سياسة واخبار (:::)
بقلم: د. لبيب قمحاوي – مفكر ومحلل سياسي من الأردن (:::)
يغادرنا عام 2014 بأسوأ مما دخلناه، ولا نعلم بالضبط إذا كنا سنغادر عام 2015 بأفضل مما دخلناه، ولكن الأهداف لا تتحقق بالتمني بل بالعمل المتواصل لتطوير منابع القوة الذاتية إلى الحد الذي يُمكنها أن تصبح روافع حقيقية للتغيير نحو الأفضل.
تميز عام 2014 بتبلور دور العرب كأدوات بيد الغير لتدمير الذات العربية والكيانات السياسية المنبثقة عنها. فالإرهابيون عرب وضحاياهم عرب، والإسلاميون عرب والعلمانيون عرب، و”داعش” عربية إسلامية تقتل العرب والمسلمين وتقاتلهم، والعرب يقتلون “داعش” ويتحالفون ضدها. القاتل عربي والمقتول عربي، الصامد عربي واللاجئ عربي، القاصف عربي والمقصوف عربي والدمار للعرب، وبلاد العُرْبِ أصبحت إما جحيماً لأهلها أو ملاذاً لغير أهلها من اللاجئين. الكل ينظر إلى الداخل الدامي بأعين دامعة وإلى الخارج الهادئ بحسرة. تلك هي محصلة عام 2014 وهو عام أقل ما يوصف به بأنه كان عاماً دموياً بامتياز على العرب.
ونحن إذ نستذكر المآسي والمجازر التي ما زالت تعصف بالعديد من الأقطار العربية، إلا أن علينا الابتعاد عن نهج النواح والبكاء، والنظر إلى الأمام في محاولة جدية لسبر غور التغييرات الإستراتيجية التي تقف فعلاً وراء من يجري من أحداث.
الآن ونحن على أبواب عام جديد، فإن الأمة العربية ما زالت تمر بمخاض عسير ودامٍ لا يقبله عقل. فهذه الأمة ترزح تحت ضغوط عديدة قد تؤثر في واقعها وعلى مستقبلها. ولكن من الواضح أن تعامل العرب مع هذه الأمور يسير في اتجاه تقليل الخسائر، أكثر من العمل على منع وقوعها. ما نحن فيه الآن يؤكد أن العروبة قد أصبحت أقل رومانسية وأكثر واقعية وتواضعاً في أهدافها وطموحاتها. العقل العربي قد فقد رصانته أمام أموال النفط العربي، والإرادة العربية أخذت تنحني أمام مصالح دول النفط العربي بشكل ملحوظ، بل وينحني العالم العربي الآن بعلومه وعلمائه وفنونه وفنانيه وآدابه وأدبائه وأغانيه ومغنيه أمام مثيلها القادم من عالم النفط كما لم ينحني من قبل. والفنون مثلاً انتقلت من عنفوان “الوطن الأكبر” إلى استجداء “الحلم العربي”. الشباب العربي يغني بحسرة كل على وطنه، والكل يبكي على وطنه. الفلسطيني والسوري والعراقي واللبناني واليمني والليبي، كل يبكي على وطنه المذبوح، المغني يبكي والمستمع يبكي. ما الذي حصل لهذه الأمة وكسر عنفوانها إلى هذا الحد؟
من المتوقع أن يشهد عام 2015 تجذر العديد من المشاكل والتحديات التي تسللت من عام 2014 وفرضت نفسها على الواقع العربي بشدة.
“الإرهاب” هو أول هذه التحديات وأهمها. وفي هذا السياق يعتبر تنظيم “داعش” أعظم اختراع أمريكي منذ مطلع القرن الحالي. فهذا الاختراع قد مَكَّنَ أمريكا من أن تنَفِذْ كافة مخططاتها ضد العرب وبأيدي عربية وعلى الأرض العربية وبتمويل عربي وبما يخدم مصالحها ومصالح “اسرائيل” وتحت مظلة تحالف دولي يستخدم بعض العرب كأدوات لخدمة المخطط الأمريكي، خصوصاً وأن علاقة أمريكا هي في الأساس مع الأنظمة العربية وليس مع الشعوب العربية.
وقد فتح هذا الاختراع “الداعشي” الباب أمام أهم تغيير استراتيجي في الفكر السياسي العربي منذ نكبة فلسطين عام 1948. نحن الآن أمام استعداد عربي علني وحثيث لاستبدال حالة العداء الإستراتيجي لـ”إسرائيل” بالعداء لما يسمى بـ”الإرهاب الدولي”. وهذا في حقيقته حملة من الغرب ضد العرب أنفسهم. إن عملية إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين حصراً هي لب المشكلة. فالعرب لا يؤيدوا الإرهاب ولكنهم في الوقت نفسه لا يوافقوا على أن منابع الإرهاب محصورة بهم. وتعريف الإرهاب بالنسبة للعرب بشكل يؤدي إلى استثناء إرهاب الدولة، خصوصاً “اسرائيل”، هو بحد ذاته ممارسة نوع من الإرهاب على العرب أنفسهم ووضعهم أمام خيار اللاخيار: إما القبول بإلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين، أو في حالة الرفض اعتبارهم مؤيدين للإرهاب.
إن ما يسمى بالحرب على الإرهاب هو في حقيقته حرب العالم الغربي على “الشرق الأوسط” بمكوناته الرئيسية من عالم عربي وعالم إسلامي، حيث لا شعور بالذنب لدى الغرب مهما كان حجم الدمار أو عدد الضحايا سواء أكانوا من العرب أو من المسلمين.
إن استبدال العداء العقائدي لـ”إسرائيل” بعداء سياسي غامض في أهدافه متذبذب في أساليبه سيؤدي إلى إعطاء “اسرائيل” صك غفران على ما فعلته بالفلسطينيين وعلى احتلالها واستعمارها لأرض فلسطين، ويسمح لها من خلال الممرات السياسية المتعرجة والملازمة لما يسمى بالحرب على الإرهاب بأن تكون في الواقع جزأً من تحالف دولي ضد الإرهاب يشمل العرب و يضعهم في مصاف الحلفاء مع “إسرائيل”.
سوف يشهد عام 2015 بدايات تبلور تغييرات استراتيجية هامة تغوص في العمق العربي وتعيد تعريف أسس الصراع والتحالفات بين دول المنطقة بشكل قد يكون صادماً للجميع. فـ”إسرائيل” سوف تنتقل بموجب هذه التغييرات من وضع العدو الإستراتيجي الأول إلى وضع “الدولة الحليفة” دون أن يكلفها ذلك التنازل عن مترٍ واحدٍ من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وَصِفة العدو الأول سوف تنتقل إلى ما يسمى بـ”الإرهاب” وهو يشمل تنظيمات ودول إسلامية وعربية توجهها، سواء عن قرب أو عن بعد، قوى غربية صديقة لـ”إسرائيل” أهمها أمريكا.
التحدي الثاني الذي يجابه العرب في العام 2015 هو المتعلق بالقضية الفلسطينية. فهذه القضية لم تعد في الواقع على سلم أولويات السياسة الخارجية لأي دولة عربية. ان سقوط القضية الفلسطينة من سُلم الاهتمام العربي بشكل عام، وليس من سلم الأولويات فقط، هو محصلة طبيعية لانتقال “اسرائيل” من صفة “الدولة العدو” إلى صفة “الدولة الحليف”. وفي واقع الأمر لا نستطيع أن نستثني السلطة الفلسطينية من المسؤولية عن هذا المآل الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية. ولكن في الوقت نفسه لا يجوز استعمال القصور الرسمي الفلسطيني كعذر للآخرين ليفعلوا ما يحلوا لهم بفلسطين وبالفلسطينيين. فتجاهل فلسطين والبطش بالفلسطينيين خطيئة، أما الدخول في حلف استراتيجي مع “اسرائيل” فهو قمة الخطايا بل والخيانة نفسها، حتى ولو كان ذلك تحت شعار مكافحة الإرهاب أو درء الأخطار القادمة من إيران بالنسبة لبعض الدول العربية.
إن إدعاء بعض الدول العربية بتراجع التهديد “الاسرائيلي” لأمنها القومي هو تفكير ساذج يقع في خانة الأماني. فالأمر يعتمد على “اسرائيل” وحدها وهو بالتالي ليس محصلة علاقة ثنائية تفاعلية. ولذلك فإن ما تريده أو تفكر به هذه الدولة العربية أو تلك لا يعني شيئاً على أرض الواقع خصوصاً بالنسبة لـ”إسرائيل”. والدور “الإسرائيلي” مثلاً في العدوان الأخير على الحقوق المصرية في مياه نهر النيل هو دليل صارخ على أن “اسرائيل” سوف تبْقى عدواً استراتيجياً للعرب مهما بلغ مستوى الدفء في علاقة السلام أو التحالف الاستراتيجي الذي يربطها مع هذه الدولة العربية أو تلك.
إن تصور وتصوير الإرهاب باعتباره جسماً مادياً يقوم فقط بالهجوم والاحتلال والقتل وقطع الرؤوس هو تفكير سطحي ساذج بالرغم من أنه قد يكون صحيحاً من ناحية مادية. فالإرهاب يبدأ حقيقة في العقل وإن كانت نتائجه تخلو من العقل أحياناً كثيره. إن ما يدفع الإنسان إلى السلوك الإرهابي هو حالة ذهنية يعتبر فيها الإنسان الفرد أن الظروف السائدة المحيطة به ظالمة وغير مقبولة وأن التخلص منها وتغييرها حتى ولو بأشرس الأساليب هو أمر حميد وله ما يبرره وهو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله. كلام يسبح في الغيبية والباطنية، ولأنه كذلك، يسهل التلاعب بالتفكير الإرهابي واستغلاله لمآرب أخرى كما كان عليه الحال مع تنظيم القاعده ومن ثم جبهة النصرة والآن تنظيم “داعش”.
إذاً نحن نواجه “إرهاب” نظري ومعلن ولكننا في الواقع أمام قوة تمهد لواقع آخر جديد. معادلة دقيقة جداً وتحتاج إلى درجة عالية من القدرة على الفصل والتمييز بين القول والفعل وبين ما هو ظاهر وما هو باطن.
التحدي الثالث يتعلق بمشكلة اللاجئين العرب من سوريا والعراق وليبيا واليمن وأقطار عربية أخرى، والتي ابتدأ الاهتمام الدولي بها ينحسر، وأصبح محصوراً بالبعد الإنساني واختفى البعد السياسي تقريباً بشكل كامل. وكما أوضح أحد المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين بقوله “لن يعود أي لاجئ إلى موطنه”. جميعهم، كما استطرد، “سوف يبقون حيث هم الآن”. إذاً المشاكل التي أدت إلى هذا الطفح من اللاجئين ستبقى. وحل مشكلة أولئك اللاجئين في المنظور الأمريكي سوف يتم من خلال توطينهم حيث يتواجدون وليس من خلال معالجة الأسباب التي أجبرتهم على اللجوء إلى دول أخرى. نحن إذاً نتكلم عن تغيير ديموغرافي عميق في دول المنطقة سوف يؤثر بالتأكيد على طبيعة العلاقات داخل مجتمعاتها وعلى مستقبلها. وأكثر الدول المرشحة لذلك هي الأردن التي تؤوي ملايين اللاجئين الجدد من سوريا والعراق ناهيك عن دول أخرى مثل ليبيا.
إن تحول اللاجئين العرب من مشكلة طارئة إلى واقع دائم قد يؤدي إلى تغيير الصورة السياسية في المنطقة وسوف يصبح أحد سمات العام 2015 وقد يساهم في تعزيز مخططات تقسيم دول المنطقة.
أما التحدي الرابع فهو إيران التي سوف تتولى دوراً رئيساً في الزعامة الإقليمية ضمن صفقة مع أمريكا. فإيران صبرت وضَحت وهو أمر لا يفعله العرب عادة، ولكنها سوف تغنم في النهاية، سيد جديد غير عربي سوف يدخل إلى المنطقة مجدداً وبدعم واعتراف دولي. والدور الإيراني الجديد في الإقليم سوف يكون استكمالاً لعملية إعادة رسم الخارطة السياسية لدول المنطقة وإضعاف الصفة العربية للإقليم. إن إعطاء إيران دوراً إقليمياً متزايداً سوف يؤدي إلى تعزيز الانقسامات المذهبية في “الإقليم الشرق الأوسطي” ويخلق قطبين رئيسيين كلاهما ليس عربياً وهما: إيران التي ستقود المعسكر المذهبي الشيعي، وتركيا التي ستقود المعسكر المذهبي السني. ومثل هذا الوضع سوف يعزز تقسيم المنطقة على أسس مذهبية ويساهم في تعزيز النفوذ الإيراني المباشر على الدول العربية. إن التصور الأمريكي العام لمستقبل المنطقة مرتبط بـ”أمن إسرائيل” ومصالحها وإيران تعلم ذلك جيداً. مرة أخرى، العرب يدفعون الثمن والآخرون يقبضونه ومستقبل قيادة “الشرق الأوسط” سوف ينحصر في “اسرائيل” وإيران وتركيا ولا وجود للعرب فيه.
وأخيراً فإن عام 2015 سوف يكون استمراراً لما سبقه في معظم الوجوه. العوامل الداخلية الهامة والمؤثرة هي تلك الكامنة في ضمير وعقل المواطن بشكل يدفعه إما إلى الرضى والقبول أو إلى الرفض والغضب وما قد ينجم عن ذلك من الالتحاق في صفوف تنظيمات مثل “داعش”. أما العوامل الخارجية فمن أهم معالمها والمتوقع لها الاستمرار في عام 2015 هو استمرار منظومة من الحكام العرب في الخضوع لإرادة الأجنبي وربط مصالحها بالدعم القادم من خارج أوطانها عوضاً عن الدعم القادم من داخلها، وقد فتح مثل هذا الوضع الباب على مصراعيه أمام تنظيمات دموية تعتبر العدو الحقيقي في الداخل قبل أن يكون من الخارج. وهكذا نتبين أن عوامل التغيير التي قد تقلب المعادلات التي سادت خلال عام 2014 هي أكثر تعقيداً مما نتوقع كونها لا تقتصر على جهة بعينها أو طرف دون آخر. والفيصل سيكون المواطن الفرد وواقعه وقناعاته الشخصية وليس الأيديولوجيا التي تحكم تنظيماً هنا أو تنظيماً هناك، بالإضافة إلى مدى استعداد العرب للاستمرار في الرضوخ لإرادة القوى الخارجية التي تهدف إلى إعادة تشكيل الوطن العربي كمدخل لإعادة استعماره وبأيدي أبنائه ورضاهم بل ومساعدتهم.
5/1/2015
lkamhawi@cessco.com.jo