فلسطين ….
بقلم الأسير أسامة الأشقر
مرّ عام كامل على محاولة الأسرى الستة انتزاع حريتهم. ومنذ ذلك اليوم، تغيرت أحوال السجون. خاض الأسرى معركتين تكللتا بالنجاح، نتيجة وحدتهم وتكامُل الجهد الداخلي مع الحراك والمتابعة من خارج الأسر، وهو ما أدى إلى وقف الهجمة التي شنتها إدارة مصلحة سجون الاحتلال على الأسرى منذ الساعات الأولى لاختراق المنظومة الأمنية الإسرائيلية ونجاح الأخوة في تحرير أنفسهم.
كنا في سجن جلبوع، وتحديداً في القسم “1”، ولم يكن يفصلنا عن القسم “2”، الذي تواجد فيه الأسرى الستة، إلا أمتار قليلة. كان الوضع شبه طبيعي، ولم يحدث ما يلفت الانتباه، على الرغم من صافرات الإنذار التي دوّت في السجن ما يقارب الساعة الرابعة فجراً.
عند الساعة السادسة فجراً، أعلنت نشرات الأخبار الخبر، فقمنا بالمناداة وسؤال الأخوة في القسم “2” عن صحة الخبر، فأجابوا بأنه صحيح. كنا في حالة صدمة حقيقية، امتزج شعورنا بالفخر والاستغراب والصدمة، فشعر كل أسير حينها أنه هو مَن تمكن من تحرير نفسه.
ارتفعت معنوياتنا عالياً، وكانت كل أمنياتنا أن يتمكن الأخوة من الوصول إلى منطقة الأمان وتحقيق هدفهم، ولو على حسابنا. كنا جميعاً مستعدين لأي إجراء، مهما كان، مقابل أن يتمكن الأخوة من الوصول بسلام، من دون أيّ علاقة بما ستقوم به إدارة السجون.
في الساعة السابعة، قامت إدارة السجن بإقفال جميع قنوات التلفاز، ولم تُبقِ لنا سوى بضع إذاعات نقلت إلينا أخبار ما كان يحدث في الخارج. كذلك، قاموا بإغلاق الأقسام ومنع الدخول إلى ساحات السجن والفورة، أو الخروج منها، وخلال ساعات معدودة، قامت بإفراغ القسم “2” وتوزيع الأسرى المتواجدين فيه على كافة السجون. حدثنا الأخوة عن الطريقة الهمجية التي تم نقلهم بها، حتى أنهم لم يسمحوا لأحد بأخذ أي شيء من أغراضه الشخصية، حتى الصور العائلية والأغراض الأساسية حُرموا منها، عانوا الكثير خلال النقل وبقوا عدة أشهر من دون أغراضهم الخاصة.
في الساعات الأولى، قامت إدارة مصلحة السجون بإحضار مجموعة من الوحدات التابعة لها، ووحدة الأنفاق التابعة لجيش الاحتلال. كانت بالفعل ساعات تداخلت فيها كافة المشاعر: الشعور السائد بالفرح والسعادة جرّاء هذا الحدث التاريخي؛ غير أن المجهول كان بانتظارنا، فلم يسبق لنا أن عايشنا حدثاً كهذا.
وأكثر ما كان يثير الدهشة هو حالة التخبط الشديد التي بدت ظاهرة على وجوه ضباط وشرطة السجن. كانت نظراتهم ممتلئة بالحسرة على الحالة التي وصلوا إليها، ونتيجة هذه الحالة، بدأت إجراءاتهم العقابية والانتقامية تأخذ الشكل ذاته من التخبط، فقد أبقوا الشرطة “السجّانين” متواجدين بصورة دائمة داخل ساحة الأقسام “الفورة”.
كانوا طوال الوقت يدققون داخل زنازين “غرف القسم”، وكل مرة كانوا يعدّون الأسرى، حتى أنهم كانوا يرفضون مغادرة باب الزنزانة، إذا ما كان أحد الأخوة يقضي حاجته أو يستحم، حتى أنني في اليوم التالي استطعت أن أحصي المرات التي قاموا بعدّنا فيها حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، فكانت أكثر من ثلاثين مرة. وفي اليوم التالي، حضرت مجموعة من الضباط الذين قاموا باستجواب كافة الأسرى داخل السجن، وكانت أسئلتهم تتمحور حول عملية الهروب، وكيف استمعنا إلى الأخبار، وما هي انطباعاتنا الأولية عن الهروب.
كانت بالفعل ساعات لا تُنسى لشدّتها وغموض ما كانت ستُقدم عليه إدارة سجون الاحتلال من إجراءات. فأشيعَت أخبار عن عمليات نقل لكافة الأسرى من سجن جلبوع، وصودف أن قام أحد الأخوة الأسرى، والذي يعاني جرّاء وضع نفسي سيئ، برشق الماء على أحد السجّانين، فاستغلت الإدارة هذا الحدث، وقامت بالاعتداء على كافة الأسرى داخل القسم “3”، من دون مراعاة لكبير في السن، أو مريض لا يستطيع الحركة أو الخروج، ثم قامت بنقل كافة الأسرى في القسم “3” إلى سجن شطة القريب، بعد الاعتداء عليهم بالضرب المبرح، ومن دون السماح لهم بأخذ أيّ من مقتنياتهم إلى السجن الجديد الذي دخلوا إليه، من دون أن يجدوا أيّ شيء من مقومات الحياة الآدمية. حتى إن الأسرى وصفوا ما تعرضوا له بأنه حالة من الانتقام الشديد، في إثر محاولة الهروب.
استمرت حالة التوتر الشديد داخل السجن أياماً طويلة، وكنا شبه معزولين عن العالم الخارجي. وفي الوقت ذاته، واصلت الإدارة إجراءاتها العقابية من خلال الكثير من التفتيشات والمداهمات المفاجئة وطريقة العدّ المستفزة، حتى أنهم كانوا يوقظون النائمين للتأكد من وجودهم ووجوههم وأسمائهم.
بقينا في سجن جلبوع حتى السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى أن تم تفريغ السجن من كافة الأسرى، وتحويلهم إلى سجون ريمون ومجدو ونفحة وهداريم وعسقلان والنقب. وطوال هذه الفترة، استمرت إجراءات إدارة سجون الاحتلال في التفتيشات والتواجد الدائم في ساحات السجن.
أما الطريقة التي تم نقلنا فيها، فقد تخللها الكثير جداً من محاولات الإذلال. وذلك ما تم التعبير عنه من خلال طريقة التفتيش المهينة والمُذلة التي حاول السجّانون تفريغ حقدهم بواسطتها، بحيث كان يمرّ كل أسير بأكثر من عشر عمليات تفتيش متتالية، ما بين تفتيشات بالأيدي والأجهزة الإلكترونية، ومن خلال طريقة التفتيش، كانت واضحة ماهية الرسائل التي أرادوا إيصالها إلينا.
كانت فعلاً من أكثر فترات الاعتقال قساوةً، إذ بقينا أكثر من شهرين نعيش حالة من الترقب والانتظار حتى تم نقلنا. وأكثر ما في الأمر صعوبة هو أنه وفي كل مراحل الاعتقال كان لدينا وسيلة لصدّ الهجمة، لكن هذه المرة، كان واضحاً حجم الرغبة في الانتقام الشديد، فآثرنا امتصاص الهجمة، وخصوصاً أن الإعلام الإسرائيلي مارس دوره القذر في التحريض المستمر على الأسرى الفلسطينيين وأسلوب الحياة داخل السجون- حيث يتم تصويره كجنة، وفشل إدارة السجون في السيطرة على الأسرى وضبطهم.
قامت إدارة مصلحة سجون الاحتلال بالعديد من الإجراءات العقابية. فتم تبليغ كافة السجون بإلغاء نظام الفورة “الساحة” المعمول به، وأنه لا يحق للأسير الخروج إلى الساحات إلا ساعتين أو ثلاث خلال اليوم، وهذا تحديداً ما أثار كافة الأسرى ودفعهم إلى الوحدة والدخول في إضراب مفتوح عن الطعام، ونتيجة هذا الموقف الموحد، تراجعت إدارة سجون الاحتلال عن إجراءاتها العقابية، وهو ما دفع الأسرى إلى إلغاء الإضراب. وقد تكرر الموقف مرة أُخرى خلال الأيام والأسابيع الماضية، حين قررت إدارة مصلحة السجون تفعيل إجراءات النقل التعسفي بحق كافة الأسرى المحكومين بالمؤبدات، فتكررت التجربة الناجحة للأسرى من خلال الوحدة والتلاحم وتحديد خطوط حمراء رضخت لها إدارة سجون الاحتلال. ونتيجة الضغوط الخارجية وإصرار الأسرى على مواقفهم، تراجعت إدارة السجون عن إجراءاتها مرة أُخرى، وتحققت مطالب الأسرى كافة.
وفي الخلاصة:
• أولاً: جاءت محاولة التحرُّر مفاجِئة لنا ولإدارة مصلحة السجون، وكان وقعها علينا أشبه بالصدمة. فقد كان الإعداد والتجهيز والحفر والتغطية والخروج مذهلاً ورائعاً، ولم تستطع الإدارة اكتشاف أيّ ثغرة طوال الفترة التي استمرت تسعة أشهر من العمل المتواصل. وحتى الأسرى أنفسهم داخل القسم، الذين كانت تربطهم علاقات طيبة بالأسرى الستة، لم يستطيعوا ملاحظة أيّ إشارة، مهما كانت صغيرة.
• ثانياً: قامت الإدارة بالانتقام من الأسرى بصورة عامة، ومن أسرى جلبوع بصورة خاصة. إذ قامت بالاعتداء على أسرى القسم “3” كافة، وبالإيذاء الجسدي المباشر العنيف، ولم تميّز بين كبير في السن أو مريض، واستمرت في إجراءاتها أكثر من شهرين متواصلين، حتى نُقل كافة أسرى سجن جلبوع إلى سجون أُخرى.
• ثالثاً: كانت فرحة الأسرى بتمكُّن الأخوة من الوصول إلى منطقة الأمان، وفي الوقت نفسه، شعرنا بالحسرة والألم الشديدين، حتى أن جزءاً منا بكى عندما تم اعتقالهم.
• رابعاً: كانت الساحات تعجّ بالتحليلات والمناقشات والأسئلة، حتى إن بعض الأخوة قد ظنّ أن الأسرى الستة وصلوا إلى لبنان، وهم بأمان. لذلك، عندما تمت إعادة اعتقالهم، أُصبنا جميعاً بخيبة أمل لا توصف.
• خامساً: حاولت إدارة مصلحة السجون استغلال الحادث لفرض سياسات جديدة ومختلفة تشكل ضربة قاسمة للحياة الاعتقالية، حينها، أدرك الأسرى خطورة الأمر وأعادوا ترتيب صفوفهم. وكانت ردة فعلهم في محلها، بحيث أرغموا سلطات الاحتلال، وبأمر سياسي، على إلغاء كافة الإجراءات بحقهم.
عموماً، نستطيع القول إن من حق أيّ أسير البحث عن الحرية، وهذا طبيعي. غير أنه ينقصنا دائماً، وفي كل الساحات، وضع الخطط والخطط البديلة خلال أي عمل، فمسيرتنا الطويلة تحتّم علينا إعادة النظر في استراتيجياتنا لأن الطريق طويلة وشاقة، وهي بحاجة إلى نفَس طويل