معلولا… بوابة الزمن

دراسات (:::)
بقلم : عيسى سامي المهنا (:::)
بين الصخرات الثلاث المحيطة بمعلولا في شرقها وغربها ووسطها والتي تسمى محلياً “شنا” تَعلق جزء هام من تاريخ البشرية والإنسانية جمعاء، تفاعل وتحاور من خلال طبيعة خاصة “جبال وكهوف وسهول” وبيئة حيوية “كائنات حية برية” وحوامل بشرية “إنسان معلولا” فأنتج ما يمكن أن يتجاوز الصورة الثابتة عن الماضي السحيق ليتجسد حقيقة نتلمسها ونتفاعل معها ونقرأ عبرها بوضوح تاريخاً حياً متحركاً متجاوزين ما اعتدنا عليه من قراءات وتأويلات ونظريات لمكتشفات أثرية ثابتة جامدة من أحجار وكتابات ورسومات على الجدران وغيرها.
يأخذك ذلك التفاعل الحي في معلولا لتفتح بوابة الزمن وتسير عبرها لحظة بلحظة مكتشفاً ذلك الماضي الساحر ومستمعاً إلى حكاياه المدهشة متعمقاً بأسئلتك… سائلاً التاريخ نفسه تفسيراً عن كل لغز استعصى وغموض حير علماء الآثار وأساتذة التاريخ وحكماء الإنسانية وفلاسفتها مجيباً بقلب منفتح وروح مأخوذة بجمالها الآسر عما استعصى عن الفهم وذلك لحظة رؤية كهوف معلقة بالسماء ومغاور نحتتها روح الإنسان بعناية وصبر وجمال، ومعابد تقدست…أديرة وكنائس ممسكة بماضيها غير المسيحي معلنة ذلك بحكمة تنسجم مع إيقاع الكون العظيم. صفاء المكان كطفولة نقية لم تتأثر بالتغيرات، سحره يحاكي الخيال لتتفتح  بصيرة القلب ويُسمع نبض الحياة مع كل نسمة ريح أو شعاعة شمس أو نظرة إلى الـ هناك.
هي معلولا بموقعها القديم بجانب دير مار سرجيوس وباخوس تدعى البلاد الفوقا وبلوتا علّو بالآرامية. سماها السلوقيين بنكرابولس، وأخذت اسم سكوبولوسا  Scopuloasa في العصرين الروماني واليوناني أي الموعرة المحجرة. أما اليوم فهي المضيق أو المعبر لوقوعها بين البادية وغوطة دمشق1.
تمسك معلولا بطرفي الزمن لعدم انقطاع الحياة فيها منذ أقدم العصور حيث كانت شاهداً على مختلف الحقب المتعاقبة ففي مغرها وكهوفها حكاية الهندسة الأولى وقصة النسر السوري 2 نحتاً على الجدار والأيقونة النافرة فوق صخر نابض    بالحياة كل هذا في معبد إله الشمس Helios Temple مغارة الأب يوسف وفق التسمية الشعبية وما تحتويه من كنوز وأدلة تاريخية ناطقة، إضافة إلى كتابة جدارية تشير الى مكان ربما أقدم معبد مسيحي قبل إنشاء وانتشار الكنائس في سوريا في القرنين الرابع والخامس.
وفي حمام الملكة تحكي الحجارة الضخمة بأبعاد 1.5×1.5×1.5متر قصة التحول إلى مرحلة تطويع الحجر ونحته وبنائه لنقل الماء من دير مارتقلا إلى الحمام.

حمام الملكة
تلفتك صخرتين تدعيان شيرا. الأولى في الجهة الشرقية من البلدة صخرة الملك والملكة وبالآرامية شيرا ملكا ملكثا احتضنت نحتاً نافراً يتجه جنوباً لسيداً وسيدة معاً يمسك كل منهما بيد الآخر ضمن إطار منحوت بعناية مستطيل الشكل يعلوه نصف دائرة بأبعاد تقريبة 1.5×2.25م ترعاه مقولة شعبية ترفرف في المكان تناقلتها الأجيال: مالي قبالي وأنا قبال مالي 4.
والثانية صخرة الكهوف “شيرا خوّو” تقع في الحارة الغربية “نحيثل معرْبا” يسار الطريق الصاعد إلى سرجيوس وباخوس، تداخلت فيها الكهوف الطبيعية ومغر نحتها الإنسان بانسجام ودقة يعلوها ويحيط بها مجموعة من اللحود بأبعاد مختلفة. ولكن اللافت في هذا النموذج من اللحود أنها تتواجد فوق مكان السكن مباشرة بعكس المعتاد فغالباً ما تكون القبور فوق الأرض أو تحتها5.

وفي المكان القريب من صخرة الكهوف يوجد تجويفاً في الصخرة الغربية من صنع الطبيعة يدعى الحصن هندسه أهالي القرية واحتمى به كل من النساء والأطفال مع رجل وبندقيته هو الأمهر بإصابة الهدف في البلدة، هذا ودام حصارهم في الحصن 8 أشهر تقريباً منذ الهجوم في 16 تشرين الأول من العام 1925، علماً أن الأهالي صعدوا إلى الحصن بسلم خشبي ضخم صنّعه أنطون ميلانة ورفاقه 6.وعلى بعد عشرات الأمتار من صخرة الكهوف وعلى نفس الطريق تقع المشنقة في تجويف صخري طبيعي بديع الجمال يدل على العدل الذي ساد في العصور السابقة 7 .

الحصن
في معلولا دير مار تقلا الذي يعتبر شاهداً على البدايات الأولى للتحول إلى المسيحية، والقديسة تقلا اهتدت إلى النصرانية ببشارة القديس بولس أحد رسل السيد المسيح الإثني عشر. هربت من ظلم أبيها وعند هروبها وجدت نفسها إزاء جبل دون إمكانية الهرب فابتهلت إلى الله لينقذها فقسم الجبل إلى قسمين وظهر الفج فاستطاعت أن تتخلص وتهرب إلى مغارة شربت من مائها ويستطيع الزائر أن يشرب من نفس الماء المقدس”وفق الرواية الشعبية”. 8

دير مار تقلا
على الصخرة الغربية في البلدة العلوية يطل دير القديسان سرجيوس وباخوس مقابلاً دير القديسة تقلا ويشرف على البلدة الحالية وقد بني هذا الدير على أنقاض معبد وثني على اسم الإله أبولون، اشتهر بمذبحه وهو أقدم مذابح المسيحية في العالم، وميزته الفريدة أنه مجوف ومخرجه مغلق، إشارة إلى أن ذبيحة القداس هي ذبيحة حقيقية ولكنها غير دموية وسرية ، وهو التطور الذي عبرته المذابح إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي. أما حجر مذبح الشمالي مكرس للعذراء مريم، والمذبح الجنوبي على اسم ميخائيل رئيس الملائكة.

المذبح في دير سيرجيوس وباخوس
أشهر أيقونات الدير الأيقونة ذات الرسمين الصلب في الأعلى والعشاء السري في الأسفل الذي يحتوي على طاولة تأخذ شكل نصف دائرة تشبه شكل المذبح الرئيسي في الدير9.
كان حوار الإنسان مع هذا المكان منذ البدايات الأولى، وتعود أقدم الحوارات المثبتة علمياً إلى الفترة إنسان نياندرتال ما بين 150- 250 ألف سنة الذي قاوم واستمر وصولاً إلى ما يحتضنه متحف دير عطية من مكتشفات معلولا التي تعود إلى 30000 سنة ق.م وبعدها الإنسان العاقل بين 7000–10000 قبل الميلاد 10مروراً بالتحولات والنشاطات أهمها اللغة الآرامية التي حملها إنسان معلولا الحي اليوم لتكون حاضناً لمعارف الإنسان الأول والحرف الآول آلفAleph  “الذي يختصر رسم الثور” مروراً بالكلمة الأولى والجملة الأولى، والنص الأول الذي اختزن المعرفة الرعوية والزراعية والصناعية والتجارية…
وصولاً إلى المعرفة الإنسانية والتراثية وما احتوته اللغة من قيم حية تفسر غموضاً استعصى على كثير من العلماء لجهلهم بمفاتيحها الأساسية التي تحل وتفكك كثيراً من الألغاز الغامضة. وآرمية معلولا ليست إلا دليلاً حياً نابضاً يفسر كثيراً من أسماء المدن والبلدات والقرى في منطقة الشرق فتورا بورا مثالاً تعني بالآرامية الجبل الأقرع وكلمة مرحبا (moro hobo) تعني الله محبة وصولاً إلى غموض في النص القرآني الذي حير كثيراً من علماء الدين واعتبروه إعجازاً إلاهياً لتفسره آرمية معلولا بيسر وسهولة فألف لام ميم تختصر ثلاث كلمات إيمار (emar) لي (Lee) مريو (Mario) وتعني قال لي الرب 11.
سادت الآرامية الغربية مدة ألف عام قبل المسيح في الشرق الأوسط وبهذه اللهجة تكلم السيد المسيح وتلاميذه، وشارك بلغتها الأسقف المعلولي أفتيخيس في أول مجمع مسكوني للكنيسة الواحدة الجامعة عام 325 للميلاد وصاغ قانون الإيمان الذي يردده جميع المسيحين في أنحاء العالم في صلواتهم 12.
وبذلك تكون الآرامية المحكية دليلاً حياً على عصر هام من عصور الحضارة السورية القديمة، له اتصال وثيق بعصورٍ سوريةٍ سابقة ومعاصرة للآرامية تحفظ لهجة معلولا نموذجاً لغوياً يشير إليها من خلال الجذور اللغوية والألفاظ والمفردات التي حافظت على نقائها طويلا كالألفاظ الأكادية والكنعانية والأرامية العظمى والعربية المنزهة عن التأثيرات اليونانية13. إضافة لكونها لغة فكر ولاهوت والدين وفلاسفة لغناها ومرونتها وعمقها.
معلولا التي ندين لها بكثير من إنجازات على مستوى الإنسانية فكل ذرة تراب لها حكاية ولكل حجر قلب نابض ولكل نبرة صوت على شفاه المعلوي لحن أبدي. تاريخها حي بموجوداته، هي المتبقي من التاريخ الناطق ، فيها التفسير لما هو عالق وشائك وغامض في مختلف مناحي الحياة، فيها الفن والكتابة والتراث الشعري والغنائي والمحكي. هي حاضن السر والمحافظ عليه للباحث عنه هي…وما يخطر ببال كل مهتم فأي كلام عنها بعد ما حل بها لن يكون للاستعراض الإعلامي أو لتحقيق مكسب سياسي أو الاكتفاء بالتوصيف والتحسر لما تعرضت له معلولا بل ليكون مسؤولية جماعية عالمية في الحفاظ على بقايا حضارة عبرت التاريخ رغم المصاعب وإذا ما اندثرت ربما سنخسر الجزء الأغنى على مستوى الإنسانية جمعاء.

المراجع هوامش:
1- أثناسيو،الأب هاجي، سوريا المسيحية في الألف الأول الميلادي المجلد الخامس ص299.
2- قصة النسر السوري الذي بقي منه أعداداً قليلة في الجبال المحيطة بمدينة تدمر وهو حالياً شعاراً الجمهورية العربية السورية.
3- أثناسيو ، سابق ،ص307.
4- فرنسيس موسى،من سكان معلولا الناطقين بالآرامية لقاء،بتاريخ 27/7/2015م ، وزودنا  أيضاً  بالمصطلحات الآرامية الواردة في متن النص.
5- مشاهدات مشروع التوثيق البصري لآثار سوريا انطلاقا من حوران جولة معلولا في ايلول 2014.
6- وفق الذاكرة الشعبية الحية، عن طريق فرنسيس موسى.
7- أثناسيو، سابق ص302.
8- أثناسيو، سابق ص 308.
9- أثناسيو، سابق ص314.
10- نصرالله الياس، معلولا وموقعها وتسميتها ولغتها دراسة وصفية تحليلية،طبعة ثانية 2006 ص75- 76.
11- لقاء مع الأستاذ جورج رزق الله أستاذ اللغة الأرامية في معهد اللغة بمعلولا أيلول 2014.
12- نصرالله ،سابق ، ص 108 ، 109 ،110.
13- د.يونس د. إياد ،خلايلي د.ابراهيم مشروع إعادة تأهيل معلولا تقرير العمل الشهري الأول، المديرية العامة للآثار والمتاحف، أيلول 2014 ،ص20.