فرادة ُ الغيطاني

فن وثقافة (:::)
بقلم : عبد الرحيم الماسخ – مصر (:::)
منذ بداياتي الأولى اتصلتُ و في محاولة جريئة مني بالأديب الكبير جمال الغيطاني رحمه الله ، كان ذلك بالتحديد سنة 1986 م و قد كان هذا الرجل حديث عهد بالإشراف على باب أخبار الأدب بجريدة الأخبار ، طبعا كانت لي من قبل إرهاصات و محاولات نشر أنجحها كان نشر مقاطع من قصائدي المرسلة إلى باب الأدب بجريدة الجمهورية تحت إشراف د. فتحي عبد الفتاح ، وأفشلها كان بعض الردود أو الطلقات النارية التي أطلقها علي باب أدباء الأقاليم بجريدة الجمهورية تحت إشراف محسن الخياط إذ طالبني ذلك الرجل بالتنحِّي عن الكتابة و تركها لمن هم أقدر مني وأذكي ……..
‎بعدما قدّم الأستاذ جمال الغيطاني أولى قصائدي و عنوانها الأهواء مُرَحِّبا و متوقعا لموهبتي الأدبية مستقبلا بشروط منها الاستمرار و المراجعة و التطور مع الصبر على البقاء بنجع الماسخ و عدم الهجرة إلى القاهرة للإبقاء على جذوة الإبداع المغايرة في طول التجربة و عرضها ، في الحقيقة لقد أعاد الرجل بحكمته و تواضعه و إخلاصه لي كرامتي و كانت من قبله رهن الاستهتار و التكبر و كراهية الآخرين ، و بذلك استمرت موهبتي و إن تعثرت مرارا و تكرارا في محاولات دائبة للحاق بركب الناجين ، و حتى الآن و قد نشرت عدد كبير من القصائد لم أجد منفذا جادا لكتبي النثر منها و الشعر فلم يصدر لي إلا ثلاثة كتب  , و مما أثر في َّ أبلغ تأثير أنني ذات يوم بينما كنت أسير في طريقي إلى أخبار اليوم توقّفت ُ أمام باب مؤسسة الأهرام و قد حدّثتي نفسي الطماعة أن أدخل هذه الجريدة فقد أجد منها نفس الاهتمام خاصة و أني قد قطعت شوطا ليس بالهين ، و قد برز نجمي أخيرا في كثير من المجلات : إبداع ، القاهرة ، الشعر ، الثقافة الجديدة ، أدب و نقد ، الكويت ، الفيصل ، الشاهد ، الهلال ، النصر ، المعرفة ، المنهل ، المجلة العربية ، الوحدة ،حريتي ، الجسرة ، الجوبة ………….إلخ.
و لأن الأهرام مثل الأخبار مملوكة للدولة دخلتُها و سألت ُ عن شاعر كنت ُ أجلّه من قبل فقد كان دائم الظهور على شاشة التلفاز كثير الكلام عن شباب المبدعين يُطالب مَن لا نرى بالنزول إلى ميدان الكدح و العطاء يُصفّق لنتاج مغرق في الضبابية ، لقد أغرق ذلك الشاعر حياتنا بظلاله فطلبته بالذات للقيا لأتعرف على التضحية و الفداء عن قرب ، اتصل لي به أحدهم أمامي و بعدما أملى عليه اسمي و عنواني و كرر الإملاء صمت َ و بعد بُرهة أشار عليَّ بالانصراف مدّعيا أن الشاعر الكبير في سفر ، لم يتوقّع ذلك الرجل سؤالي المُباغت : فمَن كنت َ تُكلِّم ُ عني إذن و لمن أمليت َ اسمي و عنواني؟ و لهواني على ذلك المسئول أجابني بلا اهتمام : إن الشاعر المطلوب مشغول دائما و لا يريد أن يُضيّع وقته !
‎و لأن النِعم لا تُعرف إلا بالنِقم فقد سرّني ذلك الموقف و جعلني أعترف لنفسي أولا و أخيرا بقيمة هذا العَلَم الذي مد و يمد يده للمواهب فينتشلها من الغرق واحدة بعد أخرى حتى امتلأت مصر بالمبدعين الناجين إلى النور تحت عباءته التي وسعت الوجود كله ، لقد أدركتُ في تلك اللحظة الفارق الشاسع بين القول المُرسل و الفعل الثابت الأكيد ، لقد فقد الجميع و خاصة صغار الأدباء ركنا ركيزا بفقد الأستاذ جمال الغيطاني ,  لكن الدنيا دول ، ونفَس جمال الغيطاني يتردد و صوته سوف يستمر هامساً بقوة إلى يوم الدين في خططه و تجلياته و نثار محوه و زيني بركاته وهاتف مغيبه و رسالته في الصبابة و الوجد و و و…
‎لن يعود الأمل من جديد بمزيد من المنابر تتكأكأ عليها الشلل و لا بكثير من الجوائز تُضاف سُترة بعد سترة فولاذية للطعن و الاتقاء ، لكن ذلك الأمل الموعود معقود على شخصيات تهُبُّ في كل زمان ومكان كالعنقاء من تحت الرماد ، شخصيات تحب و تكره لهذا الوطن ، لا تفتح الثغرات للظلام باصطياد النور و حبسه في قمقم صدئ من فكرها الضحل ثم تجلس فوق فوهة ذلك القمقم تعيد و تزيد في فرادتها و ندرتها في انتظار صباح لن يعود إلا بزوالها.