فن وثقافة ….
الرواية الفلسطينية – مرحلة النضوج
قلم د . رياض كامل
مقدمة
عني الكثير من الدراسين بتقصّي الحركة الأدبية الحديثة في الكثير من الأقطار العربية. يهمّنا في هذا السياق أن نشير إلى ثلاث دراسات رائدة وهامة في مجال نشأة الرواية العربية الحديثة وتطورها وهي: كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870-1938” (1963) للباحث المصري عبد المحسن طه بدر، كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام 1870-1967”. (ط1، 1980) للباحث الأردني إبراهيم السعافين، وكتاب “الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950” (2000)، للباحث الأردني ناصر الدين الأسد. يمكن للراغب في الاستزادة قراءة كتاب “محاضرات في الشعر الحديث في فلسطين والأردن حتى سنة 1950، لناصر الدين الأسد (ط1، 1961، ط2، 2009). هذه الكتب قادرة على تزويد القارئ بمعلومات هامة حول نشأة الرواية العربية الحديثة في مصر وفي بلاد الشام كلها.
إن من يتتبّع مسار الرواية العربية الحديثة، عامة، اعتمادا على المصادر أعلاه وعلى غيرها من الدراسات الجادة، يجد الكثير من التشابه بين مراحل نشأتها وتطوّرها في العديد من الأقطار العربية. ففي مصر يتحدث الباحثون عن ولادة الرواية العربية الفنيّة الأولى “زينب” (1913) للكاتب محمد حسين هيكل وما سبقها من إرهاصات، وما تلاها من محطات هامة حتى وصلت الرواية المصرية مرحلة الاكتمال والنضوج. (كامل، ص13-23) وفي سوريا يتحدث الدارسون عن المراحل والإرهاصات التي سبقت نشوء الرواية الفنية السورية الأولى “نهم” للكاتب شكيب الجابري التي صدرت سنة 1937 وما تلاها من محطات هامة حتى وصلت هي الأخرى مرحلة النضوج. (كامل، ص25-34)
لو قمنا بتتبّع مسار الرواية في فلسطين لوجدنا أنه لا يختلف البتّة عن مسارها في كل من مصر وسوريا. يعتبر الباحثون أن روايتي “الوارث” الصادرة سنة 1920 للكاتب خليل بيدس، ورواية “الحياة بعد الموت”، التي صدرت هي الأخرى سنة 1920 للكاتب إسكندر الخوري البيتجالي، أول روايتين فنيّتين فلسطينيتين. بدأ البيتجالي كتابة روايته أثناء الحرب العالمية الأولى وفرغ من كتابتها سنة 1918، ولكنها لم تصدر في كتاب إلا سنة 1920. (ابو حنا ص93)، وقد أهداها لابنه جورج: “ولدي جورج، يوم ولدت ولد كتابي هذا…11 تموز 1920”. (انظر: البيتجالي، ص3) أما خليل بيدس فقد نشر القسم الأكبر من روايته في مجلة “النفائس العصرية” سنة 1919، ثم صدرت كاملة عن دار الأيتام السورية في القدس سنة 1920. (ابو حنا ص93) وقد سبقتْ هاتين التجربتين تجاربُ أخرى لم ترق إلى المستوى المطلوب.
تكاد المصادر كلها تُجمع على أن الرواية العربية الفلسطينية بلغت مرحلة النضوج على يد جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)، إميل حبيبي (1921-1996) وغسان كنفاني (1936-1972). يرتبط هؤلاء الثلاثة، ببعضهم البعض ارتباطا عضويا، نظرا لما لهم، معا، من دور هام في دعم وتدعيم أسس الرواية العربية الفلسطينية. فقد قدّم كلٌّ منهم، من موقعه الأيديولوجي والجغرافي، رؤيا خاصة ساهمت في ترسيخ وتأصيل هوية الفلسطيني الذي عاش تجربة خاصة به، هي تجربةُ التهجير والتشتّت، والحرمان من الطفولة ومن البيت، ومن حق العودة وإعادة بناء العائلة على المستوى الخاص والعام. حظي الثلاثة باهتمام النقاد والدارسين في الشرق والغرب، وترجمت أعمالهم إلى عدة لغات. سنحاول في هذه العجالة الوقوف عند أهم ما قدم كل منهم بشكل موجز، تاركين مجال التوسع للأبحاث العديدة التي تناولت إنجازاتهم، وهي عديدة ومتنوعة.
جبرا إبراهيم جبرا
نال جبرا إبراهيم جبرا شهرة واسعة في العالم العربي، وتُرجمت أعماله إلى عدة لغات. فقد عرف بسعة اطلاعه على الثقافات الغربية، فقام بالدمج بينها وبين ثقافته الشرقية في أعماله الروائية. لقد تسنى له أن يطّلع عن كثب على الأدب الإنجليزي، منذ سن مبكرة، فكان ذلك بمثابة كوة ينطلق منها إلى الغرب وحضارته، فوظّف في كتاباته الأساليب والتِّقنيّات الغربية الحداثية التي عرفها عن قرب من خلال دراسته الأدب الإنجليزي، بدءا من الكلية العربية في القدس التي دأبت على تدريس الأدب الإنجليزي للطلاب، وبالذات مسرحيات شكسبير، ثم دراسته اللغةَ الإنجليزية في أحسن الجامعات الإنجليزية التي وصلها بفضل تميُّزه ونجاحه في مدرسته، فأُرسل في بعثة تعليمية إلى هناك (1939) ونال شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي، مما أهّله لكتابة روايتين باللغة الإنجليزية: “صراخ في ليل طويل” (1946)، التي أعاد كتابتها باللغة العربية سنة 1955، ورواية “صيادون في شارع ضيق” (1960) التي ترجمت هي الأخرى إلى العربية (1974).
عمد جبرا إلى توظيف تقنيّات رواية تيار الوعي، والتناص والإحالات إلى الكتب المقدسة، وخاصة الإنجيل، فضلا عن توظيف الأساطير والموسيقى مستفيدا من ثقافته التي اكتسبها من الغرب مباشرة، (للتوسع انظر: الحاج، بئر الحداثة) وابتعد عن أسلوب الخطابة الذي كان متّبعا سواء في الشعر أو في القصة والرواية، حتى بات في عين بعض الباحثين من رواد الحداثة في القصة والرواية العربية عامة.
يرى الباحث فيصل دراج أن الرواية لم تظهر في شكلها الحديث إلا مع صدور رواية “صراخ في ليل طويل” التي كتبها في القدس سنة 1946، ويضيف أن هذا العمل أعطى جبرا الشاب عملا طليعيا متميزا، بالمعايير الفنيّة جميعها، لا يزال يحتفظ بتميزه إلى اليوم. (دراج، “الرواية الفلسطينية”) ويعتبر الباحث شكري عزيز الماضي جبرا، بفضل هذه الرواية، “رائد الرواية الحديثة في فلسطين والأردن”. (الماضي، ص52)
لا يحتاج المرء إلى تفكير عميق كي يدرك نوايا جبرا حين كتب روايته “صيادون في شارع ضيق” باللغة الإنجليزية، وتوظيفَه للرواية المسيحية بكل مركباتها، إذ تكشف الأحداث كيف تحوّلت مدينة المهد بمواقعها، حيث الروابي وطريق الرعاة والملائكة، من مكان آمن إلى مكان تسيل فيه الدماء بسبب تفجيرات القادمين الغرباء إليها، الذين ساندهم الغرب الاستعماري، فاضطر الرعاة إلى ترك كنيستهم وحدائق الزيتون، وحملِ أطفالهم والهربِ بهم بعيدا عن مدينة مهد المسيح، فيما تحولت مدينة القيامة، القدس، إلى مدينة لأحلام لا يمكن رؤيتُها إلا عبر “وادي الموت”. (للتوسع انظر: بشير أبو منة)
حمل المهجّرون معهم الوطن على أكتافهم، وهذا جبرا الذي هجّر من فلسطين مثل كثيرين يستقرّ في العراق ويعمل في جامعاتها ويكتب أهمّ دراساته وأعماله الأدبية هناك، ويترجم أهم الأعمال الأدبية من الإنجليزية إلى العربية مما أتاح المجال للقارئ العربي حيثما تواجد أن يطلع عليها. ومن مقرّ إقامته في بغداد يتابع مشواره الأدبي العريض والمتشعب، ويستلهم أحداث روايته “البحث عن وليد مسعود” (1978) من شهادات المقاتلين التي سمعها منهم مباشرة في بغداد أثناء دراستهم هناك، وقد كان عبد الواحد لؤلؤة شاهدا على ذلك فوثّقه في مقدمة إحدى الدراسات: “وجبرا يصغي ويختزن في مخيلته ليعيد صياغته في الرواية”. (سمير حاج، مرايا، ص11) هذه الرواية التي جعلت عبد الرحمن منيف يقول: “أخيرا وضع جبرا يده في نار الثورة” (بشير أبو منة، ص58).
أثار جبرا حول إنتاجه نقاشا عاصفا، فمنهم من اتهمه بالتباعد عن القضية المركزية، واعتمادِه على توظيف شخصيات مثقّفة في أعماله، فيما أنّ معظم الشعب الفلسطيني هم من العمال والفلاحين، في حين دافع آخرون عن موقف جبرا معلّلين رؤيتهم أن أبطال جبرا المثقفين قد ضحّوا بحياتهم في سبيل مجتمعهم. ولكن المؤكد أن جبرا كان يعي هذه الحقائق وكان مصرّا على توظيف شخصيات مثقفة مؤمنا أن الثقافة لا تقل أهمية عن دور المقاتل بالسلاح إن لم يكن أكثر.
لم يقتصر عمل جبرا على المجال الروائي، فقد كتب القصة القصيرة، والنقد الأدبي، وترجم العديد من الأعمال الأدبية عن اللغة الإنجليزية، و”واظب على الكتابة الروائية في منفاه العراقي جاعلا من القدس – أجمل مدن الدنيا كما كان يقول – محورا لأعماله بدءا من روايته “صيادون في شارع ضيق” إلى عمله الأكثر طموحا “البحث عن وليد مسعود”، مرورا بإنجازه الروائي الأكمل “السفينة”، (1970) وهي إحدى الروايات الأكثر تكاملا في تاريخ الرواية العربية الحديث. أرست هذه الروايات هويته الفلسطينية – الروائية بوضوح لا مزيد عليه”، كما يرى فيصل دراج. (دراج، “الرواية الفلسطينية”)
مهما قيل في روايات جبرا إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أنه كان من أوائل كتاب الرواية الحداثيين، وأحد أهم الأدباء في تاريخ الأدب الفلسطيني الحديث، وأنه شغل الدارسين والباحثين بالبحث والتنقيب، بفضل غزارة عطائه وتنوعه، وما زال يشغلهم حتى اليوم.
إميل حبيبي
قدّم جبرا رصيدا هائلا في حقول الأدب المتنوعة من خلال غربته في العراق، فيما بقي إميل حبيبي بعد النكبة في الوطن يقارع من الداخل، من خلال واقع جديد مربك هو واقع العربي الفلسطيني الذي تحوّل، في وطن الآباء والأجداد، إثر تهجير غالبية سكان البلاد العرب الأصليين، من أكثرية مطلقة إلى أقلية داخل دولة تتبنّى الفكر الصهيوني. ينظر العربي إلى ما كان وإلى ما صار؛ هنا هو مبتور عن شعبه وعن أهله المهجّرين خارج الوطن، ويعيش تحت قوانين مجحفة وصادمة لا تجيز له زيارة الأهل والأقرباء والأصدقاء، حتى في داخل الوطن، إلا بإذن من الحاكم العسكري. وقد صودرت أرضه مصدر عيشه الأهم، وبات يبحث عن لقمة عيشه في المستوطنات التي أقيمت حديثا، أو تلك التي أقيمت على أراضي القرى العربية.
هذا الواقع الجديد الهجين شحن حبيبي بغضب عارم وألم عميق عبّر عنه من خلال إبداعاته المتنوعة بدءا من قصة قصيرة بعنوان “بوابة مندلبوم” (1954) المستوحاة من قصة حقيقية حيث اضطرت والدته أن تتركه في البلاد لتلحق بابنها الأصغر المهجّر في دمشق، فتموت هناك بعيدا عن الوطن، لتصبح بالتالي حكايةَ الفصل العنصري بين الفلسطيني هنا الذي كان جزءا لا يتجزأ من عالم عربي كبير ثم بات مقطوعا كليا عن محيطه الواسع، محروما من التواصل مع أهله ومع أبناء شعبه العربي.
تابع حبيبي في رحلة الإبداع فكانت “سداسية الأيام الستة” (1968) ثم روايته الشهيرة “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”، (1974) التي اعتمد فيها على أسلوب المفارقة والسخرية السوداوية لتصوير هذا الواقع الهجين وكشفِ حالة الضياع التي يعيشها العربي في ظل دولة تسلب حق الفلسطيني في العيش بكرامة وتُزيّف هويته وتراثه وشعره وأدبه. هي في اعتقادي رواية الفلسطيني المشوّه بفعل الواقع الجديد.
قيل الكثير في هذه الرواية، ولربما لم يعد هناك ما يمكن إضافته إلى تحليل الكثيرين من قبل، فهي، كما ذكرنا، حكاية الفلسطيني الباقي هنا، لا حكاية الفلسطيني المهجّر، كما في روايات جبرا. تُعبّر الشخصية المركزية فيها عن واقع مؤلم؛ واقع ضياع الهوية، وخلق هوية بديلة مُبلبَلة مشوّهة، لا تحمل جينات الآباء والأجداد، ولا تشبه جذورَها في شيء. هذه الشخصية “المتشائل، سعيد أبي النحس” التي لم يتمكن روائيون فلسطينيون أو عرب أن يخلقوا مثيلا لها، لا لسبب سوى أن حبيبي استلهمها من واقع لا يشبه أي واقع آخر لأي إنسان في العالم قاطبة، واقع العربي الفلسطيني الذي تمنى أن يأتيه الخلاص من العالم العربي، أو من أي مصدر آخر فلم يأته أي بارقة أمل، فكان الفضاء والكائنات الفضائية والهروب نحو الخيال هو أملَه الوحيد.
تحمل هذه الرواية بالذات رؤية الكاتب إميل حبيبي المستمدة من واقع مأساوي عبّر عنه بطل الرواية عبر مفارقة ساخرة سوداوية ترى أن بقاءه فوق أرضه هو بحد ذاته معجزة. وتزداد مأساة الإنسان العربي الباقي هنا قتامة وهو يرى ذاته المصادرة فلا يملك حق التقرير في أي أمر. فقدت الشوارع والحارات أسماءها، وزالت قرى كاملة عن وجه الأرض، ونبتت بدلها مستوطنات أخرى غريبة في شكلها وفي مواصفاتها وفي أسمائها. وكان على حبيبي أن يتصدّى، في كل ما كتب، لهذا الواقع الهجين بأسلوب فني هجين ولغة ساخرة.
ذهب الشاب جبرا منذ نعومة أظفاره باتجاه الدراسة الأكاديمية والاطلاع على أهم التنظيرات الأدبية، كما ذُكر أعلاه، فيما ذهب حبيبي باتجاه العمل الشعبي والسياسي متبنّيا، منذ سن مبكرة، الفكر الشيوعي الأممي. فكانت ثقافته المكتسبة الأولى من خلال علاقاته بالناس ومن خلال ثقافته العربية الشرقية الكلاسيكية.
ولربما كانت عودة حبيبي في كتاباته إلى التراث العربي عاملَ تعويض عن خسارته على أرض الواقع، خاصة وأنه يكتب من أجل تثبيت الهوية العربية التي يصرّ الآخر على مصادرتها، إذ يبدو أنّ العرب كلما شعروا بتهديد وجودي عادوا إلى الماضي كملاذ يفاخرون به، وقد برز ذلك بشكل ملحوظ إثر حملة نابليون الغربية على الشرق العربي، فكانت هناك عملية إحياء للتراث العربي وظهور أنواع أدبية حديثة. وقد تمكن حبيبي أن يستلهم مادة كتاباته من التراث فخلق كتابة أدبية مغايرة تأخذ موضوعها من الحاضر وتؤثثه وتغنيه بأساليب القدامى، وتخلق في الآن ذاته أسلوبا جديدا في شكل الرواية العربية الحديثة، حيث لم يُبن نصّه وفق المبنى التصاعدي المألوف للرواية. شغل حبيبي الباحثين والدارسين هو الآخر، ولا يزال، وبات اسمه واحدا من أهم الروائيين العرب في القرن العشرين.
غسان كنفاني
عاش غسان كنفاني تجربة النكبة بكل عذاباتها وتفاصيلها منذ التهجير القسريّ، طفلا، فتنقّل من بلد عربي إلى آخر، وذاق طعم هزيمة 1967 ومرَّها، فعبّر عن ذلك من خلال مجموعة من إبداعاته التي بلغت ثمانية عشر مؤلَّفا، تشهد على عبقرية هذا المبدع الشاب، وعلى رؤيته المتطوّرة في التعامل مع الوطن والهوية.
الحديث عن كنفاني متفرعٌ ومتعددُ الجهات؛ غسان الروائي والقاصّ والمسرحيّ والصّحافيّ، وغسان المؤدلج السياسيّ. فهو صاحب مشروع فكري فلسفيّ يضع فكرة حق العودة في سلم أولوياته، ويبني مشروعه وفق هذه الرؤية؛ الإنسان قضية والوطن قضية، فهو البيت والإنسان والشجر والماضي والحاضر والمستقبل.
وهو ابن الصدمتين: النكبة والنكسة. جرّب النكبة وذاق مرّها وهو طفل صغير، فكانت الصدمة الأولى التي تستوجب دراسات عديدة لتبيان مفهومِها وأثرِها على طفل يُهجّر مع أهله ويترك بيته وماضيَه وذكرياته وأترابَه. ولما عاد الأمل إلى العالم العربي وإلى الشعب الفلسطيني كانت الصدمة الثانية، “صدمة النكسة” (1967) وتحطُّم آمال الأمة العربية وهي ترى أحلامها تبعثرها الرياح وتذروها بعيدا.
كان لهول الصدمة الثانية التأثيرُ الكبير على المثقف العربي، وعلى المواطن العادي لأنها جاءت بعد قناعة كثيرين بحصول تحوّل سياسي في الشرق الأوسط يعيد الخارطة إلى ما كانت عليه قبل عشرين عاما، وصدرت روايات عديدة تصوّر هذا الواقع المتعثّرَ، المؤلمَ والكئيب. وقد شارك كبار الأدباء في الكتابة عن بؤس العالم العربي وعن حالة الضياع، لكن غسان كنفاني ذهب باتجاه آخر، فقد وجد أن تصوير الواقع المؤلم هو واجب، لكنه يبقى منقوصا إذا لم تُفتح كوة للأمل. فكانت روايتاه “عائد إلى حيفا” (1969) و”أم سعد” (1969) كتابة الأمل رغم الألم، ودعوة إلى اتخاذ مسار فلسطيني مستقل، بعيدا عن إخفاقات الأنظمة العربية.
بالرغم من حماسة كنفاني السياسية وانتمائه الأيديولوجي المعروف الذي آمن به إلا أنه، في كتاباته، فهو أديب أكثر منه سياسي، إذ ابتعد عن الأدب الخطابي مؤمنا أن الكلمة الهادئة تخترق الوجدان والعقل والعاطفة مثلما يخترق الماء الهادئ أعماق الأرض. ولهذا فقد اعتبرت روايته “رجال في الشمس” (1963) الرواية الفنية الثانية في فلسطين والأردن بعد رواية “صراخ في ليل طويل” لجبرا. (الماضي، ص55)
لم يدقّ كنفاني جدران الخزان في روايته “رجال في الشمس” فقط. فقد راودته هذه الفكرة في كل كتاباته السابقة واللاحقة. إنّ فكرة خلدون/ دوف في “عائد إلى حيفا” الذي أصبح جنديا في الجيش الإسرائيلي لهي فكرة في غاية الذكاء لدق جدران الخزان منعا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور. فقد رأى أن فقدان الوطن قد يجعل الفلسطيني يفقد الأمل، فعمد إلى تجنيده فكريا، وتثويره ضد واقعه وشحنه بالإرادة، إذ بدون الإنسان وبدون الذاكرة يختفي الوطن كليا. فهذا “سعيد س” بطل رواية “عائد إلى حيفا” يخاطب المرأة اليهودية التي سكنت في بيته قائلا: طبعا نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا ذلك يحتاج إلى حرب”. (عائد، ص34)
لم يكتف كنفاني بحمل القلم، وبتقديم ثمانية عشر مؤلفا في مواضيع متعددة، فقد كان منخرطا في الحقل السياسي، وناطقا رسميا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهو “المقاتل الذي لم يطلق رصاصة واحدة” كما قالت عنه صحيفة الديلي ستار (بشير أبو منة، ص118) فقاتل بالفكر، وهو الذي كان ينشر مقالاته الساخرة باسم مستعار “فارس فارس”. (ن. م.)
إن معظم الذين كتبوا عن أعمال غسان كنفاني التفتوا إلى الجانب السياسي والأيديولوجي، ما عدا قلة قامت بدراسة تطور آلياته الفنية ودوره في دفع الرواية العربية بشكل عام نحو الحداثة، رغم صغر سنه، وقد حظيت رواية “ما تبقى لكم” (1966) باهتمام لافت في توظيفها تقنيات حداثية تجعلها واحدة من الروايات العربية الحديثة الهامة. (للمزيد من التوسع انظر: غنايم، ص257-267)
ما يجب الالتفات إليه أيضا هو الجانب الإنساني في كتاباته، وهذه هي نقطة القوة الأكبر في إبداعه، فقد اختار في “رجال في الشمس” ثلاثة رجال يمثّلون ثلاثة أجيال يعانون كلهم بسبب الهجرة، وكان لكل منهم تجربة إنسانية حارقة ومؤلمة. كما اختار في “عائد إلى حيفا قضية إنسانية أخرى هي ضياع الابن ونسيانه في البيت بسبب ظروف قاتلة فرضها الآخر على زوجين شابين خسرا البيت والابن معا. فإن كان الآخرون قد خسروا البيت فإن سعيد وصفية قد خسرا الابن أيضا.
إن القضية الإنسانية العاطفية أكثر تأثيرا في المتلقي من الأيديولوجيا والموقف السياسي، بالرغم من أن هذا يقود إلى ذاك. هذه الاختيارات هي قوة إبداع كنفاني، فضلا عن توظيف تقنيات تتلاءم مع الشكل والمضمون وترابطهما.
خلاصة
إن كتابات هؤلاء الأدباء الثلاثة هي في معظمها محصلة “الصدمة” التي تستحق دراسة أكبر وأوفى من المختصين في مجال علم النفس وعلم الاجتماع. كان جبرا وحبيبي شابين صغيرين حين وقعت النكبة، وكان غسان حينها طفلا، ولما بُعثت الآمالُ من جديد كانت النكسة الصدمةَ الثانية، فكان من الطبيعي أن تنال هاتان الصدمتان حيزا واسعا من إنتاجهم.
كانت هزيمة 1967 منبّها إلى خلل شامل في منظومة وبناء العالم العربي عامة، وقد ظهرت إثر ذلك مجموعة من الكتابات الروائية العربية التي تبيّن الإحباطَ العربيَّ وخيبةَ أمل العرب وفقدانَهم الثقةَ بهذه الأنظمة، لكن صدمة الهزيمة كانت بالنسبة للفلسطينيين محفزا كي يعيدوا النظر فيما كان من قبلُ، وشهدت فترة ما بعد النكسة هبةً جماهيرية فلسطينية تؤكد على أهمية دور الفلسطيني في حمل دور الريادة، كما تجلت في أعمال هؤلاء الثلاثة وفي أعمال أدبية فلسطينية كثيرة.
إننا نرى أن هناك أفكارا متشابهة فيما بين هؤلاء الثلاثة، وأخرى مغايرة وذلك وفق الجغرافيا والأيديولوجيا التي تبناها كل منهم. يشترك الثلاثة في التفكير بمستقبل أفضل وأكثر أمنا وأمانا كي لا تتكرر النكبة والنكسة. يرى غسان أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال مقاتل مؤمن بحقه بالعودة، ويرى جبرا أن ذلك يحتاج إلى إيمان فلسطيني داخلي بحق العودة، ويبحث حبيبي عن هوية فُقدت فيراها في عودة الوعي.
انطلق الثلاثة في كتاباتهم من خلال أيديولوجيا ترى أن الصراع ليس بين شعبين، إنما هو خلاف عقائدي بين فكرين متناحرين، فبنى كل منهم مشروعه على أساس نشر الوعي من ناحية ومصارعة الآخر من ناحية ثانية، وذلك يتطلب التوجه نحو ثلاث جهات على الأقل: الداخل الفلسطيني، والعربي عامة، والرأي العام العالمي، فكانت الترجمة التي قام بها جبرا مشروعا تثقيفيّا هاما موجها للعربي حيثما تواجد، وكانت كتابات كنفاني وحبيبي ومقالاتهما السياسية موجهة إلى كل الجهات، وكانت الأعمال الأدبية على اختلافها كتابات مؤدلجة لتجنيد الداخل والخارج وشحن الإرادة العربية وإعادة الثقة بالذات في ظل هزيمتين كبيرتين: النكبة والنكسة.
نجح الثلاثة كل من موقعه، ومن خلال تجربته، في ترك بصمة هامة في مسيرة الرواية العربية الفلسطينية، وكانت بعض أعمالهم بوصلة يحاول الكثير من الأدباء الاهتداء بها والاستفادة منها، بل نجحوا جميعا في رفع مكانة الرواية الفلسطينية لتصبح منافسا حقيقيا لأهم الأعمال الروائية العربية.
المراجع
أبو حنا، حنا. دار المعلمين الروسية في الناصرة “السمنار” (1886-1914) وأثرها على النهضة الأدبية في فلسطين. الناصرة: دائرة الثقافة العربية، 1994.
الأسد، ناصر الدين. الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950. عمان: مؤسسة عبد الحميد شومان، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000.
الأسد، ناصر الدين. الشعر الحديث في فلسطين والأردن حتى سنة 1950. ط2. عمان: دار الفتح للدراسات والنشر، 2009
حاج، سمير فوزي. بئر الحداثة- الموسيقى والرمز في أدب جبرا إبراهيم جبرا. حيفا: كل شيء، 2012.
حاج، سمير فوزي. مرايا.. جبرا إبراهيم جبرا والفن الروائي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005.
دراج، فيصل. ذاكرة المغلوبين- الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002.
دراج، فيصل. “الرواية الفلسطينية- أدب المضطهدين في جغرافيا مشتتة”. الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
غنايم، محمود. تيار الوعي في الأدب العربي الحديث. بيروت: دار جيل، القاهرة: دار الهدى، 1992.
كامل، رياض. المتخيل السردي العربي الحديث. عمان: الدار الأهلية، 2022.
كنفاني، غسان. عائد إلى حيفا. ط4. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987.
لجنة إحياء تراث الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي. إسكندر الخوري البيتجالي، الأعمال الكاملة- الأعمال النثرية. ج2، المجلد 4، ط2، بيت جالا: رأي للدعاية والنشر، 2022.
الماضي، شكري عزيز. الرواية العربية في فلسطين والأردن في القرن العشرين. عمان: دار الشروق، 2003.
مني، بشير. الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر. ترجمة مصعب حياتلي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.