيرة وأمره بحفر خندق مخصصاً لصرف مياه الأمطار ، خاصة وأن فصل الخريف كان يودع أيامه الأخيرة والشتاء يدق الأبواب
بدأ الطلاب العمل في حرث الأرض بهمة ونشاط ، أما الشيخ سلامة فبدأ يعمل وحده في حفر الخندق الذي كلف بحفره ، بعد أن اطمأن الأستاذ فارس ان العمل يسير حسب ما يريد ، لوّح بالعصا التي كانت لا تفارقه مهدداً وقال : ( اياكم وشغل الدهملي ) ثم التفت الى الشيخ سلامة وقال له : اسمع ولا درباس – وقد كان قد لقبه بهذا اللقب – بدي عمق الخندق متر على الأقل والا بدفنك فيه .. ! ثم أضاف سأغيب ساعة ، اياكم ترك العمل ، فرح الطلاب لأنهم تخلصوا من الدروس المحشورة بين جدران الصف ، هنا في الهواء الطلق يشعرون بالحرية والانطلاق .
عاد اليهم بعد مرور ساعة ، وكانوا قد انتهوا من حرث الأرض وتعشيبها ، لم يتركوا عشبة برية أو نبتة طالعة من بين التراب لكي تتنفس ، فالأرض جاهزة الآن لاستقبال البذور ، لاحظ الطلاب أن الأستاذ فارس لم يتوجه اليهم ، بل توجه رأساً الى الشيخ سلامة وكان يبعد عن طلاب صفه حوالي 200 متر تقريباً ، ثم سمعوا صراخاً وبكاء وعبارات توسل ، فقد أخذ الأستاذ فارس يضربه بالعصا دون رحمة ويركله برجله ، لا أحد من الطلاب يعرف لماذا كان يضربه ، كل الذي فعلوه وقفوا يتفرجون على منظر المدير المصاب بالهيجان والطالب المسكين الذي لا حول ولا قوة له .
أخذ المدير ينادي عليهم حتى يتقدموا ويشاهدوا خيبة وفشل الشيخ سلامة ، تقدموا فوجدوا زميلهم في قعر الخندق يبكي ويرتعد من الخوف ، والعرق يتصبب من وجهه الذي التصقت عليه ذرات التراب ، ويردد والذعر يملأ نظراته المنكسرة ( والله العظيم اني كنت أشتغل ، لكن الأرض كانت قاسية والطورية اللي معي ثقيلة ) لكن الأستاذ فارس لم يسمعه بل صرخ بأعلى صوته : شوفوا هذا الخامل الكسول ، طلبت منه حفر خندق بعمق متر واحد على الأقل ، لكن لم يسمع كلامي فالخندق الذي حفره لا يتجاوز عمقه النصف متر .
كعادته الأستاذ فارس عندما يغضب يبدأ بضرب كف يده اليسرى بالعصا الموجودة في يده اليمنى ، ثم وجه للطلاب سؤالاً عن الحديث النبوي الشريف الذي له علاقة بالغش ، لم يستطع الطلاب الإجابة من شدة الخوف من عصاه ونظراته القاسية فقطع صمتهم الطفولي ( من غشنا فليس منا ) لذلك الولد – درباس – الشيخ سلامة خالف هذا الحديث قولاً وعملاً ، لذلك قررت دفنه هنا في هذا المكان حتى يكون عبرة لغيره ، هل أنتم موافقون ؟؟ أجابه الطلاب نعم يا أستاذ موافقين .
مَن من الطلاب لديه الجرأة على معارضة الأستاذ فارس . في البداية أعتقد الطلاب أن المدير يمزح معهم أو يقول ذلك لكي يخيفهم ، ثم توقعوا أن يهرب الشيخ سلامة عندما يسمع كلمة الدفن ، لكنه من شدة خوفه استسلم لقدره وأخذ يبكي بصمت .
أما الطلاب فقد أخذوا يوسعون الحفرة التي كان قد حفرها الشيخ سلامة ، ثم أمسك الأستاذ فارس بالشيخ سلامة وانزله في الحفرة وطلب من الطلاب أن يهيلوا التراب عليه ، وهنا كانت المفاجأة ، حيث سمع الطلاب الصراخ قادماً من جهة باب المدرسة ، فقد جاءت والدة الشيخ سلامة تولول وتلطم وتبكي ، فقد تسلل أحد الطلاب وركض باتجاه ارض الشيخ سلامة حيث كانت والدته تعمل في الأرض وأخبرها عن محاولة دفن ابنها سلامة من قبل الأستاذ فارس .
توجهت الأم الى الحفرة وانتشلت ابنها بعد شتمت الاستاذ فارس وصبت لعناتها عليه وعلى عائلته وأولاده ، وكان رده أنه يريد أن يخلق من ابنها زلمي .
عندما أخرجت الأم ابنها من الحفرة ، كان قد بول على دشداشته المخططة من الخوف ، فما كان من الأستاذ فارس الا أن أخذ يردد أمام الطلاب قولوا عنه ( أبو شخة ) .
ونظر الى الأم التي ضمت ابنها وهي ترتعش خوفاً قائلاً : حطي بحضنك حتى يطلع مره مثلك … فقالت له : مرا .. مرا .. أحسن من واحد مجنون مثلك .
ولم يعد الشيخ سلامة الى المدرسة ، واكتفى بأن يتعلم حتى الصف الرابع الابتدائي ، وكلما كان يلتقي مع اطلاب صفه كانوا يقولون : احكيلنا لما دفنك فارس ، فيضحك بحزن ويؤكد أنه ما زال يرى الأستاذ فارس حتى بعد مضي سبعون عاماً في أحلامه أو بالأحرى كوابيسه .