ما رأته عيناي في قطر
بقلم: الأستاذ إبراهيم حجازي- طمرة الداخل الفلسطيني
قصدتُ ألّا أتعجّل الكتابة والنشر في موضوع قطر والمونديال، حيث اعتقدت بأنّ الكتابة من قلب الحدث تكون أكثر عاطفيّة، وحين نكتب كما أكتب الآن، أي بعد مرور شهر وأكثر، تكون الكتابة عقلانيّة وحقيقيّة ومنصفة بعيدة عن العواطف.
سافرتُ إلى الدوحة مع أخي وصديقي علي عوّاد، وطفلينا محمّد وحسن، رحلة آباء أصدقاء وأبناء، استمتعنا بها أيّما استمتاع، وأعتقد أنّها تخلد في ذاكرتنا جميعًا، لا سيّما في ذاكرة طفلينا اللذين شعرنا أنهما كبرا كثيرًا من هذه التجربة، تجربة الصحبة للوالدين، تلك التجربة الجميلة الّتي حرمتنا منها مشاغل الحياة وعراكها ومسؤوليّاتها.
يبدو لي أنّي لم أكن لأسافر خصّيصًا لمتابعة بطولة كأس العالم عن كثب لو لم يكن الحافز عربيًّا إسلاميًا قطريًّا. ولم يخب ظنّي، لا بمستوى المباريات، ولا بمستوى الضيافة، ولا بقطر وهي تمثّلنا أمام العالم كعرب ومسلمين، بعاداتها-عاداتنا، بثقافتها-ثقافتنا، بكرمها-كرمنا، بأخلاقها-أخلاقنا، كلّ ما كان هناك أثار فينا ذكريات لأيّام عربيّة إسلاميّة خلّدتها الكتب وغرّبتها الحضارة والأيّام. كانت هذه البطولة القطريّة كمن أحيتنا بعد ممات، وأيقظتنا بعد سبات.
يقينًا أقول، الحديث عن هذه البطولة تحديدًا لن ينتهي، وها أنا أكتب بشغف وكأنّني رجعت البارحة من قطر، تلك الدولة الصغيرة بمساحتها، العظيمة بمكانتها، والّتي نجحت برفع سقف مستويات الاستضافة، وربّما هي صدفة جميلة أن تستضيف أمريكا كإمبراطوريّة عظمى في عصرنا هذا بطولة كأس العالم القادمة، لنرى إن كانت قادرة على مضاهاة قطر. هذا ما قدّمته قطر، فأْتوا بمثله إن كنتم قادرين.
لا شكّ لديّ أنّ بطولة كأس العالم في قطر قد عرّت كثيرًا من التصوّرات المسبقة عن العرب والمسلمين، وأسقطت قوالب نمطيّة عديدة استخدمتها دول الاستعلاء الغربي بكلّ ما أوتيت من موارد ووسائل من أجل تشويه صورتنا وقيمنا وعقائدنا، كعرب ومسلمين، وإلباسنا لباس التخلّف والرجعيّة، حتّى استُثْمرت الملايين في هوليوود لإنتاج أفلام تغزو دول العالم أجمع، يصوَّر فيها العربي المسلم كإرهابي، والعربيّة المسلمة كأمّيّة رجعيّة متخلّفة بلباسها وفكرها. أتت قطر، وحطّمت معظم معاول تكريس هذه الأفكار والمعتقدات خلال 29 يومًا فقط. شكرًا قطر.
التحدّي القيمي العقائدي
ليس سهلًا أن تستقبل الملايين من شتّى أنحاء العالم، وتفرض عليهم دون إكراه قوانين ربّما تكون مستهجنة في أعرافهم وثقافاتهم، لكنّ صاحب البيت هو من يحدّ الحدود أمام ضيوفه. كلّ من حضر إلى قطر علم مسبقًا أنّه يزور دولة مسلمة ذات قوانين وأعراف إسلاميّة، بدءًا باللباس الكامل، لباس إسلامي وفق الشريعة الإسلاميّة، لا سيّما النساء والّتي غالبًا تضع الخمار والنقاب، وكذلك لباس الرجال والفتيان التقليدي الّذي فيه نسق وهيئة قطريّة يتميّزون فيها عن غيرهم. ولا تنحصر إسلاميّة قطر في لباسها، بل الجوّ العام كلّه يحمل طابعًا إسلاميًّا بالفطرة، فلا تجد ما يمكن أن يشيع الفاحشة ولو بالتلميح والإشارة، وهذا تحدٍّ قيمي من أعلى التحدّيات، لا سيّما وأنت تستقبل وتستضيف ثقافات ترى ما لا تراه أنت، وتعتقد بما لا تعتقد به، كأن تستسيغ الكحول والمنكرات وما شابه، وتراه أمرًا معتادًا، فيما تراه أنت بالفطرة خطايا وفواحش.
لكن كيف توفّق كمستضيف بين رغبات الضيف وعاداته، وبين خطوطك الحمراء وثقافاتك وعقيدتك؟ لم يكن هناك كحول لا في الملاعب ولا في المحلّات والأسواق، فقد فرضت قطر معادلة مختلفة على الجميع، بما فيهم إدارة الفيفا. كذلك كان هناك تحدٍّ آخر بخصوص المثليّين، وفيه أيضًا فرضت قطر ثقافتها وعقيدتها، ولم تسمح بأيِّ سلوك ولو رمزيّ يمكن أن يشير إلى مثل هذه السلوكيّات. كان العنوان واضحًا، الجميع يحضر إلى هنا لمتابعة المباريات والتمتّع بالجو الكروي، فقط لا غير. لا يمكن لأيِّ ضيف أن يفرض على مضيفه ثقافات تمسّ معتقداته.
طبعًا لا بدّ من ثغرات، وأنا أرى فيها أمرًا طبيعيًّا كوننا بشرًا. أذكر حادثة أثارتني مرّتين، حيث كنّا في المترو مع حشد كبير من المشجّعين البرازيليّين، لاحظنا شغفهم الجميل وحبّهم لبلدهم ومنتخبهم، لكنّ أحدهم بدأ يضرب سقف المترو الّذي كان مصنوعًا من الحديد الليّن، وما أثارني أكثر أنّ من معه لم يمنعوه، بل أشاروا إلى وجود كاميرات، كنوع من التحذير فقط. هذه الحادثة تؤكّد الحالات الّتي كانت ممكن أن تسود لو أُتيح الخمر، ولو تركت قطر الأمر على عواهنه.
وممّا هو لافت، هو ما شهدت به الصحافة العالميّة والتقارير الرسميّة وغير الرسميّة على خلوّ مونديال قطر من أيّ اعتداء، لا سيّما اعتداءات التحرّش بالنساء، والّتي كانت تنتشر في بطولات سابقة في دول أخرى غير عربيّة ولا إسلاميّة. وهذا مردّه للجو الثقافي العام والمناخ الفطري الآمن، الّذي يدعو ويحثّ على الأمن والأمان، واحترام المرأة، وعدم التعامل معها كسلعة، وإنّما ككيان مستقلّ قائم بذاته، لا يجوز شرعًا ولا أخلاقًا الاعتداء عليه. إنّ الثقافة القطريّة هي المسؤولة عن النجاح في ضبط السلوكيّات، رغم أنّ الاكتظاظ في منطقة صغيرة بدولة صغيرة كان من شأنه أن يثير مثل هذه المضايقات والاعتداءات، لكنّ الجو العام كفل الاحترام، وضمن مشاركة عزيزة كريمة للنساء في الشوارع والملاعب.
مقابل ذلك كلّه، حرصت قطر على وجود مراكز دعويّة تعرّف الناس بالدين الإسلامي، تحاور وتناقش كلّ فكرة مسبقة عند هذه الشعوب. وقد استضافت أفضل الدعاة الّذين يتحدّثون بغير العربيّة للقيام بمهمّة التبليغ الحسن، الّذي يهدم كافّة التصوّرات المسبقة الّتي حمّلها الغرب لمواطنيه عن الإسلام والمسلمين. كذلك فتحوا المساجد أمام الضيوف، وأتاحوا للنساء تجريب الزيّ الإسلامي، وغير ذلك كثير.
التحدّي الثقافي
أبدأ بأسماء الملاعب الّتي حملت هويّة قطريّة، فلم نقصد ملعبًا إلّا وأردنا –كما بقيّة السائحين- أن نفهم معاني اسمه. على سبيل المثال: استاد البيت، والّذي بُني على شكل خيمة، نسبة للبيت القطري التقليدي الّذي كان عبارة عن خيمة مزيّنة بالخطوط البيضاء والسوداء؛ استاد الثُمامة، نسبة للمنطقة الّتي أطلقت على اسم شجرة الثُمام الّتي تنمو هناك؛ واستاد خليفة، نسبة لأمير قطر الأسبق، الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني. حرص القطريّون على هذه الأسماء في خطوة منهم لتبيان حضارتهم وتاريخهم وثقافتهم للعالم عبر هذه الأسماء.
ثمّ إنّنا كزائرين شهدنا البلد وقد تحوّل لملقى ثقافي جمع الشعوب من كافّة بقاع الأرض. رأينا حضارات مختلفة تعجّ بها الحارات والأسواق والمدن في قطر، شاهدنا فرقًا تراثيّة عالميّة، وما لا يقلّ عن ذلك أهمّيّة هو حفاظ هذه الفرق كلّها على اللباس المحتشم والعفّة، حفاظًا منها على قواعد وقوانين قطر الإسلاميّة، وخلافًا لما تعرضه في بلادها أو في دول أخرى، ولهذا كنّا نجد تفاعل الناس وانجذابها للعروض لذاتها، وليس لأيّ غرض آخر، ممّا دلّ على رقي العروض ورقيّ العارضين والحاضرين وبثّ الثقافات كثقافات حقيقيّة تحمل رسالات حضاريّة وإنسانيّة وثقافيّة.
غصّت شوارع قطر بالعروض الّتي لم نشهد لها مثيلًا، من عروض صناعيّة، كصناعة السفن من الخشب، وجميع المهن الحرفية اليدوية ومنها جدل الحبال وألياف النخيل وغيرها، وعروض السيرك والفنون الرياضيّة، وكذلك عروض موسيقيّة بمذاقات مختلفة ومتنوّعة، منها شعبيّة محلّيّة وعربية، ومنها غربيّة تمثّل سائر بلدات وحضارات العالم.
كذلك كنّا نرى ثقافتهم من خلال تمسّكهم بالزيّ العربي الأصلي والأصيل، صغيرهم قبل كبيرهم، وكنت تشعر باعتزازهم بهذا اللباس، وتسمع منهم أنّهم يرون به انتماءً صادقًا للوطن والشعب والتراث، ويعتبرونه كمال الزينة للرجال، فهو اللباس الكامل المحتشم، تمامًا كما النساء الّتي تحافظ على لباسها كاملًا محتشمًا، وغالبيّتها المطلقة ترتدي الخمار والجلباب الكامل المطابق للشريعة الإسلامية. صدقًا، كنّا نميّز القطريّين عن غيرهم باحتشام لبسهم وتميزه.
التحدّي العمراني
أبدأ بالملاعب اللافتة، وهي الأولى عالميًّا من حيث الهيكلة والتجهيز. ما هو مثير أكثر، بأنّ هذه الملاعب أقيمت بزمن قياسيّ، وجميعها مربوط بالمترو وبنيت بزمن قياسي، دون أن تكون ثمّة مشكلة للوصول إلى أيّ ملعب.
الشوارع في قطر واسعة جدًّا، ومنظّمة تنظيمًا لا أقول أوروبّيًا، بل أرقى من ذلك بكثير. أمّا العمران، فقد تشهد هناك عجائب عمرانيّة، بدءًا من المتحف الوطني، إلى مبنى متحف الفنّ الإسلامي، ومكتبة القصر الوطني وغيرها. هذا إضافة إلى فنادق ومجمّعات تجارية وخدماتية لا يمكن وصفها بخمس نجوم ولا ستّ، على أحدث الطراز العمراني، وقلّما تشاهد مثلها في دول العالم.
المعيشة
لا أقول غلاء معيشة في قطر، فنسبيًّا لما توفّره الدولة للمواطن من بنى تحتيّة مقارنة بدول العالم فإنّ الأسعار في قطر مقبولة إلى حدٍّ كبير. على سبيل المثال، المواصلات العامّة هناك رخيصة، والوقود منخفض التكلفة، وكذلك أسعار المياه والكهرباء والاحتياجات الأساسيّة، كلّها أسعار رخيصة حتّى مقبولة. رغم ذلك، فإنّ قطر تعجّ بالعاملين الأجانب، الّذين وصلوا إليها باحثين عن لقمة عيشهم، وهم يستثقلون المعيشة، لا سيّما وأنّهم مطالبون من عائلاتهم في كثير من المصاريف.
تحادثت مع سائق أجرة تونسي، عاش في تونس وليبيا وقطر. أشاد بالحياة في قطر على مستوى المعاملات والتنظيم، لكنّه يستثقل الحياة الاقتصاديّة، فهو يضطرّ للعمل ساعات طويلة ليوفّر ما يمكن أن يرسله إلى عائلته في تونس. رغم ذلك، هو يعتبر وجوده في قطر فرصة لا يرضى بأن يتنازل عنها، ويدفع مقابلها الكثير، ليس فقط مادّيًّا، بل يدفع أيضًا ثمن حرمان نفسه من بلده وعائلته الّتي لم يرها منذ 6 أعوام، لا سيّما –وفق ما قاله- بأنّ الوضع اليوم في تونس تعيس جدًّا. وقد قال كثيرًا بلهجته التونسيّة الخاصّة، الّتي لم أفهم كلّ كلماتها، لكنّ الكلمات الّتي باح بها حينما ذُكرت فلسطين لم تفتني مشاعرها الدفينة فيه، وإن فاتتني بعض معانيها، فقد كان واضحًا حبّه لفلسطين وشعب فلسطين، وأكّد بأنّ هذه المشاعر لا تنحصر فيه وحده، بل في كافّة الشعوب العربيّة.
حسن الضيافة والملقى وأصالة وشهامة العرب القطريين
لم أصادف قطريًّا إلّا وعرض علينا الضيافة والخدمة. في حادثة حصلت معي في يومي الأخير هناك، حيث انقطع هاتفي عن الاتّصال وأنا في طريقي للمطار بالمترو بعد أن أنهيت معاملة تخص السفر، فيما سبقني صديقي علي مع ابني وابنه بسيّارة عموميّة، بحثت في المترو عمّن يسمح لي أن أشتبك عن طريقه بالنت أو أتّصل من هاتفه لأطمئنّ عليهم، فرأيت فتى قطريًّا بلباسه الشامخ ولا أظنّ عمره يزيد عن 14 عامًا، وأخبرته بمرادي، ليتردّد بدايةً، فأنا غريب عنه، وهو يُعذر بكلّ تأكيد. عندما شعرت بتردّده، قلت له “لا عليك، الأمر ليس عاجلًا، سأتدبّر أمري”، ثمّ توجّهت لمكاني على بعد أمتار منه بنفس المقطورة، وما كدتُ أصل حتّى رأيته يقف فوق رأسي، ويقول “أبشر”، فحفظ رقم صديقي بهاتفه وباشر الاتّصال، تارة للرقم المحلّي، وتارة لرقم بلادنا، وتارة يرسل الرسائل للرقمين إلى أن ردّ علينا صديقي وطمأنني. حين وصل الفتى لمحطّة هدفه، وقبل إغلاق باب المترو، عاد مسرعًا ليخبرني بأنّ صديقي أرسل رسالة أخيرة وضع فيها بلاغًا، ولم تكن الرسالة مهمّة، لكن لحرصه وكرم أخلاقه أبى إلّا أن يخبرني. شكرته محمّلًا إيّاه سلامي للوالدين وشكري لهما على حسن تربيتهما.
لم يقتصر حسن التعامل على القطريّين فقط، فالجوّ العام يفرض نمطًا معيّنًا من التعامل. هذا عامل نظافة هندي، لم يكتفِ بتوجيهي عن بُعد إلى محطّة القطار الّتي سألته عنها، بل لازمني حتّى اطمأنّ أني بوجهة صحيحة، وهو لا قطريّ ولا مسلم، حثّه الجو العام على أن يجعل مساعدة الضيف في أعلى سلّم الأولويّات، تمامًا كما كان يفعل كلّ مقيم في قطر.
الحيّز العام والتحدّي التنظيمي الإداري
كانت قطر كأنّها ساحة فرح واحدة. زُيّنت الشوارع والبيوت والحارات والمقطورات والسيّارات ووسائل النقل العامّة بأكملها، وتكاد لا تجد حائطًا ولا مبنى ولا وسيلة نقل إلّا وصبغها القطريّون بهويّة المونديال البصريّة. فرحٌ حقيقي، يليق بقطر وأهلها، حيث أعدّوا كافّة لوازم المونديال التنظيميّة والإداريّة بكافّة التفصيلات العامّة والدقيقة، بإحكامٍ عجيب رهيب، احترامًا لأنفسهم، وتقديرًا لضيوفهم.
ورغم اكتظاظ الشوارع، كنّا نجد دائمًا وفي كلّ بقعة من يوجّهنا ويرشدنا ويساندنا بالإشارة والمعلومة والدليل، بصبر وبشاشة وترحيب. كنّا ندخل الملعب وهو يكتظّ بالمتفرّجين، فيستقبلنا من يوصلنا إلى كراسينا، دون أن نتحمّل عناء البحث، ثمّ تنفضّ المباراة فتخرج الألوف المؤلّفة بسهولة وسلاسة دون ازدحام ولا اكتظاظ على البوّابات، فقد تعدّدت المخارج والسبل.
لكن لا يخلو الأمر من أخطاء المجتهدين، فما بين الحزم والإدارة الحازمة المطلوبة لتسيير النظام دون فوضى، كنّا نتوخّى أن تؤخذ بعض الحالات العينيّة بعين الاعتبار، وأن يُمنح المنظِّم إمكانيّة تفعيل المنطق الإنساني إلى جانب القانون. وممّا يمكنني أن أشير إليه على الصعيد الشخصي، بعد انتهاء مباراة الكاميرون والبرازيل، كانت الساعة متأخّرة، وقد غفى ابني على كتفي، وحين خرجنا واقتربنا بضعة أمتار فقط من خيمة الأمانات الّتي وضعنا فيها أغراضنا وإذ برجال الأمن يسيّرون الجموع للخروج من مخرج جماهيري كبير، يضطرّني للمشي حوالي 2 كم كي أعود إلى خيمة الأمانات، ورغم محاولاتي العديدة لإقناعهم بالسماح لي بالدخول من طريق مختصرة، فالحال كما يرون، إلّا أنّهم أبوا وأصرّوا على أن يبعدونا عن المكان لنعود إليه بطريق التفافيّة بعيدة جدًّا. طبعًا أتفهّم التعليمات والحزم بالتنظيم والإدارة، ومعها كان يمكن النظر للظرف الذي أمامهم والسماح لأب يحمل طفلًا نائمًا على كتفه أن يختصر الطريق، دون أن يتحمّلا أعباء الطريق الطويلة.
القضيّة الفلسطينيّة
عجيبة هي كرة القدم، فما تعجز عنه السياسات أحيانًا تفعله هذه الرياضة. ولا أقصد فقط اللقاء الإيراني الأمريكي، ولا حتّى لقاء المغرب بفرنسا وإسبانيا مع كل التعقيدات السياسيّة والصراعات المناطقيّة والتاريخيّة، بل أقصد فوق ذلك كلّه، رفع القضيّة الفلسطينيّة إلى أعلى مستويات الرأي العام العالمي، دون أن يشارك المنتخب الفلسطيني. يقول نزار قبّاني في “المهرولون”: “انتهى العرس، ولم تحضر فلسطين الفرح”. هنا في قطر، بدأ العرس وانتهى والقضية الفلسطينية حاضرة بقوّة، في كلّ ملعب، وعبر كلّ شاشة.
لم تكن قضية فلسطين محصورة بالأعلام الّتي ملأت المدرّجات في كافّة المباريات، حتّى يقال أنّه العلم الوحيد الّذي شارك في كافّة مباريات المونديال، بل عبقت رائحة فلسطين وذكرها في حديث الشوارع، في المقاهي والاحتفالات، في سيّارات الأجرة والمترو، في الفنادق والمطاعم، في المتاحف والمجمّعات.
هذا سائق سيّارة أجرة باكستاني غير عربي، تفيض عيناه –بمعنى الكلمة- حينما عرف أنّنا فلسطينيّون. بدا ملمًّا في معاناة الشعب الفلسطيني، ولم يكفّ عن الدعاء، دعاء من صادق أمين، فقد صحبنا بسفرة قبل أن يعرف أصلنا وفصلنا، وبعد أن اتّفقنا على أجرته، طلبنا منه أن نقف للصلاة، فاصطحبنا لمسجد، وطالت الطريق وطال الانتظار، دون أن يرضى بريال إضافي على ما اتُّفق عليه مسبقًا.
حتّى السائق السيريلانكي المسلم، الّذي قد تظنّ أنّ بُعد المسافات يجعله يجهل فلسطين وقضيّتها، فاجأنا بمدى حبّه لها ومدى إلمامه بالقضيّة. حاولت أن استفزّ غيرته على دينه، فسألته عن التفجيرات الّتي كانت في سيرلانكا، والّتي ذاعت وسائل الإعلام بأنّها تفجيرات إرهابيّة قامت بها جماعات إسلاميّة متطرّفة، فأبى السائق هذا الادّعاء، ورفضه بشدّة، بادّعاء أنّها محاولات غربيّة لإلصاق الإرهاب بالإسلام، وما كان هناك لا يتعدّى صراعات داخليّة بين طوائف متناحرة على الحكم، وقال لي: “لا يوجد مسلم يقوم بمثل هذه الجرائم. نحن نبرأ إلى الله من مثل هذه الأفعال، وهي لا تمثّلنا ولا تمثّل ديننا ولا أخلاقنا، لكنّه ديدن الجهات المعادية للإسلام، وقد نجحت بإثارة الرأي العام ضدّنا، فتعرّضنا بعد هذه التفجيرات إلى كثير من حملات التنكيل والتفتيش والاعتداءات”. قال ذلك وقد تبدّلت تعابير وجهه البشوش بعلامات الأسى والحزن الشديدين.
وممّا يمكنني أن أضيفه أيضًا في هذا الباب الفلسطيني، ما حصل أمامي بعد المباراة الّتي حقّق فيها المنتخب الكاميروني فوزًا تاريخيًّا على البرازيل، وقد فرحت كثيرًا لفوزهم، رغم حبّي للكرة البرازيليّة، وحين خرجنا من الملعب، وإذ بمشجّع كاميروني يصرخ بلغة الفخر والاعتزاز رغم خروج منتخب بلاده من البطولة، ويقول: “الكاميرون قوّة، إفريقيا قوّة، وفلسطين قوّة، وجميعنا يجب أن نكون قوّة واحدة موحّدة في مواجهة الاستعلاء العالمي على المستضعفين”.
ولم يكن هذا الصدح شاذًّا عن الجو العام في قطر، بل وفي غير قطر، حيث استشعرنا بلذّة وحدة المستضعفين، لذّة الوحدة بين العرب والمسلمين والمنتهكة حقوقهم في كلّ مكان. وهذا ما قد يفسّر ترقّبنا لمباريات المغرب، وفرحنا بالفوز في كلّ قرية ومدينة عربيّة هنا في هذه البلاد وغيرها. بل هذا ما قد يفسّر ميولنا كعرب للكرة الأرجنتينيّة والبرازيليّة، وتكاد لا تجد واحدًا يشجّع إنجلترا وهولندا وأمريكا.
شوقنا للعادات العربيّة واللقاءات الأخويّة
وصلنا إلى قطر في ساعات الصباح الباكر، بعد يوم عمل طويل وسفر وانتظار، وكان لا يزال أمامنا وقت ليس بالقليل حتّى نستلم الغرف. خرجنا لنتناول الإفطار، ونصحنا شاب مصري بمطعم يمني. دخلنا، وكان المطعم مقسّمًا إلى جزأين، جزء مع طاولات، وآخر جلوس على الأرض (قعدة عربيّة)، فاخترنا الجلوس على الأرض. كان على يسارنا شابّان سعوديّان، وعلى يميننا شابّان قطريّان، فافتتحتُ الحديث بيننا وبينهم جميعًا للتعارف، وكم لفت انتباهي شوق السعوديّين والقطريّين للحديث فيما بينهم، حيث لا يتمّ مثل هذا اللقاء عادة نظرًا للعلاقات المأزومة بين الدولتين منذ سنوات خلت. وكان شوقنا لهذا اللقاء والحديث أشدّ، فنحن غير معتادين على هذا اللقاء العربي المميّز إلّا في العمرة والحجّ. شعرنا بجماليّة أستصعب التعبير عنها بالكلمات. ما أجمله من يوم أوّل، وما أجملها من لقاءات يمنيّة ومصريّة وسعوديّة وقطريّة والكلّ عربي.
هيبة الأمير تميم بن حمد، ليس بالعباءة فقط
كنت قد كتبت على صفحتي الشخصيّة منشورًا قصيرًا مرفقًا بصورة الأمير تميم بن حمد، عنونته بالكلمات “يا مُبْدِيًا بالعباءة هيبةً”، وقلت فيما قلته أنّه مخطئ من يظنّ أنّ احتضان الأمير لميسي وإلباسه العباءة كانت خطوة عفويّة. هذا برأيي ما يمكن أن يُطلق عليه “توقيعة”، فالختم والتوقيع يأتي مع نهاية كلّ ملف، وقد وقّع الأمير قصدًا ملفّ كأس العالم برمزيّة قطريّة عربيّة، توقيعًا لن يُنسى ما دامت الكرة وما دامت البشريّة، وليس عبثًا أن انشغلت ألسن الإعلام وأقلامها الحاقدة على العرب والمسلمين بالحديث مطوّلًا عن هذه العباءة.
من تجوّل في قطر وتحدّث مع الناس هناك -سواءً القطريّين منهم والمغتربين- لم يفته الشعور بكمّ التقدير الّذي يكنّونه للأسرة الحاكمة في قطر، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على حكم أسرة تحترم الناس وتصون كرامتهم، كلّ الناس دون استثناء، مواطنين أصلانيّين أم مهاجرين، وهذا مردّه للحكمة والرشاد والصلاح وغياب الفساد في الحكم. هذا ما لمسناه، وهذا ما تؤكّده المؤشّرات الدوليّة، ففي قطر لن تجد مشرّدًا ولا متسوّلًا، بل جميع من فيها في ستر وعمل واكتفاء.
نعم، صحيح أنّ النظام غير ديمقراطي، وأنا على الصعيد الشخصي دائمًا مع القيم الديمقراطيّة الشوريّة، أؤملدولة، وه، وهذالعدالة والمساواة والرشاد والحة في المؤشرات الدولية
يعمل هنام للاسرة الحاكة وهذا يشير للحكمة والصلاح وفساد ن بها وسأبقى، إلّا أنّني أؤمن أيضًا بأنّ فوق أيّ نظام يجب أن تكون اعتبارات العدالة والمساواة والرشاد والحكمة في إدارة أمور الدولة، وما الديمقراطيّة إلّا أداة، والعبرة بالنتائج، وما نراه في قطر نتائج مشرّفة يقلّ مثيلها في أعتى ديمقراطيّات العالم.
شكرًا قطر، شكرًا من القلب. أتَحتُم لنا أن ننعم ولو قليلًا بجوّ عربي إسلامي، وأن نكون شاهدين على كرم أخلاقكم، وعلى عاداتكم العربيّة والإسلاميّة المتأصّلة في صغيركم وكبيركم. لقد ثبتت محبّتكم في قلوبنا، كما يثبت الاسم في المسمّى. نسأل الله أن يتسنّى لنا لقاؤكم متى شئنا وشئتم، وأن يُكتب لكم الصلاة قريبًا في المسجد الأقصى المبارك.
التبسُم وحسن الخلق مودة ورحمة
مقال/ منى فتحي حامد _ مصر
يمكن للإنسان أن يدخل قلوب الآخرين دون أن ينطق بكلمة واحدة، إذ يكفيه سلوكه الناطق بالصفات الكريمة والأخلاق الحميدة.
الأخلاق الحسنة هي الشيء الوحيد الدائم إلى الأبد وتجلب لصاحبها الاحترام والمحبّة، فالأخلاق هي الرصيد الباقي عند الناس، فإنه بتحسين الخلق نكن أغنى الأغنياء ..
الاحترام وسمو الأخلاق تواضع ورفعة وحكمة وإنصاف وعفو، أيضاً كتمان السر والتقوى والصدق والعفة
وإعطاء السائل والمكافأة بالصنائع وصلة الرحم العفاف وإصلاح الحال وإعانة الجيران جميعها دلالات دالة على حسن الخلق ..
فإن مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبين صلاح أمرنا ورشدنا، فمن ادعى الفضل ناقص، إن المرء بالأخلاق يسمو ذكره وبها يُُفضّل في الورى ويوقّر، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، وبأخلاقه يسمو ذكره ..
التبسُم في وجه الآخرين صدقة وتفاؤل ورحمة، فإن حسن الخلق يذيب الخطايا ويّوجب المودّة، فإن خير الناس للناس خيرهم لنفسه، فمَن فرح للناس بالخير ومَن كان خير لأهله ..
الأخلاق بأن تكون صالحاً لشئ ما، مثل الإنسانية والسعي في الرزق والإخلاص والتقوى والمحبة والوفاء والصفاء، فالتربية الخلقيّة أهم للإنسان من الخبز والملبس وإصلاح الأخلاق ومرافقة الأخيار أول الطريق، فإصلاح الأمر بالأخلاق مرجعه وتقويم النفس بالأخلاق تستقم.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. إن الشريف إذا تَقوَّى تواضع، والوضيع إذا تَقوَّى تكبّر، والعتاب خير من الحقد، والعفو عند المقدرة يصلح الكريم ويفسد اللئيم، إن القدوة الحسنة خير من النصيحة وخير من الوصيّة والقناعة كنز لا يفنى ..
فَمَن تواضع لله رفعه ومَنْ حسن خُلُقُه استراح وأراح، ومَنْ حسن خُلقُه وجب حقُّه. فَمَن شَبَّ على شيء شاب عليه ومَنْ عرف نفسه عرف ربه، ومَنْ لم يقنع باليسير لم يكتف بالكثير. فما يجب عليه غض البصر و ترْك كل إنسان ما لا يعنيه ..