دعاة عصاميون من ذاكرة الريف

 

التصنيف : فن وثقافة (:::)
نايف عبوش – العراق (:::::)
كان الريف في خمسينات القرن الماضي، يغط في جهل عميق، وتخلف مرير،وأمية مطبقة،وأمراض مزمنة، كجزء من الحال العام في الوطن العربي والعالم الاسلامي،وفي خضم هكذا ظروف قاسية، كان الفاضلان، محمد العلي الضاحي، وصالح الدهوك، قد استطاعا بحسهما الريفي المتوثب، وتطلعهما المؤمن، أن يتداعيا للتصدي لكل  تلك الإشكالات، التي تؤرق مجتمع ديرتهم.فقد قدر لهما ان يتواصلا مع الدعوة الإسلامية التي انفتحت على منطقة جنوب الموصل، وريفها في تلك الفترة، ضمن تحركها للإصلاح، ونشر الدعوة الإسلامية، وتخليص الدين من الخرافات التي لحقت به، بسبب الجهل والتخلف،حيث سادت الاعتقادات بالأساطير، والضرب بالسحر،والشعوذة، والدجل.
ومع أن الرجلين محمد العلي الضاحي وصالح الدهوك، كانا بالقياسات الاكاديمية ليسا من علماء الدين البارزين، ولا من الدعاة المختصين المشهورين، إلا أنهما كانا من العاملين المجدّين، وتمكنا بجهودهما الذاتية، من الالمام بتلاوة القران الكريم، وحفظا ما تيسر لهما من  سوره، بالإضافة إلى حفظ الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وخاصة المنتقاة من الأربعين النووية، ورياض الصالحين.كما أنهما فقها نفسيهما، بالكثير من أحكام الدين، بالرجوع إلى كتب الفقه المتيسرة.وحرصا على استظهار المأثورات من الأدعية والأذكار.
وقد كانا من دعاة الإصلاح والخير، ومتحمسان للدين والعلم والتحضر المحكوم بضوابط الدين الاسلامي. فعملا على نشر الوعي الديني المتنور في القرية،بسداد رأي، وفق قاعدة (يسروا ولا تعسروا)، فكسبوا الجمهور، ونالوا ثقته. وحاربوا بحكمة، المفاهيم والممارسات الدينية المتخلفة،التي كانت سائدة بين الناس، من دون تناحر،ومنعوا بلا هوادة، تردد الغجر إلى القرية، والقرى المجاورة، حيث كانت مضاربهم، مصدر فساد وإفساد، يتجاوز حالة الطرب البريء، إلى نشر مظاهر الفساد، والفتنة بين الناس. وحاربوا بتروي، مظاهر الشرك، وتقديس البشر باسم الولاية، انطلاقا من إيمانهما بعقيدة التوحيد الخالص.
وكانت مشاعرهما الإسلامية، متفاعلة مع القضايا الإسلامية والعربية  ، ويتفاعلون باهتمام مع حركة الأحداث، باعتمادهم شعار( إذا ذل العرب ذل الإسلام)، من واقع قناعتهما الثابتة، بان العروبة جسد روحه الإسلام. لذلك كانوا يدعمون نضال الجزائر، ضد الاستعمار الفرنسي، وينتصرون إلى قضايا المسلين في كشمير، كما حاربوا المد الشعوبي، وثقافة الإلحاد، لخطورتها على المجتمع العربي والإسلامي.فنهضوا بالوعي الديني الشعبي، في المجالس العامة والأماسي.
كما اهتموا ببناء الجيل، وتربيته تربية سليمة. فشجعوا الشباب على أداء الصلاة، وارتياد المساجد، والتمسك بالقيم العربية الإسلامية، بتركيزهما على شعار( نهوض الأمة في شبابها). وبادروا ببناء أول مسجد في القرية، من الطين، وبالتعاون مع أبناء القرية في عام 1956، حيث حرصا على ان يكون ذلك المسجد، نقطة إشعاع، ومصدر تنوير للشباب،وخاصة في المناسبات الدينية، ومن خلال حثهم على إلقاء الكلمات والخطب، وتشجيعهم على قراءة الكتب النافعة، وعرض بعض المواضيع المهمة منها على الجمهور، لتعميم الفائدة، وتفقيه الناس. وقد تواصل الدعاة من الموصل معهما في زيارات اسبوعية كل يوم جمعة للوعظ، ولإلقاء خطبة الجمعة في جامع القرية.
وبادرا إلى إنشاء المدرسة الابتدائية في القرية، بجهود مضنية، ومتابعات مباشرة، استغرقت الكثير من الوقت والجهد، مع المسئولين في المتصرفية، ومديرية المعارف، حيث تكللت جهودهم بالنجاح، فتم افتتاح المدرسة في أوائل العام1954. وكان المعلم الرائد والتربوي الحاذق، الذي افتتحها، ودرس الجيل الأول فيها، هو المرحوم الأستاذ محمود حامد سليمان، الذي آزرهما بشكل فعال، ورسخ تقاليد تربوية، ومعايير مدرسية راقية ورصينة، أنتجت جيلا من التلاميذ، بمستوى عالي من التعليم،فعلق في ذاكرة الجيل،حيث لا زالت تذكر مآثره التربوية بالإطراء حتى الآن.
وقد حرص المصلحان الفاضلان، محمد العلي الضاحي، وصالح الدهوك، على تسجيل كل شباب القرية، والقرى المجاورة، ممن هم في سن الدراسة، أو خارجه، وإلحاقهم بالمدرسة، وتشجيعهم على مواصلة الدراسة، لأنهما كانا يريان، أن العلم  يرفع شان الإنسان،ويقوده الى فهم احكام الدين.وقد تخرج بفضل هذا الحرص، جيل لامع من القادة، والمفكرين، والكتاب، والأكاديميين، والأطباء، والمهندسين. كما حرصوا على  تعليم البنات وتشجيعهن على الدخول إلى المدرسة أيضا في سابقة لم تكن مألوفة، ساهمت في تعليم البنات،والقضاء على الامية بينهن، من منطلق قناعتهما أن المرأة نصف المجتمع، ويقتضي الواجب الديني، ومتطلبات التطور الحضاري تعليمها، وإنقاذها من الجهل، والأمية، حيث تخرج منهن معلمات، وطبيبات، واختصاصات أخرى.
وكانا يضيفان الدعاة والمرشدين الجوالين في بيوتهم، على مدار العام، وفي المناسبات الدينية، ويستجلبون الفرق الصحية لمكافحة الأمراض المزمنة، ويسهلون السبيل أمامهم. وللأصداء الواسعة التي عكستها نهضة القرية، والمكانة المرموقة التي تبوأتها، بجهودهما المباركة، فقد زارها الكثير من الدعاة، وألقوا خطبة الجمعة من على منبر مسجدها.
وقد كانت جهودهما كرواد للنهوض، ودعاة للخير، ومربين اجتماعيين، متميزة في كل الاتجاهات. حيث ساهما في تنوير الجيل وصحوته الدينية، وقضيا على كل مظاهر العشائرية السلبية، وسموا بالتقاليد الاجتماعية، والقيم والأعراف الموروثة، إلى  مستوى متقدم من الوعي الديني والانفتاح المعتدل، بعد أن نقياها من كل ما لحق بها من أدران، مما جعلهما في المقدمة من أعلام القوم.
وبعد أن انتقل المرحوم صالح الدهوك إلى جوار ربه في أواخر العام 1959 ،ناء بعبء الإصلاح والدعوة، المصلح الكبير،زميله محمد العلي الضاحي، وقد نجح في مجال حركة الإصلاح الديني والاجتماعي، على حد سواء. فقد تمكن من تصفية كل مظاهر النزعة العشائرية الضيقة، وافلح في إشاعة جو اجتماعي ديني مريح في القرية، بحيث أصبحت مركز إشعاع متميز. وانعكس هذا المشهد الرائع، بتجلياته الايجابية، على القرى المجاورة. وبذلك خلت المنطقة، من إرهاصات التدابر، والضغينة، والتناحر، وعاشت حياة مستنيرة ومتوازنة.
وظل الداعية الراحل محمد العلي الضاحي رحمه الله خلال مسيرته الطويلة مصلحا اسلاميا اجتماعيا، ورائدا تنويريا، وداعية جليلا، في فكره وسلوكه، يحظى بثقة وتقدير الجميع، بما مثله من رمزية دينية واجتماعية عالية بينهم، حتى وافه الأجل المحتوم في عام 1989،فكانت سيرته الوضاءة محمودة، وجهوده مشكورة بين الناس. وبذلك ظل حيا في ذاكرة الجميع، بما قدمه من مسعى مبارك لدينه، ولقريته، ومنطقته.