صهيل الخيول الكنعانية – الجزء الرابع – ل وليد رباح

صهيل الخيول الكنعانية – – الجزء الرابع .. ..

وليد رباح : الولايات المتحده الامريكية

ومضت ليلة اخرى ،وشكيم يستطلع وجه النجوم فى مخيمه يبحث عن وجه حورا بشوق وشغف ، كلما دنا منه فارس لاح الفرح على جبينه عله يحمل اليه انباء دخول طيبة و رؤية فرعون .

 

وطال الانتظار ، وما ان دنا منه الضابط مرة حتى ابتدره بالقول : قد طال الانتظار يا اخى ، والعدو على ابوابنا ، فان رأى فرعون ان نراه الساعة فالسعد لنا ، والا سنعود ادراجنا .

قال الضابط مبتسما : اراك كرهت الصبر واستعجلت الامر ، انما هى ايام من عمر الزمان وتحظى بالمثول امام الاله الطيب ابن الشمس .

 

قال شكيم : ولكنى سفير سمحون العظيم اليه ، وقد اوصانى بان اقضى مهمتى واعود على الفور .

  • اننا نحتفل بعيد النيل الذى يعطينا الخير والنماء …

ولم يكمل عبارته ،ارتفع غبار عربة قادمة يجرها جوادان مطهمان وعلى ظهرها فارس ارتدى  عدته الحربية النحاسية اللامعة ، وصرخ بأعلى صوته قبل ان تستقر العربة غلى ارض المخيم : سيدى ابن الشمس يطلب سفراء ملك فلسطين للمثول بين يديه .

واصابت شكيم فرحة طاغية ، ترك محدثه واسرع نحو حراسه يستحثهم الاسراع فى تجهيز انفسهم. ولم يمض بعض الوقت حتى كان شكيم يشق طريقه فى شوارع طيبة وازقتها متجها نحو قصر فرعون .

أخذته الدهشة وهو يرى ضخامة الابنية وفخامتها فى جانب من المدينة ، بينما تقع فى جانب الاخر  بيوت تعاف العين رؤيتها ، وفى خضم أفكاره ضحك الضابط الفتى وقال :لا تعجب ، هذه بيوت  الاشراف وتلك بيوت العبيد .

هز شكيم رأسه وابتسم .

توقفت القافلة فى باحة واسعة يحوطها حراس سمر الوجوه تبدوعلى وجوههم سيماء القسوة

نزل شكيم عن حصانه وتبعه قائد الحرس واتجها نحو درجات تصعد الى باب القصر ،بينما بقى الجنود لحراسة القافلة ، ودقت صناجات نحاسية دقات رتيبة ، ثم فتح باب على مصراعيه فرأى  شكيم فرعون مصر يفرد جسده على عرش ذهبى لامع ، بينما ركع كل من فى القافلة اجلالا له. وعندما تقدم اليه ارتفعت كل الرؤوس واتجهت العيون اليه .

تفرس شكيم فى وجهه فاذا هو غض طرى العود اسمر الوجه تبدو الوداعة فى كل حركة من حركاته،

قال شكيم : سيدى فرعون مصر وابن الشمس وجارنا الطيب ، قد ارسلنى سمحون العظيم اليك فى قافلة محملة بنفيس الذهب لكى نستبدله بالنحاس .

ادرك شكيم من تقلب الوجوه انه يطلب شيئا عزيزا يصعب تلبيته ، فتابع حديثه : وهذه رسالة من سيدى سمحون يشرح فيها ما اعجز عن ذكره .

تناول احد القواد رسالة سمحون من يد شكيم وسلمها اليه ، فتحها فرعون فبدت على وجهه امارات  الحزن وقال : ما اسمك ايها الرسول الطيب ؟

قال شكيم باسما : خادمك شكيم من ارض حبرون .

قال فرعون : حسن يا شكيم ، اقم فى ضيافتنا ، وفى الغد يأتيك الجواب .

رجع شكيم الى الخلف خطوات ثم انحنى بهامته قليلا واستدار ، وفى طريق العودة الى مخيمة داهمته الاف الخناجر الوهمية ، كما داهمته حورا وسمحون وشعب اورسالم بكامله وهو يهتف ضده. وما ان وصل الى الخيام حتى ارتمى منهكا .

سار الليل رتيبا مملا يحمل فى جعبته العذاب ، استوقفته طويلا نجوم السماء فحدثها عن الامة ، حاول ان يغفو مرات ولكن النوم ابى الا ان يشهر سيفه ويظل واقفا حتى يتنفس الصبح نسيما رطبا ينعش النفس ويسر الفؤاد ، وما ان حطت أولى اعمدة الشمس على وجهه حتى وقف متثائبا مستطلعا وجه الحقول المحيطة بالمخيم .

بدأت دواب الفلاحين تخترق الارض المحروثة بتكاسل واناة ، وقليلا قليلا دبت الحياة فى المروج،

وارتفعت الشمس قامة اخرى .

 

ارتدى شكيم عباءته وسار نحو الحراس على باب المخيم ، كانوا خليطا من بنى كنعان والفراعنة،

استقبلوه باسمين وتحدثوا اليه باستحياء ، انسوا اليه فافضى كل منهم بهمومه ، وبعد لآى جاء الضابط  الفتى فاتجه نحو خيمة شكيم ، وعندما ضمهما المجلس قال شكيم : منذ البدء ارى  مهمتى قد فشلت ، لقد رأيت تقلب الوجوه يوم ذكرت النحاس امام فرعون .

  • لاتحكم على شىء قبل ظهور نتيجته ، ربما عارض بعض الاشراف ، ولكن النتيجة الى جانبك .
  • ولماذا تعتقد هذا ؟
  • ربما لانهم يجمعون الذهب الان فى قصر فرعون استعدادا لاثرائه فى العالم الاخر .
  • نظر اليه شكيم مستطلعا ، فقال الضابط : عندما يموت فرعون يوضع الذهب تحت تصرفه فى قبر فسيح يسمونه الهرم ، وقد اوفد فرعون الى مناحى مصر جنودا كلفهم شراء الذهب ونقله الى قصره .

فرح شكيم وقال : هذا يعنى انكم بحاجة الى الذهب ؟

  • لا … لسنا بحاجة اليه ، ان الاشراف يمتلكون منه الكثير، ولكن فرعون يضع مقادير عظيمة منه فى قبره ، عندما يدعوه اوزوريس الى عالمه هناك ، حيث يعيش حياة هادئة دون ازعاج .
  • من اوزوريس هذا ؟
  • انه اله الموت الذى يحب فرعون ويسعى دائما لان يكون الى جانبه .

ايقن شكيم ان مهمته سوف تنجح ، فدخل الامان الى قلبه ، مرت البسمة الى شفتيه ، فانشرح صدره واخذ يتحدث باسهاب عن حبه لاريحا واورسالم وارض بنى كنعان ، و الضابط يستمع اليه مأخوذا.

وعندما غادر الضابط مخيم بنى كنعان جاء قائد حرس القافلة فتحدثا طويلا عن اشياء جميلة وذكريات عزيزة ، وما ان انتصف النهار حتى جاءهما من يخبرهما ان فرعون قد اولم فى الليل للترفيه عن سفراء سمحون الملك .

 

وعندما ازف الموعد ، ارتدى شكيم ملابس بنى كنعان النظيفة ، بينما ارتدى قائد حرس القافلة عدته الحربية الكنعانية ، وامتطيا حصانيهما وحفت بهما كراديس الجنود وسارا الى المأدبة .

كانت المأدبة حافلة باطايب  مصر ، اصطف الاشراف على جوانب القاعة ، بينما خلت قاعة صغيرة فى صدر المكان لفرعون وخاصته . جلس فيها شكيم مع قائد الحرس يتحادثان ، وما هو الا بعض الوقت حتى وقف الجميع ،ثم ركعوا، واعلن عن قدوم فرعون ، تقدم اليه شكيم ونفحه بكلمات الشكر والامتنان على اكرام سفراء سمحون  اليه، ورد عليه فرعون بكلمات ترحيبية جميلة ، ثم بدأوا يأكلون .

اهتزت اعمدة القاعة طربا على انغام موسيقى جميلة مرحة ، وجامل فرعون ضيفه فحدثه باسهاب، ورد عليه شكيم بأدب جم وكلمات قليلة . وعندما انتهى الطعام جاءت سمراوات مصر فانثنت اجسادهن  مع الموسيقى بدلال وخفة ، واخذ شكيم بجمالهن فأخذ يقيسهن بنظراته طولا وعرضا وارتفاعا . ولما مضى من الليل جزءا سكنت الموسيقى ، واعلن ان فرعون سوف يغادر القاعة ، فانتبه شكيم  الى نفسه وهمس الى قائد حرس القافلة : انه كرم لم نعهده ، ولكنهم  وعدونا بالامس ان يردوا بما عرضناه عليهم !!

  • صبرا يا شكيم ، ربما لم يتوصلوا الى قرار بعد ،

و تحرك فرعون وهمس الى شكيم ان رسله سيأتون اليه فى هذه الليلة لزيارته فى مخيمه ، فانفجرت  اسارير شكيم وانحنى لفرعون احتراما .

 

***

هش لهم واستقبلهم فى صدر خيمته ، ولكنه اكتشف من نظراتهم خيبة الامل فاستعجلهم القول فرد احدهم باقتضاب :

سيدى رسول سمحون العظيم الملك جارنا الطيب ، لقد جئتنا فى وقت نحتاج فيه للنحاس لتسليح جيشنا واعداده ، ولذا فان فرعون العظيم لا يمانع فى نقل النحاس اليكم ، ولكنه يشترط ان يوزن النحاس بالذهب.

ذهل شكيم وقال : ماذا تعنى ايها الرسول ؟

  • اعنى قطعة النحاس تساوى قطعة الذهب وزنا وقيمة .

وضع شكيم كفه على عينيه واعتصرهما بقوة وقال : شكرا لفرعون العظيم  ، سوف انقل هذا لسيدى سمحون الملك فيرى فيه رأيه .

قام الرسل وغادروا ، وشيعهم شكيم بنظراته ، وعندما ابتعدوا عن المخيم ، ارتمى شكيم على الارض بوهن وقال لقائد حرس القافلة :انها معجزة القاها فرعون لنرحل دون النحاس

قال القائد : سوف نعد القافلة للعودة ،فاستأذن لنا فى الرحيل الليلة .

عندما كان الجنود يسرجون الجياد ويعدون الابل للرحلة الطويلة ، كانت قطرات من الدمع  تسيل على وجه شكيم فيترك لها العنان لتسبح نحو العنق .

 

***

الجزء الثاني :

كانت الصحراء امامه ظلا من الخوف والعذاب ، وجوه الجند ذابلة  تنم عن الخيبة والمرارة ، والخيول تسير ببطء كانما لحقها الحزن فباتت تلهث دون ان يصيبها التعب . كلهم سكوت الا خطوات الابل تحمل اليهم هسيسا وهى تدوس الرمل باناة ونثاقل ، وحملت  اليه النسائم الطرية وجه حورا ، كان وجهها عابسا علقت عليه الاتربة واعتلاه الغبار ،

صرخ شكيم بملء فيه فجاءه قائد القافلة وطلب اليه ان يتوقف كيما يستريح .

ونامت الابل ليلتها فى الصحراء ، وعاودت الحمى شكيما فى نفس المكان الذى اصابته فيه وهو متجه الى مصر فأخذ يهذى ويتألم .

وتعكر جو الصحراء فجأة ، ارتفع الغبار الى عنان السماء ورغت الابل وصهلت الخيول وسمع شكيم صوت دق الاوتاد وتثبيتها فى الرمال الرخوة .

حملت اليه الريح القاسية غبارا دخل الى حلقة فسعل بقوة وتحامل على نفسه ونظر من باب الخيمة، فرأى جحيما من الرمل والغبار يهجم على رجال القافلة فتحملهم الريح الى وجه الارض ، فينهضون ثانية ويستميتون فى تثبيت اوتاد الخيام والابل ، لكن ساقية خانتاه فانكفأ على الرمل وغرس وجهه  فيه ولم يعد يشعر بما حوله .

 

صرخ الجنود بكل ما يملكون من وهن وقوة ، العاصفة تأخذ الابل بعيدا … ايها الرجال ..

الحقوا بها انها تتيه فى الصحراء ..وتفرق الجنود كل الى جهه ، وازدادت العاصفة عنفا ، اقتلعت  الخيام والقتها بعيدا ، وعندما افاق شكيم فى الصباح حاول ان يتحرك لكنه شعر بثقل على جسده ،كان الرمل قد دفنه حتى نصفه ، نهض بوهن ثم نظر فاصيب بحالة من الذعر لم يعهدها فى حياته ،

كانت الخيام مدفونة تحت الرمال والنصف الاخر ظاهرا يدل على أثار الكارثة ، سار متمهلا ورفع  بعض الملابس المدفونة فلم يجد أثارا لاصحابها ، طوف نظره فى الصحراء فارتد اليه بصره  ينعى أصحابة ، ركض فى اتجاهات الصحراء يصرخ .. ويصرخ فلا يسمع الا صوته ،

احس بحلقة يكاد ينفجر ، لم يكن هناك ماء ولا طعام ، وايقن  أنه سيهلك مثل أصحابه ، فطفرت  دموعه دون ضوابط .

ووافته القوة فجأة فأخذ يركض مسرعا ثم يقف على التلال الرملية الناتئة مناديا مستغيثا ، وارتفعت  الشمس قامة أخرى ، وبدأ العرق ينساب على جبينه ، ثم ازدادت حرارة الشمس فتلونت ملابسه  بدفق من الماء النابع من مسامات جلده .وعن بعد كان هبوب الريح يبدو للناظر مرعبا وهو يحمل ذرات من الرمل منساقة الى حيث التلال القريبة .

  • أه يا شكيم ، وفلاح حبرون الشقى ، تأتى لتعود بالنحاس فيضيع منك الذهب ويدفن الاصدقاء تحت وهج الرمال .

توقف ، ثم قال له رأسه واصل السير فلا فائدة من التوقف ، شعر بعطش مفاجىء ، نظر حوله   غريزيا يبحث عن الماء ، كان السراب يموج أمامه مثل الضباب فأسرع نحوه ، لكن خطواته كانت تتثاقل وتتثاقل ، حتى لم يعد يقوى على السير .

  • يا سارح ، يا أله الزراعة والرى ، جد لى بملء كفى ماء ، فاعطيك حياتى ، سرت سخونة من الرمل الى اصابع قدميه فاحس بالجمر يشويها ، تمايل جسمه ثم استقر على الرمل ، ارتفعت راحته الى شفتيه ببطء فالفاهما كحطب جاف ، وغامت حول عينيه الاشياء  ,حاول النهوض ، لكن وجه حورا النظيف جاءه بابتسامة عذبة فمد يده اليها فاصطدمت بدفق  من الرمل المغروس حول جسمه ، وشجت الرمال جلده  فنهض على ركبتيه بتثاقل .
  • ايتها الشمس القاسية ، يا سمحون العظيم ، ايتها ال (حورا) النائمة على سرير من الضباب ، أبى، أمى ..

تحامل على نفسه بجهد ونهض ، مد بصره الكليل عبر الافق ، فلم ير غير السراب ، ونقلت الريح  اليه صفيرها فعلم أن عاصفة تستعد ثانية للهبوب ..

  • لن تكون جثت علما فى الصحراء ، ساحفر قبرى بنفسى واواريه التراب ، انسابت اظافره تحفر فى الرمال ، ثم توقف بعد هنيهة ، لم يعد يقوى على مواصلة الحفر ..

يا شعب اورسالم العظيم ، لاتلعن شكيم الذى مددت اليه يدك قبل رحيله الى ارض الفراعنة .

بدأ الهبوب خفيفا فى البداية ، ثم تكاثر حوله فلم يعد يميز الى اى اتجاه ينظر ، خانته قدماه  فانحنى ، ثم سقط كنخلة هوت بعد أن قص ساقها فجأة ..

***