دوي الفقد وتجربة الحرب “رؤية قصصية” قلم : خالد جوده أحمد

دراسات …
قلم : خالد جودة أحمد
تقدم مجموعة قصص “دمي وحرائق” للقاص العراقي/ عبد شاكر عبود، أطلسًا للحزن، وتؤطر حالات الفقد والإغتراب السافر في وطننا العربي الكسير، وإن كانت استمدت جانبًا كبيرًا من مضمونها القصصي من النطاق المحلي الخاص بالوطن العراقي الكريم. لكنها في الحقيقة تجسد أزمة الإنسان في أنحاء الوطن الأكبر من الخليج إلى المحيط.
والقصص تقدم فكرة أن الأدب في رسالتة السامية ليس مقصودًا لراحة القراء وتسليتهم، ولكن لإصابتهم بالقلق والوعي بالوجود، حيث يوسع مداركهم ونطاق مشاعرهم لتلقي صدمات الواقع. ليس صيحة للتشاؤم لكنها صيحة للتبصير بالأخطار، وتحفيز لمكافحة المظالم وسحق الإنسان.
وقد عمد القاص منذ لحظته الأولى في لقاء القراء وطوال السرد في تقديم قاموس لغوي مثير، وصور بيانية راقية صاخبة بالأسي، وجمل قصيرة ناجزة مؤلمة، وتوظيف مكثف لمفردات تنتمي لحقل دلالي سرمدي في عذاباته. فالتنويع في القاموس اللغوي يخبر عن موهبة قصصية متدفقة تستطيع تثمير الحبكة وكسوتها بثوب لغوي معبر.
وهذا الشأن اللغوي وتنويعه الكبير شكل العناوين جميعا، والمتون القصصية كموج هادر، نموذجًا عناوين قصص مثل: “ليل شديد السواد”، “حدائق فارغة”، “قفص”، “آتون”، “دمي وحرائق”، “ضباب ودخان”، “افتقاد”، …. فاللغة مرآة تناظر حالات شتى من التعبير عن مأساة متجددة متلاحقة الأحداث.
لذلك دافعت المفردات أكتاف بعضها البعض في حشد تفاصيل كثر تمنح الإيهام الفني بالواقع، وتجسد حالات فقد الأقرباء والأخوة والأحباب وتغييب وجودهم الملهم للروح، وانتظار عودتهم القاسية. ففي قصة “ربيع غائب .. خريف عائم” انتظار امتد لأكثر من عشرين خريفًا أن يطرق الباب الحبيب الغائب. وحضرت الأشياء تجسم قسوة الانتظار: “قفص للطيور خالي / أدوات حياكة ورسم / سجادة صلاة / صمت مطبق / …”. وعند عودته تحققت المفارقة بالمآل الحزين عبر بوابة حشد الأشياء: “تقاطيع مدمرة / أسنان متساقطة ومصفرة / …”، وترقي للسخرية الداكنة: “همس لها منكسرَا: مثاء الخير”
والطابع اللغوي المكثف، وحشد التفاصيل الهادرة، ووهج مشاعر شخصيات القصص الحزينة، حقق تقنية قصصية مناسبة للأداء القصص المنهمر وهي “واسطة العقد القصصية”، والتي تعني وضع نقطة ارتكاز للتجميع لعدد من حبات العقد المنظوم “فقرات نصية”، بمعني أن عدد كبير من قصص المجموعة تشتمل تنويعات أو وحدات “حبات العقد”، لكن هناك مرتكز تنتمي إليه هذه الجزئيات. نموذجًا: قصة “مثوي”، حيث تأسس عقد القصة وحباتها المنظومة مجسدة في غرف كثيرة وكبيرة، باردة ومظلمة، تتضام وسط بناء دائري الشكل خرافي التصميم والضخامة. ومرتكز العقد المنظوم “مأساة العراق الكريم” والتى قدمها السرد بتقنية التلخيص في الخاتمة. أما وحدات السرد “الغرف” فشملت: “غرفة خارطة الوطن المحترق / غرفة الصحراء / غرفة الضريح / غرفة مطلة علي جبال شاهقة / ….” وغيرها من تنويعات الخيال الماتعة بالقصة.
واستعمل القاص تقنية أخرى مصاحبة مستمدة من عالم الوسائط الحديثة، وهي تقنية “الارتباط التشعبي”، بالنقر علي عقد نصية تقود لتنويع أو مسار محدد ثم الخروج والعودة للصفحة الرئيسة، وهنا العودة للبناء الضخم الضام للغرف جميعا ليفتح باب غرفة أخرى وهكذا دون توقف. أى نقر رابط معنى تجسده كل غرفة، وعند الدخول تحدث تحولات مرعبة، فغرفة نهر الماء الرقراق جفت كاشفة عن عظام بشرية وبنادق مدماة، وغرفة النخلة السامقة تساقط عليه رؤوس أطفال مذبوحين بدل من الرطب الجني … وهكذا. حتى تبقي غرفة في خاتمة القصة دون كشف لأن مفتاحها صدئ. ربما بحثا عن الأمل الغائب. وعنوان القصة “مثوى” يساهم فى انتاج دلالة القصة حيث انتهت القصة بمفردتي “الهدوء والسكون” دال المأساة العصية. مع شيوع اللون الأصفر في القصص دال الموت.
وفي قصثة “أبواب وشبابيك” تحضر أيضا “غرفًا من نار ولظي”، وأبطالها يدورا ويعودوا خارج نطاق حقيقة الحياة. وفي قصة “وطء” وصف حافل لتفاصيل المكان، وتنفس التفاصيل بتعبير القصة، واختزان الصور واللقطات. ويمكن بيسر حصد عقود القص المنظومة عبر رحاب القصص جميعا.
والقاموس القصصي العامر بمفردات مخزونة، لم تدع شاردة ولا واردة من عالم الأسي إلا جلبته قدر طاقتها. ليقف القراء على تخوم المأساة العصية بأداء بياني مؤلم، تصحبهم القصص بنفسها في دواخل ذوات إنسانية طحنتها الآلام: “أرواح تئن / إدمان الحرمان / دخان يتصاعد فى أرجاء الروح / القئ جثث بشرية مدماة متناهية الصغر / مزارع مهجورة تسكنها الغربان / المآتم الممتدة / الصور ممحوة الملامح / رجال منطوون يشربون بقايا أرواحهم / صب زيت الروح التى يجللها العذاب…” ويمكن العثور في جميع سطور القصص على شواهد نصية كثر جسدت التوعل داخل أحراش إنسانية معذبة.
أما التجربة الموضوعية المنتجة في القصص والتي شكلت الرؤية القصصية فهى تجربة الحرب المرة، والتى جاءت في عبارة صريحة بمواطن قصصية: “ماذا فعلت الحرب بنا؟!”، وفي عنوان مباشر لقصة “أطفال الحرب”. وهذه التجربة أيضًا مؤسسة الحبكات القصصية المنوعة بين الواقع والخيال المجنح أحيانًا، وتدور معظمها حول فكرة الإبدال أو تحقيق “لحظة الإشتعال القصصية” ما بعدها لم يكن أبدًا مثل ما قبلها، نموذجًا القصة العمدة “دمى وحرائق”، حيث “الغياب جمر في القلب … وغصة في الصدر” بعد تغييب البراءة باختطاف مواطن وأسرته لأنهم من دعاة التغيير: “تذكرني بكل ما هو برئ”، “لماذا اختطفوها وهى من دعاة البراءة والفرح؟”
كما حدث التحول في طبائع سكان القصص حيث تسكن أقفاصها، فتبست أطرافها ولم تعد تدرك الحرية أساشًا وتألف جدران السجون حتى تعشقها، وتلفت لديها ذاكرة الإنسان المكرم، معني جسدته قصة “قفص” في زقاق منسي لمدينة جريحة بتعبير القصة: “مات وحيدًا منسيًا ونسى طيوره فى الأقفاص التى لم تفكر بالتحرر متجاهلة باب القفص المفتوح على سعته”. ويحضر ملمح السخرية المدماة في وصف المواطن المتكيف في قصة “أتون” لرجل مسكين من عامة الناس، مسير يصدر له الأمر وينفذه بتعبير القصة: “كن مؤمنا. آمن / كن عاقل. فعل / كن كيسًا. تكيس / ثم نام …” فخرج من إطار الإنسان إلى نطاق الآلية.
وهناك حبكة شائعة تم خدمتها بتنويعات لغوية قوية كما سبق، وهى غياب جنود الحرب وعذابات أحبابهم، ووحدتهم وصقيع أشيائهم بتعبير القصص، والجوع الممرض لدفء التواصل الإنساني، وافتقادهم المر، والحاجة للتنفيس والبكاء الصامت. وفى قصة “أوجاع للبيع” أنثي وحر خانق ورغبة محتدمة وصورة رجل ميت. وفى قصة “أرملة” زوجة مواطن شهيد تحيا زمن ثقيل –عادة نجد ساعات القصص مقتولة جامدة العقارب- في ليالى وحشة يعتريها الغثيان واليبوسة. والجفاف في الأطراف ونحر الحيوية صورة تكررت فى أكثر من قصة، نموذجًا قصة “أصابع”: “أصابع تغيرت وتنرجست وتغضنت وتيبست وتشققت واخشوشنت وتخشبت واسودت”. وتحضر أبرة ثخيبة بيد عجوز في قصة “خيط الذكريات”. حتى اليبوسة تصيب الأشياء المبهجة مثل حديقة متيبسة في شد خيط الذكرى.
والقصص نسيج متحد ولكن حضرت قصص اجتماعية لم تجسد تجربة الحرب، وإن قدمت القهر من زوايا أخرى، نموذجًا: قصة “حكاية هاشم وزوجته البدينة” الغضوب العنيفة التى تبطش بزوجها فى صورة من السخرية الموجعة. وقصة “خرخاشة” التربوية من رحاب علم نفس الطفولة، وحضرت الدمية في القصة معادلا موضوعيا حول تلقي الدرس القمعي في الحياة منذ نعومة الأظفار. وهذا التمديد في الكتاب القصصي مع إحتساء القراء موضوع القصص الواخز عبر تلك المكاشفة دون إخفاء أو تجميل للواقع المدمر. جعل التلقي في تقديرى نبيلًا فالقصص معبرة وتسعى أن تحقق الوعى بالواقع الصعب. أرى لذلك تنقيح يسير يؤسسه الإبداع عبر محطات ترحيل قصص لمجموعات قصصية قادمة. وجلب قصص تعبر وتساند تعبير جميل بالقصص حول انصهار الأرواح بالأرواح. يلتقط بها القارئ أنفاسه من قصص جسدت ببراعة الواقع المأزوم الأسيف.
وهناك أضواء بارقة تنبض فى خفوت في ظلمة الواقع ونجمها الراشد “الإبداع”: الإبداع برق وامض فى ذاكرة الموت”. وفى قصة “مرآة الروح” تحضر لحظة تحفر أعماق الروح التى تشبعت بالخوف والحزن والفقد بتعبير القصة. وفى قصة “السلم” طوق نجاة بالخلاص موتًا فليس الموت خاتمة مفزعة، فكان إرتقاء السلم: “فى السلالم المفضية إلى الآخرة السرمدية، رأى نفسه متحررًا من كل الآلام، شفافًا، مرتديًا بياضًا ناصعًا” وهو ينثر قصائده: “مرتقيًا سلمًا نورانيًا أنشئ من كلمات”
وإذا كانت المقاربة للنصوص عامة تشير لثيمات مبررة فنية وموضوعية في أنحائها، ولا غنى لها عن سرد شواهد نصية دالة على أفكارها المركزية التى لمحتها في الأداء الأدبي. لكنها تكتفى بالإشارة دون الإسهاب المطول. ليصحب القارئ النصوص بذاته ويرى أن الرؤية التى شكلت جيل اكتوى بنار الحرب تبحث دائما عن التعبير الفني المكافئ لظلال هذه التجربة المرعبة في الوطن العراقي الحبيب. وأرى أن قصص “دمى وحرائق” الواخزة هى تجربة قصصية مهمة لا شك تبصر العروبة بمأساتها وتدعو للوطن بخلاص قد لا يلوح لكنها تريده. فقدمت القصص محاولة موفقة رغم طنين الدوى المجهد للروح. واستعانت بروح قاموس لغوي كثيف وتجسيد لحظات إبدال قصصي ومفارقة وأسي مرير.