قراءة سياسية لما وراء الانتفاضة

سياسة واخبار (:::)
د. ناجي شراب – فلسطين المحتلة (:::)
بعيدا عن إشكاليات التوصيف والجدل الفكرى العقيم الذى يعكس حالة من الإختلاف والضبابية لدى النخب الفكرية التى يبدو انها قد تفاجأت بإنبعاث الروح الفلسطينية من جديد، وبعيدا عن المقارنة بين الإنتفاضتين ألأولى والثانية، وبعيدا عن النظريات المفسرة لهذه الروح المتجددة فى شبابها، فإن ما يجرى لا يمكن فهمه اولا إلا من خلال رؤية شاملة للشخصية الفلسطينية ومكوناتها ،والحالة السياسية الفلسطينية التى يعيش فيها المواطن الفلسطينى. فالشخصية الفلسطينية شخصية أبرز سماتها النضال ورفض الإذلال، والإهانة الوطنية التى يعانى منها المواطن الفلسطينى ، فهى شخصية رافضة لكل أشكال الظلم والقهر والإستبداد والفساد، وسمة النضالية سمة أساسية فى هذه الشخصية ، والتاريخ الفلسطينى لا يخرج عن هذه السمة ، تاريخ ثورات وهبات وإحتجاجات نضالية ، قد تقوى أحيانا، وقد تخفو أحيانا أخرى ، وقد تهدأ لفترة طويلة ، لكنها تستدعى فى اى لحظة زمانية تستوجبها الظروف السياسية الشاملة التى يعيش فيها هذا المواطن. والجانب الأخر الذى يقف وراء تجدد هذه الروح، من ناحية إستمرار الإحتلال الإسرائيلى ، وسياسات الإستيطان والتهويد والسياسات القمعية وألأمنية المتطرفة ، وهى سياسات نقيضة للشخصية الفلسطينية ،او بعيبارة أخرى تشكل تهديدا لبقاء وإستمرارية هذه الشخصية ، وهذا ما لم تدركه إسرائيل،ان هناك شعب ، وهذا الشعب له هويته، وحقوقه الوطنية ، وان الإحتلال يتعارض وديمومة هذه الشخصية ، لذلك ما يجرى نتاج طبيعى لحالة الإنسداد السياسى فى اى حل، فمن ناحية الشخصية الفلسطينية ليست شخصية عنفية كما يعتقد ويتصور، بل هى شخصية مسالمة ومتعايشة ، ولديها إستعداد كبير للتعايش مع الشعب الإسرائيلى ،ـ بل هناك الكثير من مظاهر التعايش هذه، لكن المشكلة ان إسرائيل لم توظف هذا الإستعداد، وتتيح الفرصة له بشكل اكبر، وكان هو الداء الناجح ضد اى تطرف وتشدد،وبدلا من ذلك إنتهجت إسرائيل سياسات تبعد هذا التعايش ، وتخلق حالة من النفور، والكراهية والحقد، بسبب السياسات الأمنية والقمعة وتمادى المستوطنيين فى الإعتداءات على السكان الفلسطينيين، وبسبب الفتاوى الدينية التى تعمق من هذا التباعد، هذا الجانب لا يمكن إغفاله، والجانب الأخر الذى أيضا لا يمكن إغفاله الحالة السياسية الفلسطينية ذاتها ، والتى قد شكلت بكل أبعادها بيئة إحباط وخصوصا للجيل الشاب الذى وجد انكل ألأبواب تغلق فى وجهه، وتفتح وتحتكر من قبل الجيل القديم ، هذه الفجوة كانت سببا رئيسا، بيئة حرم فيها  على هذا الشباب من المشاركة والمساهمة فى القرار السياسى الذى يمسه، ناهيك عن الإنقسام السياسى الذى يقف دون تطور وتجدد هذه الروح فى إنتفاضة شاملة ، وهذا الإنقسام اوجد حالة من عدم الثقة والتشتت والتشرذم المجتمعى ، ويضاف إلى ذلك التراجع فى الأداء الإقتصادى ، وإنتشا رمظاهر الفساد، وتكدس الثروة فى يد فئة قليلة ، وهذه من شأنه ان يحدث فجوة كبيرة بين سلم التوقعات وهو بطبيعنه مرتفع لدى هؤلاء الشباب ، وبين القدرة على الإستجابة للمطالب المتنامية والمتزايدة لدى هذه الشريحة ، وهنا اود أن أشير إلى نقطة ضعف سياسية ،ان هذه الفجوة هى نتاج عملية طويلة من أداء السلطة ، ولها إمتداد طويل، لكن الإشكالية التجاهل لها من قبل صانعى القرار السياسى ،إلى ان وصلت إلى ذروتها لتندلع وتنفجر  معبرة عن نفسها. وهنا اقف عند نقطة هامة أخرى  وأحذر منها ان السلطة وهى جزء لا يتجزا من الحالة السياسية ، لا يفترض ان تكون هدفا مباشرا ، بل ينبغى العمل وبشكل سريع لخلق حالة من التنسيق المشترك، فأخشى ما اخشاه ان تكون السلطة هدفا مشتركا لأكثر من قوة تريد التخلص من السلطة ، وخلق حالة من الفوضى الشاملة التى قد تجد فيها بعض القوى ما تريد، وهذا هو الذى يميز هذه الإنتفاضة عن سابقاتها، فهذه المرة تحدث فى ظل بيئة سياسية تعانى الإنقسام ، ولا يمكن تجاهل تداعيات هذا الإنقسام الذى يمكن ان يساهم فى تحول الإنتفاضة من الضغط على إسرائيل لوضع حد لسياساتها القمعية وألإستيطانية ، وعدم المساس بالأقصى الذى يشكل مكونا رئيسا فى تحديد مكونات الشخصية الفلسطينية . وتبقى مسالة تتعلق بالقضية الفلسطينية  ذاتها ـوالصراع العربى الإسرائيلى ، فهذه الإنتفاضة تأتى فى ظل بيئة سياسية إقليمية ودولية غير مواتية، وغير مشجعة ، بل ومجهضة، فالبيئة العربية تعانى من الإنشغال بقضايا داخلية ، ويتهددها العنف والإرهاب، والتشدد والتطرف، وخطر التفكك، لذلك هى غير مستعدة للتعامل مع إنتفاضة فلسطينية جديدة ، ودوليا الإنشغال بالعديد من الملفات ليست فلسطين بينها ، وهذه البيئة تدعم الموقف الإسرائيلى ، وتغطى عن كثير من سياساته ألأمنية القمعية ، ومن ناحية اخرى وهنا تكمن الخطورة محاولة الربط بين ما يجرى فى فلسطين وما يجرى عربيا، وكل هذا يستوجب المراجعة والتقييم فى ألأليات والأهداف، حتى نضمن إنتفاضة أقرب إلى السلمية المدنية الشعبية والدولية فى إمتداها، وهذا الموضوع سأتناوله فى مقالة لا حقة .
دكتور ناجى صادق شراب
drnagish@gmail.com