الرابط : القصة (:::)
نزار نجار – سوريا (:::)
كانت ( شموس ) بقرة محبوبة , تعيش في بستاننا , تأكل العشب طوال الصيف , وتأكل القش طوال الشتاء , ولا تقوم بأي عمل في الصيف أو الشتاء سوى إنها تأكل .. و .. تأكل .. وكان جدي يحبها , ويقول : شموس بقرة ممتازة , تعطينا كثيراً من الحليب الأبيض الدسم !!
أما جدتي فما أكثر ما سمعتها تتباهى أمام الجيران وتقول :
منذ دخلت ( شموس ) البستان والخير جاء معها !!
وكم من مرة رأيتها تحدثها :
كلي يا ( شموس ) كلما أكلت أكثر أعطيتينا مقدار من الحليب أكبر وحين سألت جدتي : لماذا سميت بقرتنا شموس !! ضحكت وقالت :
جدك هو الذي أطلق عليها هذا الأسم .. أنظر الى طلعتها البهية , ألا تشبه شمساً صغيرة , تنور بستاننا , واحبت ايضاً جدتي , بل أحبتنا جميعاً .. لذلك كانت تأكل لتبعث السرور في نفوسنا ..
وأمام البستان , كان هناك طريق ترابي , يقطعه الحصان ( بدران ) , يأتي بالعربة , كل صباح ليأخذ الحليب والجبن الى البلدة القريبة ..
ذات مرة , أخبر ( بدران ) بقرتنا ( شموس ) عن البلدة القريبة , على الرغم من انها لم تساله .. قال : الشوارع مرصوفة بالحجر , والأرصفة نظيفة لامعة , وأسطح البيوت عالية , تطير فوقها العصافير وأسراب السنونو .. أما الاطفال فهم يذهبون الى المدارس , يحملون كتباً ودفاتر , ويركضون مسرورين صاخبين في الذهاب والأياب , والناس يركبون الدراجات , ويطلقون رنين أجراسها مبتهجين , ترن .. ترن .. ترن .. أما السيارات فلا أستطيع وصفها .. يكفي إنها تنطلق مسرعة في كل الطرقات .. وسائقوها ماهرون !.
رغبت شموس أن ترى الاشياء التي تكلم عنها بدران .. كانت ضجرة من البستان , ومن بيت جدي ومن المخزن الكبير , والطاحونة التي لا تعمل .. و .. و
خلف البستان كان هناك نهر صغير , في الصيف جاء رجل في قارب ليأخذ الجبنة من جدي الى السوق .. نظرت شموس الى القارب فأحبته .. ظنت إنه سيكون حدثاً جميلاً أن تركب في قارب , تذهب الى السوق .. كانت في شوق الى أن تفعل شيئاً ما . في شوق إلى ان تقوم بأي شيئ حتى تتخلص من الضجر , لا بد أن تذهب لترى أي شيئ بدلا من أن تأكل فقط .. بدران يعرف أشياء كثيرة , لأنه يذهب الى البلدة هناك , يخرج من البستان , ويسير على الطريق , ويلتقي بالناس وهي هنا لا تقوم بأي عمل سوى أن تأكل .. وتأكل .. ولهذا فقد أصبحت شموس بدينة , كل يوم تزداد بدانه , حتى أنها تتحرك بصعوبة .
سارت مسافة بعيدة على الطريق المحاذي للبستان .. لم تنظر الى اليمين , ولم تنظر إلى اليسار , كانت تنظر فقط إلى العشب الذي صار مذاقه حلو ولذيذاً , والفصل ربيع وهي تعلم إنه توجد أزهار كثيرة تستحق أن تؤكل .. وفجاة .. قبل أن تدرك ما حدث , سقطت في النهر .. لم يكن عميقاً , لكنها لم تستطيع أن تخرج لأنها بدينة جداً ..
وقفت في الماء , وشرعت تأكل العشب على الضفة .. وجدي لم يعرف أن شموس في النهر .. كان مشغولاً في صنع الجبن لبيعه في السوق .. أكلت شموس كثيراً من العشب , وشعرت بعدئذ بالنعاس .. لكنها لم تستطع أن تنام في الماء .. حدثت نفسها :
لو أقدر على العودة الى البستان .. أخشى أن يغضب الجد , أو أن تنتبه الجدة لغيابي !..
صارت تمشي وهي تأكل العشب , صادفت في طريقها قارباً قديماً , دفعته أمامها ثم تسلقته وأندفع القارب بعيداً عن الضفة , وسارت شموس على طول النهر فوق القارب الطافي ..
مرت شموس بالبستان , وبمخزن الغلال .. مرت بدار جدي , وشجرة التوت , والطاحونة , ومرت بأزهار البابونج , والأقحوان , والزنبق الأصفر والأحمر الذي زرعته جدتي .. مرت بشقائق الي تمايلت نحوها بدهشة , وبأزهار كثيرة ومتنوعة لا تعرف إسمها ..
هذا هو السوق كما أخبرها بدران , لكن أجمل ما وقع عليه نظرها , الفتيات الصغيرات يركضن وراء أمهاتهن وقد تطاير شعرهن الجميل المزين بالشرائط الحمراء والخضراء والبيضاء والزرقاء والصفراء .. كان جدي آنئذ موجوداً في السوق .. وعندما ىشاهد بقرته صاح : شموس .. ما الذي جاء بك الى السوق ؟ كنت أظن انك في البستان تأكلين العشب !!
أطرقت شموس رأسها خجلة ولم تعرف ماذا تقول .. فهي تحب جدي ولا تريد ان يغضب .. يبدو إنها ارتكبت ذنبا فقد أسرع جدي الى العربة التي يجرها الحصان بدران .. ودفع البقرة أدخلها , ثم عاد فوراً الى البستان , دون ان يكلمها أو يناديها كعادته ..
بعد ذلك كان جدي يلقي نظرة على البستان وهو في مخزنه بين الحين والحين ليتاكد أن شموس في مأمن .. وكانت جدتي لا تغفل عنها طيلة اليوم .. لكن شموس التي صارت تحب المراقبة , لم تهتم بذلك , كان في رأسها أشياء كثيرة تفكر فيها , وهي تمضغ العشب اللذيذ ..
هل هناك أجمل منها اذا ما ازدان رأسها بتلك الشرائط الملونة ؟ وكم سيكون مصور الجريدة محضوضاً اذا التقط لها صورة ثانية . ربما ينال جائزة أحسن صورة لهذا العام ..
من يدري ..؟..!
استمرت المشاهد تمر أمام عينيها والنعاس فارقها الآن .. وأصبحت منتبهة لما حولها من مناظر على طول ضفتي النهر ..
مرت شموس بصف طويل من البيوت , ثم مرت بعض الاطفال وهم يلعبون فوق دراجاتهم صاح الاولاد : انظروا بقرة تمر في النهر !!
ولم يلبثوا قليلاً , حتى ركضوا وراءها على الطريق المحاذي للنهر .. سمعت شموس رنين أجراس الدراجات , أصغت الى صفير متقطع , وصياح وصخب .. كانت سعيدة , فقد صارت موضع إهتمام الاطفال .. رأت الامهات في البيوت وهن ينظفن النوافد , ودرجات الابواب , لوحن بمناديلهن الملونة لها , وضحكت .. رأت حشداً من الناس , بعضهم يمشي على طول النهر , يلحق بالقارب الذي تركبه ..
شعرت شموس بالفرح , لأن الناس يهتمون بها , أسرع واحداً منهم , ورفع بين يديه علبة سوداء صغيرة , والتمع ضوء أمام عينيها , ارتفع الصوت : ستكون صورة طريفه في الجريدة المحلية !..
أخذت شموس تخور بسعادة : هم .. هم .. ها .. ها .. آ .. آ وحين توقف القارب .. تقدم اثنان من الاولاد وسحباها الى الضفة بحبل ( لكن شموس خلصت نفسها من الحبل , وركضت على طول الشارع , وجدت صعوبة في أن تركض وسط الطريق المرصوف بالحجارة , لكنها كانت مسرورة وهي في البلدة ..
تابعت شموس ركضها في الشوارع , والاولاد وبعض الرجال يلحقون بها .. وهي تنظر الى نوافذ البيوت وشرفاتها , وتقفز في الساحات .. لم تهتم بأشارات المرور , ولا بصفارة الشرطي , ولا بأبواق السيارات الصغيرة والكبيرة , صارت تشم الدراجات الملونة , بل تستوقف بعض السيارات والسائقين , وقبل أن تشعر بالتعب , وصلت الى ساحة كبيرة فيها حشود من الناس , وأكوام من الخضار والفواكة .. والجبن والبيض !!