المضحكات (8)

فن وثقافة (:::)
بقلم : عبد الرحيم الماسخ – مصر (:::)
29} حيلة }
علم المهندس الزراعي أن في منطقة إشرافه بيت يُشيَّد على أرض زراعية يُحرِّم القانون البناء عليها , فأسرع من فوره إلى ذلك البناء وهدد صاحبه بعمل محضر مخالفة له وإزالته إذا استمر البناء , ولأن صاحب ذلك البناء يعرف الطريق المستقيم لقضاء مصلحته قال للمهندس : لقد اتفقت مع رئيس وحدتك على الثمن وأعطيته له نقدا , فلا شيء لك عندي , عند إذ اغتاظ المهندس وعزم على الانتقام من رئيسه الذي حصل على الرشوة لنفسه ومن صاحب البناء لأنه تخطّاه وتعامل مع رئيسه مباشرة فحرمه من الرشوة , لقد ظل ذلك المهندس يفكر ويبحث له عن وسيلة ترد له اعتباره دون الصدام المباشر برئيسه الذي يعرف جبروته وُقوّته في الباطل وسطوته , فإذا عرف ذلك الرجل أن هذا المهندس يحاربه أن يخطط لتدميره بكل السبل وذات يوم وبينما ذلك المهندس يسير في منطقة إشرافه رأى رئيسه جالسا في أحد المقاهي ففرح وأسرع إلى صاحب البناء المقصود , وقال له رئيسي يقول لك : النقود التي أعطيته إياها رشوة عن بناء هذا البيت قليلة لم تكف ما طلبت الإدارة منه لحماية البناء من الإزالة فإما أن تسلمه الآن نقودا مماثلة وإما أن يُحضر لك لجنة الإزالة فورا , خاف الرجل من هذا التهديد بشدة وقال له : النقود معي ولكن لا آمنك على تسليمها لرئيسك فسأسلمها له بنفسي , فوافقه المهندس على ذلك واصطحبه معه وعند الوصول إلى المقهى همس له قائلا : إن رئيسي بالداخل ولا يصح أن تعطيه المبلغ أمام الناس فهات المبلغ وسأقوم بتسليمه له أمامك لتصبح خاليَ البال في الحال , فوافق الرجل وأعطاه المبلغ ودخلا المقهى سويا , فمال المهندس على رئيسه هامسا ثم أعطاه المبلغ , فاطمأن الرجل واستأذن وذهب إلى حال سبيله , بعد أيام حضرت لجنة الإزالة إلى ذلك البيت فصاح الرجل : رئيس الوحدة أخذ الرشوة مضاعفة على مرحلتين فكيف تزيلون بيتي , ولكن لا حياة لمن ينادي , بعد ذلك إتمام الإزالة ذهب الرجل إلى رئيس الوحدة في بيته معاتبا , لكنه فوجئ برئيس الوحدة يقول له : متى أعطيتني الرشوة الثانية ؟ وأين ؟ أنت لم تعطني سوى مبلغ كذا يوم كذا , وعندما ذكّره الرجل بحكاية النقود التي أعطاه المهندس إيّاها في المقهى تعجّب قائلا : لقد مال المهندس عليَ وقال لي في أذني : جيبي مخروم فاحفظ لي هذه النقود في جيبك , لكن رئيس الوحدة تذكّر في الحال أيضا أن المهندس بعد خروج الرجل من المقهى قال له : هات النقود , وعندما أجابه : ستضيع من جيبك المخروم , قال سأمسكها في يدي فلا تقلقْ , ثم خرج من المقهى مسرعا للإبلاغ عن ذلك البناء الجديد على أرض زراعية كي يحضر له الإزالة الفورية!!
*************************************
30} صداقة }
فِرحَ الرجل البسيط كثيرا بالصداقة الجديدة , فأخيرا ابتسمت له الدنيا فصادَق موظفا مهما , لقد وعده ذلك الموظف بعد إلحاح منه بزيارته في منزله المتواضع بعدما توسّط له عند زملائه فقضوا له مصلحًة مهمة في لمح البصر , لقد كان من عادة ذلك الرجل إذا اقترب من مصلحة حكومية أينما كانت أن تشمله الرهبة منذ كان طفلا ورأى بأم عينه أباه يهان على أيدي وأقدام الموظفين بعدما انفلت لسانه مطالبا إياهم بحقه المهضوم , لقد رأى أباه متعثر اللسان في الرجاء والذل أمام من لا يرحمون , ولأن ذلك الرجل أمي لا يكتب ولا يقرأ فهو دائم الحرص على كل تصرفاته لأنه دائم الخوف من الخطأ , أخيرا اضطرته الظروف لعمل حيازة زراعية لصرف مستلزمات الإنتاج فذهب خائفا يترقب إلى الجمعية الزراعية يقدم رجلا ويؤخر الأخرى حتى وقف أمام المسئول الذي رآه ملكا هابطا من السماء لساعته فتمسّك بآخر حبال الصبر وألقى السلام , لكنه تفاجأ بوقوف الموظف له وترحيبه به في تواضع واحترام . الرجل أصبح كالخارج من السجن يريد احتضان الكون , يترقب الموظف العظيم الذي وعده بالزيارة , إنه يبدو على مد البصر يتقدم في نوره , فليقم للقائه , بعد الترحيب مبهور الأنفاس بالضيف الكريم قدّمه لكل أفراد الأسرة للتعارف ولزيادة آصرة المحبة , وأحضر له كل المشروبات فاعتذر عنها بحجة أنه مريض بمعدته ولا يشرب إلا مشروبا بعينه يعرف أنه يباع في محل بعينه , على الفور أرسل الرجل ولده لصاحب المحل فأحضر المشروب وقدمه للضيف . بعد أيام حضر صاحب ذلك المحل إلى الرجل مطالبا إياه بمبلغ كبير , اندهش الرجل لغرابة ذلك الدين الخيالي لكن اندهاشه لم يستمر كثيرا إذ قال له صاحب المحل : ألم ترسل إليّ يوم كذا الموظف فلان لشراء كذا وكذا و و و اقتراضا عليك بأمارة أنك أرسلت إليّ ابنك فلان قبله بساعة لشراء مشروب كذا !؟
****************************************
31} تحسين كلام }
أخيرا وقف الرجل الأمي قليل الحيلة بجانب الرجل المتعلِّم ذي الحيل أمام المُحقق المهيب ذي الأشرطة الفضية , إلى هذه اللحظة لم يكن الرجل الأمي خائفا من شيء فهو يرى أنه صاحب حق والحق يعلو ولا يعلى عليه , الرجل الأمي ككل أبناء القرية البسطاء لا يعرف اللون الرمادي للأشياء وما دام الحق حليفه فماذا يخشى , في هذه اللحظة بالذات انهارت حصون الثقة عنه وانكشف ببساطته وجهله وضعفه , فلقد أخرج الرجل المتعلم من جيبه نقودا كثيرة أعطاها للمحقق قائلا له : أنا رجل عالم فلا أريد الإحراج أمام هذا الجاهل , في الحال انتفض المحقق واقفا وصفع الرجل البسيط صفعات متتالية وهو يصيح به : ماذا حدث للدنيا ؟ الجاهل يخاصم العالم أمامنا ونقف مكتوفي الأيدي ؟ إنه آخر الزمان , لكن لا بأس , سأضعك في مكانك المناسب , ثم صاح بالجند فحضروا مسرعين وحملوا الرجل البسيط حملا , في السجن جلس الرجل البسيط يفكر , لو كان معه نقود لفعل مثلما فعل العالم لينقذ نفسه , لكن ما باليد حيلة , العين بصيرة واليد قصيرة, , المهم ماذا يفعل ؟ إنه سيموت كمدا , لقد خدعه ذلك الرجل في وقت قاتل, وأخيرا فتحوا له الباب فوجد الرجل المتعلم أمامه قائلا له هيا نذهب , لقد صفحت عنك إشفاقا عليك ولم أرض لك البقاء في السجن حتى الموت , الرجل البسيط ظل مندهشا من كل ما يرى ويسمع , إنه صاحب حق , لقد جار عليه ذلك الرجل المتعلم حافظ كتاب الله , الرجل الوحيد في القرية الذي يخطب الجمعة ويستفتيه العامة في كل أمورهم , الذي يتكلم بالحكمة ويجبر السامعين على التهليل له كلما صمت , وعندما تقدم هو لمصاهرته ورضي ذلك المتعلم بتزويجه من ابنته ظن أن السماء فُتِحت لاحتضانه فهو مستور ما له ولا عليه ولا يحتاج إلا بعض الاستنارة ليسير في الدنيا على خير, أما المتعلم فهو رجل فقير يعيش من ثمار يجمعها كل موسم حصاد من أهل القرية أجرَ إمامته للمسجد وتعليم الأولاد في الكتّاب على اللوح والفتاوى الكثيرة التي يطلبها الناس منه والتي زادته مع الأيام هيبة ووقارا , الرجل الأمي أخيرا غضبت عليه زوجته وأصرّت على الذهاب إلى بيت أبيها فقد عجز عن مُراضاتها ويئس من كثرة طلباتها التي لا حيلة له في قضائها , وبين حين وآخر توبِّخه ناعية النعيم المقيم الذي لا يعرفه إلا بيت أبيها الرجل العلَم المُتفقِّه الفاهم ………. إلخ . , وبعد أيام ذهب الرجل الأمي وراء زوجته راجيا استرجاعها , فإذا بأبيها يطرده بالعصا , فلم يجد أمامه إلا باب الشرطة يطرقه لأول مرة في حياته . خرج الرجل الأمي من السجن مكسور الجناح فبصمَ للمحقق على مالا يعلم وأدى كل فروض الطاعة حتى وجد نفسه هو وصاحبه في الشارع فتنفس الصعداء وقال له : كيف تدّعي العِلم وتدفع رشوة للمحقق كي يُضيِّع حقي الظاهر ويعتدي عليّ أمامك ؟ فتبسّم الرجل المتعلم قائلا بخُبس : أنا لم أدفع الرشوة وكل ما فعلتُ هو تحسين كلام فلو لم يضربك المحقق لضربني !
*********************************************
32} مُخالصة }
عندما كانت البلاد تحت الاحتلال كانت مُثقلة بالضرائب التي ُتفرض على الناس بسبب وبلا سبب , فلا يكاد ينجو منها غني ولا فقير , لكن البعض لم يُحرم الحيلة في سبيل الخلاص من ذلك الهم الثقيل , فانتشرت ظواهر مثل الهروب الجماعي لغير وُجهة معلومة والانخراط في جماعات المجاهدين ……….. إلخ , لقد كانت المحاولات فردية في الغالب وكُتِب لبعضها النجاح وكتب لبعضها الفشل , ولم يحدث أن تحايلت قرية كاملة بكل شرائحها على ذلك النظام , لذلك ظلت هذه الحكاية متناقلة بين الأجيال للتسالي وللعظة أحيانا , فلقد حكوا قالوا : أن قرية كانت حاضرة نهر النيل في صعيد مصر , أهلها يعملون بالزراعة , ولم تفلح معها كل محاولات المحتل وأعوانه لإجبارها على دفع الضرائب , كلما ذهب الملتزم وصحبه إليها خرج أهلها سراعا إلى مغارات في الجبل المجاور حتى نفد صبر العسكر فأوعزوا إلى المأمور أن يبتكر حيلة مُضادة فأحضر مركبا ملأها عن آخرها بصوف الغنم وعبرت بها القوة المكلفة إلى الشاطئ الآخر للنهر حيث تقبع تلك القرية المنسية , ودخلوا على العمدة وكان رجلا وطنيا يخفي وطنيته , قالوا له : نحن نعلم أن قريتك فقيرة لذلك أعفيناها من الضرائب بشرط أن تغزل لناهذا الصوف خيوطا دقيقة , فرحّب العُمدة بهم وأظهر لهم سعادته , وقال لهم كالعادة : لم يهرب أبناء قريتي من وجهكم وإنما هم دائمو البحث في الجبل عن كنوز وهمية أوصاهم آباؤهم بالبحث عنها جيلا بعد جيل , بعد أيام ظهر في المدينة القريبة صياح وهرَج ومرج , أسرع أفراد الشرطة إلى المصدر فوجدوا أهالي تلك القرية المنسية يحملون حبلا مهولا من الصوف المجدول وقد ربطوا به المسجد الجامع وراحوا يشدُّون وهم يتصايحون : شدُّوا لله شدوا لله , سألهم بعض الناس في عجب عن فعلهم هذا فقالوا لقد أحضرت لنا الحكومة منذ أيام صوفا كثيرا فصنعنا منه هذا الحبل لنجُرّ به هذا الجامع الكبير إلى قريتنا , لماذا يكون للمدينة جامع وليس لدينا جامع ؟ إننا مثلهم تماما , وبعد مغالبات ومحاورات وتهديد ووعيد أحضر لهم رجال الشرطة الهجَّانة الذين انهالوا عليهم ضربا بالكرابيج وهم يصيحون ويجرون حتى وصلوا النهر فهربوا في مركبهم والمأمور من ورائهم يصيح : اتركوهم تماما , لا تذهبوا إليهم مرة أخرى ولا تطلبوا منهم شيئا, إنهم مجانين لقد خربوا الصوف فجعلوه حبلا , يا خسارة