الجاسوس أحمد عثمان – بقلم : فؤاد عبد النور

استخبارات وجاسوسية …
بقلم : فؤاد عبد النور – المانيا ….
في أطراف سهل ابن عامر، وقرب طريق الناصرة –  بيسان، بوجد أحد حصون تيجرت التي بناها الجيش البريطاني لمقاومة الثورة الفلسطينية  36 – 1936.  اشترى الأراضي المحيطة  بالمنطقة هذه  المستوطنون الأوائل وطردوا المزارعين الفلسطينيين منها بمساعدة قوات الانتداب، وأقاموا مستوطنة زراعية، اشتهرت  في إسرائيل  بتعبئة الخضار والمخللات في عبوات مختلفة الأحجام.
أثناء بحثي عن أخبارٍ متعلقة بالقرى العربية التي دُمرت في ذلك السهل الخصيب المشهورباسم ” مرج ابن عامر ”  لبحثي الميداني لمسودة ” الجليل .. الأرض والإنسان ” لطبعته الثالثة،  تعثــّرت بخبرٍ عن هرب مجموعة من السجناء الأمنيين العرب من سجن شطة ، الذي وسِّع وحُصن ليصبح سجناً  للفدائيين والمتسللين العرب بالغي الخطورة. وكثيرا ما مررت من على جانب ذلك الحصن  في طريقي إلى بيسان في بحثي هذا، وغالباً ما كنت أرجع من بيسان  إلى رام الله من على الطريق الالتفافية التي شقتها إسرائيل إلى القدس والبحر الميت، فقرأت خبراً لا أذكر الآن من  أين ، عن تمردٍ حصل في هذا السجن، وهرب مجموعة من السجناء العرب تمكنوا من الوصول إلى ضفة الأردن الشرقية في الخمسينات. لم أعرف ماذا حصل لهم بعد ذلك.
لم آخذ ذلك الخبر بجدية،  مستغرباً أن ينجح مجموعةٌ  من السجناء العرب في الهرب من ذلك السجن، شديد الحراسة، والمعزول بعيدا عن أي تجمع عربي من الممكن له أن يساعد في ذلك الهرب. ولكن إلياس ذكر الكثير عن تلك العملية، وبالتفصيل،  وذكر أنه في الواقع  قد فرض طوقٌ  على منطقة  شفا عمرو، وغيرها  بحثا عنهم .
فرحت لما وجدت تفاصيل عن  ذلك التمرد في كتاب إلياس نصر الله ،  وقد خصص الكاتب له فصلاً  مستقلاً، ساعده في ذلك معرفته باللغة العبرية،  ومتابعته لذلك الحدث  الذي صعق إسرائيل وأشعر شعبها بعدم الاطمئنان في السنة 1958، خاصة لما انتشر في الصحف  الإسرائيلية أن حوالي 66 سجيناً قد نجحوا بالوصول إلى نهر الأردن، وخاضوه  إلى الضفة الشرقية.
تفاصيل الخبر الأول كان أنه في عام 1958 تمرد 200 من المتسلللين الفلسطينيين , وحرقوا فراشهم, وهاجموا الحراس, واختطفوا المفاتيح, واستطاعوا الهرب إلى الأردن القريب. عند ذلك تردد في الأخبار اسم أحمد عثمان, وهو صحفي مصري, تسلل إلى إسرائيل عارضاً العمالة, ولكن تبين فيما بعد أنه مرسل من المخابرات المصرية.
شاع في إسرائيل أن العقل المدبر لذلك الهرب لم يكن سوى الجاسوس المصري ” أحمد عثمان ” ، الذي تنقل في عدة سجون إسرائيلية، واستقر أخيراً في سجن شطة، وكان يتمتع بالذكاء والقوة البدنية، ولكن رفاقه الذين استفادوا من خطته هربوا، بينما علقت ثيابه في الأسلاك الشائكة، ولم ينجح في فك نفسه، فأُمسك به ثانية ، وحوكم على تخطيط الهرب،  ولم يثبت عليه التجسس، لإنكاره المستمر، وكان الإثبات الوحيد ضده صورة التقطت من الصحف المصرية له واقفاً  خلف عبد الناصر الجالس في اجتماع، وتعرف مصرية يهودية عليه  في تل أبيب.  ولم تعترف الحكومة المصرية به، وبالتالي لم تطالب به. ولم يخرج من السجن إلا في عام 1966، بعد أن اقتنعت الحكومة الإسرائيلية أن لا فائدة من الاحتفاظ به.
بقي إلياس يتابع  أخبار وطنه وهو يعمل في ” مجلة الشرق الأوسط”  الملحق الأسبوعي لصحيفة الشرق الأوسط الأسبوعية ، ولاحظ أن الصحافة الإسرائيلية كانت لا تزال تتابع أخبار ذلك الهرب، ولجان التحقيق التي انشغلت في دراسة ما تم، ودراسة نقاط الضعف التي مكنت ذلك العدد من السجناء من الهرب، ففاتح زميلته المصرية  ” فوزية سلامة  ” المشرفة على تحرير المجلة،  وأقنها بأنها قصة تستحق الملاحقة، وطلب منها الاتصال بالزملاء في مكتب القاهرة للبحث عنه. وتم ذلك، ولكن وجد أن أحمد عثمان شخصية  غير معروفة في مصر، ولا أحد يعرف له مكان  إقامة. وبناءً على إلحاح إلياس، استمر البحث فوُجد أن له ابنة  تعمل في السلك الدبلوماسي المصري،  فتم الاتصال  بها، ورفضت إعطاء الصحفية  رقم هاتف  والدها قبل استشارته.  تبين أنه  قد تقاعد من العمل في السلك الدبلوماسي بعد أن أُعيد إليه اعتباره، وهو مقيم مع عائلته في بودابست، ووافق على الاتصال، وطلب من فوزية القدوم إلى بودابست للتباحث حول إمكانية نشر قصته. استشارت فوزية رئاسة المجلة ، فوافقوا على شراء حقوق نشر القصة، على  ألاّ يكون المبلغ المطلوب تعجيزياً.
رافق إلياس فوزية إلى بودابست، واتصلت فوزية  بأحمد، وأخبرته أنها قادمة برفقة زميل لها، فلم يمانع، وأرسل سيارة لتجلبهما إلى مطعمٍ فاخر في العاصمة. كانت الجلسة الأولى متحفظة قـليلاً، ولكن الدفء سادها في النهاية عندما وجد أن له مع فوزية  ذكريات مشتركة  للكثير من المعارف في القاهرة، وارتاح لقدوم صحفي من الجليل المحتل، يتقن العبرية، وتناقل معه الكثير من الأخبار عن الوضع في إسرائيل بحكم تجربته السابقة فيها.
لم توافق رئاسة الشركة على دفع مبلغ مئة  ألف دولار ثمناً للقصة، ولكن الكاتب استطاع الإمساك بكثير من خيوط  القصة  من الصف الإسرائيلية والمصادر المختلفة، بحيث قدم للقارئ صورة ًواضحة لما تم.
من الأمور التي اعترف بها أحمد  عثمان  للصحفيان فوزية وإلياس أنه قد أيد ثورة 23 تموز، وانخرط في أجهزة الأمن المصرية. ولما  اتجهت دوائر الأمن المصرية لمحاولة اختراق الحواجز الإسرائيلية والعمل من داخل إسرائيل وقع عليه الاختيار، واجريت له التدريبات المكثفة ، وأوفد إلى فرنسا التي كان الكثير من المعارضين للثورة المصرية قد لجأوا إليها.
ادعى في فرنسا أنه  صحفيٌ  معارض للثورة المصرية، وانغمس في النشاطات المعادية  للثورة تلك، فلفت  أنظار الاستخبارات الإسرائيلية  التي كانت تنشط  بين الأوساط المعارضة للثورة المصرية. وراقبوه لفترة، ثم اتصلوا به، وكانت تلك الفرصة التي خطط  لها رؤساءه في القاهرة. وتحدث أحمد عثمان أمام الإسرائيليين بأنه يتمنى أن يتمكن من إقامة إذاعة خاصة لبث مواد تحريضية ضد الثورة وضد عبد الناصر.
بلع اٍلإسراائيلون الطعم، وشجعوا الفكرة، ولكنهم أخبروه أن تحقيقها ممكن فقط  إذا أقام في إسرائيل، فتمنـّع أول الأمر، ولكنه وافق في مرحلة متأخرة، واسـُـتقبل استقبالاً مشجعاً في إسرائيل، ولكن الأمور جرت بما لا تشتهي السفن، إذ تعرفت عليه أمرأة يهودية كانت تعيش في مصر، فشُـك فيه، واعتقل، ولكنه بقي ينكر تهمة التجسس. إلا أن  الاستخبارات الفرنسيـُة طلبت المحافظة عليه معتقلاً لوجود شكوك بأنه كان يقوم بنشاط سري في فرنسا تأييداً للثورة الجزائرية.
تفاصيل بقية القصة طويلة، خاصة فيما يتعلق بالترتيبات التي قام بها لتنفيذ الهرب من سجن شطة، لا إمكانية لنقلها جميعها في هذا المقال. ونختمه بالتذكير أن أحمد عثمان لم يكن الجاسوس المصري الوحيد الذي عمل في،  أو ضد إسرائيل. قصة رأفت الهجان معروفة ومشهورة. هناك  كيفورك يعقوبيان المصري الأرمني، الذي أجريت له عملية ختان حتى ينجح في عمله التجسسي في إسرائيل، وسبعة آخرين، يهمنا أكثر ما يهمنا منهم كفلسطينيين” عبد الرحمن قرمان “، ابن أخ الحاج طاهر قرمان، الصناعي وتاجر الأراضي المشهور في حيفا، الذي لا  يزال اسمه يذكر كلما ذكرت شركة السجاير” قرمان ديك وسلطي” والذي كان آخر منصب تولاه أيام الانتداب وبعده بقليل هو ” نائب رئيس بلدية حيفا ” ويذكر عنه أنه حاول مع رئيسه ليفي رئيس البلدية تجنيب حيفا  اضطرابات 47 – 1948 بجعلها مدينة مفتوحة، بتشجيع السلطات الانتدابية، رحمة بالصناعات المتطورة التي كانت قد ازدهرت  في منطقة حيفا، ولكن رشيد الحاج إبراهيم، رئيس  اللجنة القومية العليا في حيفا، و ممثل الهيأة العربية العليا  رفض، وقال بصراحة أنهم ملتزمون بقرارات الحاج أمين بإثارة الاضطرابات حتى الوصول إلى النصر المؤزر المحتوم!!
(من كتاب إلياس عطالله :  “شهادات على القرن الفلسطيني  الأول”،  دار الفارابي 2016 )
————————————-