فلسطين ….
نواف الزرو – كاتب من الاردن …
من أوكرانيا إلى فلسطين ثانية، وبعد أن هيمن الحدث الأوكراني على المشهد الإعلامي –السياسي العالمي برمته وما يزال إلى حد كبير، نعود ثانية إلى فلسطين، حيث مركز الأحداث والتطورات والمعادلات الاستراتيجية في المنطقة والعالم، تعمل المؤسسة الصهيونية بكافة أذرعها الممتدة وخاصة العسكرية-الأمنية الاستخبارية والاستيطانية الإرهابية على محاصرة الآمال والطموحات والمعنويات الفلسطينية عبر توظيف متلازمة سلاحي الزمن واليأس بهدف إدخال الفلسطينيين في نفق اليأس والاستسلام للأمر الواقع. وفي هذا السياق، كان أهم جنرالاتهم موشيه ديان، راهن عليه حينما تحدث عن أهمية سلاحي الزمن واليأس في الاستراتيجية الصهيونية، مخاطبا بعد انتصاره العسكري الساحق عام 1967 هيئة أركان حربه يائساً: لا أنا ولا أي جنرال إسرائيلي آخر قادر على هزيمة الفلسطينيين.. الذي سيهزمهم هو الجنرال يأس، مهمتنا خلق هذا الجنرال الفلسطيني أو اختراعه، فهو وحده القادر على إعطاء إسرائيل بوليصة تأمين طويلة المدى، فمات دايان ولم يتحقق حلمه في إيجاد ولادة فلسطينية قادرة على ذلك الإنجاب، ولا صلصالاً فلسطينياً يخترعون به ذلك الجنرال لإزالة تلك الأشباح التي تمنع الإسرائيلي من النوم وتطرد كوابيسه الليلية. بل العكس تماما، فاليوم وبعد أكثر من اربعة وسبعين عاما على النكبة تشتعل فلسطين التاريخية بكاملها في مواجهة مشروع الاحتلال، فمن المدينة المقدسة إلى برقة وبيتا ومسافر يطا وغيرها إلى المناطق المحتلة 1948 وعودة إلى الضفة الغربية بكاملها، أصبح العدو في مواجهة انتفاضات فلسطينية -صغيرة – ولكنها عارمة، بل تفاقم الرعب الصهيوني من الحضور الفلسطيني.
ثم جاء ليبرمان ليخاطب الإسرائيليين ليذكر بجدار جابوتنسكي الذي يستند إلى فلسفة اليأس -أي تيئييس الفلسطينيين- قائلا: “افهموا، أن المشكلة الفلسطينية كفت عن أن تكون ملحة، وكذا في العالم أيضا، و”الواقع الذي ننشغل فيه كلنا بهوس بالمشكلة الفلسطينية /هآرتس- 18 / 12 / 2009″، هذا ما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في خطاب في كلية مستعمرة أرئيل في الضفة الغربية، وادعى ليبرمان بأن “المشكلة الفلسطينية هي المشكلة الأقل اقلاقا”، ودعا مستمعيه إلى “أن يفهموا بأن المسألة الفلسطينية هي بالإجمال مسألة أخرى، وبالتأكيد ليست “المسألة…!”، وأوصى ليبرمان من لم يفهم الرسالة التي أراد نقلها بقراءة مقال “الجدار الحديدي” لزئيف جابوتنسكي: “اقرأوا وستفهمون، ولكن يمكن حل المشكلة الفلسطينية بدون حلول وسط إقليمية، ببساطة كسر الدافعية والإيمان لدى الطرف الآخر بأنه يمكن شطب دولة إسرائيل من الخريطة”.
ونعود هنا مرة ثانية وثالثة لمناقشة مسألة ولعبة الزمن –الوقت واليأس ما بيننا وبين العدو، فنحن نلاحظ في االسنوات الأخيرة أن “إسرائيل” تسابق الزمن وتستثمر الظروف والأحوال العربية وتستغل الانهيار العربي باتجاه التطبيع إلى أقصى درجات الاستثمار والاستغلال، وهم يجمعون على أن هذه الفرصة السانحة لهم اليوم فرصة تاريخية لا تتكرر… وبالتالي يحرصون على استثمار الوقت إلى أبعد الحدود، ما يقودنا إلى مناقشة وتقييم أهمية الوقت – الزمن في صراعنا مع ذلك المشروع الصهيوني.
فقد ثبت عبر نحو أربعة وسبعين عاما مضت، أن “إسرائيل” تحتاج إلى الوقت والمزيد من الوقت دائما.. والمؤسسة الصهيونية تراهن على الوقت دائما.. والوقت مسألة حاسمة في الوجود الصهيوني… والاستراتيجية الصهيونية تقوم منذ بدايات تلك الدولة، على رباعية الزمن واليأس وبناء وتكريس حقائق الأمر الواقع الاستعماري التهويدي، وإحكام القبضة الأمنية العسكرية استراتيجيا على فلسطين والمنطقة، غير أن كافة الأحداث والوقائع تؤكد أن الفلسطينيين أسقطوا بنضالاتهم وصمودهم مداميك الاستراتيجية الصهيونية: المراهنة على الزمن والنسيان واليأس…!
ولكن: المؤسسة الصهيونية تبقى في سباق مرعب مع الوقت، وهي تحرص على عدم إضاعة دقيقة واحدة من الوقت بلا عمل صهيوني، إن على صعيد الأرض العربية المحتلة، أو على صعيد البناء العسكري الأمني، أو على صعيد البناء العلمي والثقافي، أو على المستوى الاقتصادي، أو على مستوى بناء العلاقات والتحالفات في كافة القارات. فهم يعتبرون أنفسهم في صراع وجودي مع الفلسطينيين والعرب (العروبيين)، وهم لا ينامون.. فهل هناك من لا يتابع أو يرى الذي يجري في كل دقيقة على أرض القدس والضفة الغربية مثلا…؟! أو في الجليل والمثلث والنقب… حيث يواصل البلدوزر الصهيوني أعمال الهدم والتجريف والتخريب بهدف تهديم المشهد العربي في فلسطين بكافة مضامينه التاريخية والحضارية والتراثية والدينية وبناء مشهد صهيوني تهويدي على أنقاضه…؟! أو على مستوى الاستعدادات العسكرية على كل الجبهات العربية…؟!
إنهم يوظفون كل طاقاتهم وعلاقاتهم ولوبياتهم وتأثيراتهم على المستوى العربي والأمريكي والدولي لغاية مد “إسرائيل” بالمزيد من الوقت. وما الذي تابعناه على مستوى عملية السلام والمفاوضات المزعومة على مدى نحو سبعة وعشرين عاما إلا تكريسا للاستراتيجية الصهيونية في هدر الوقت العربي، لصالح بناء حقائق الأمر الواقع الاستيطاني التهويدي. وقد سعت تلك الاستراتيجية تفاوضيا، منذ بدايات عملية المفاوضات إلى “خفض سقف الطموحات الفلسطينية”، ورفض “الجداول الزمنية والمواعيد المقدسة-أي الملزمة- في المفاوضات، وهناك إجماع سياسي إسرائيلي بين كافة الأحزاب المؤتلفة في الحكومة وخارجها على رفض الجداول والمواعيد، بينما تصر السياسة الصهيونية دائما على مواصلة المفاوضات… هكذا من أجل المفاوضات.. بل يمكن القول “أن الصهيونية كلها بُنيت على الفترات التي تركها أو أهدرها العرب لهم”، وفي هذا السياق والمضمون كتب المحلل الإسرائيلي المعروف ايتان هابر في يديعوت أحرونوت- 01 /7/2012 يقول: “أن شيئا واحدا فقط موجود بكثرة للعرب جميعا مهما كانوا، وهو غير موجود على الإطلاق للإسرائيليين وهو الزمن، فمفهوم الزمن عند العرب يختلف تمام الاختلاف عنه عندنا، فللعرب زمن دائما، فهم لا يُسرعون أبدا إلى أي مكان، أما نحن الإسرائيليون في المقابل فليس عندنا زمن، بل يجب أن يكون كل شيء سريعا وفي أسرع وقت ممكن، ولا يوجد تأخيرات، ويبدو أن الحركة الصهيونية كلها بُنيت على الفترات التي تركها العرب لنا، وقد تعلمنا كيف نستغل أحسن استغلال هذه الفترات لبناء دولة وإنشاء استيطان زاهر والاتيان بملايين المهاجرين وإنشاء وطن للشعب اليهودي، ونحن بيننا نضحك دائما على العرب الذين يسألون بجدية: “كم من الوقت حكم الصليبيون هنا؟ مئتا سنة فقط.. سننتظر فعندنا زمن!”
وفي عملية المفاوضات أيضا، التي أصبح واضحا تماما أنها كانت على مدار سنواتها هدرا عبثيا للزمن الفلسطيني العربي، بينما استثمرتها دولة الاحتلال أفضل استثمار، فالحكومة الإسرائيلية تستحضر في هذا السياق مقولة لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر نظر فيها قائلا: “أوهم الآخرين بأنك تتحرك في حين تكون ثابتا”، وهذه المقولة كما يبدو غدت أساس التحركات الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة في محور المفاوضات والتسوية، ما يفيد عمليا أن كل عملية المفاوضات والتحركات السياسية الإعلامية ما هي سوى أكذوبة ونصب واحتيال على الفلسطينيين والعرب.
الأمر الذي كان رئيس وزرائهم الأسبق اسحق شامير قد أكده منذ مؤتمر مدريد قبل واحد وعشرين عاما حينما أعلن: سوف أجعل المفاوضات تستمر عشر أو عشرين عاما دون أن نقدم شيئا للعرب”، ولذلك عندما يؤكد وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان “أن المواقف الإسرائيلية والفلسطينية غير قابلة للجسر”، ويتوقع بأن “لا يتم تحقيق أي اختراق بعد 16 سنة”. موضحا: “إن اتفاقات أوسلو حددت سقفا زمنيا للتوصل إلى اتفاق، ومنذ ذلك الوقت مر 16 عاما، ولن يكون هناك اتفاق بعد 16 عاما آخر. مؤكدا: “لا يوجد أي احتمال لجسر الهوة بين المواقف الإسرائيلية والفلسطينية في المستقبل المنظور”، مضيفا: “إنه لا يؤمن بإمكانية التوصل إلى تسوية دائمة مع الفلسطينيين في السنوات القريبة”، فإنه بذلك يفصح جهارا عما في فكرهم ونواياهم
وعندما كان نتنياهو أعلن عدة مرات: “إنه يصعب عليه أن يصدق وجود إمكانية للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين”، ثم تبعه الرؤوس الثلاثة الكبيرة في الحكومة الإسرائيلية الحالية-بينيت ولابيد وغانتس- بسلسة تصريحات واضحة وحاسمة حول “عدم السماح بإقامة دولة فلسطينية -إرهابية-” ويواصلون في الوقت ذاته “إقامة المزيد والمزيد من حقائق الأمر الواقع الاستيطاني”، فإن الصورة تغدو واضحة ناصعة لا ينقصها سوى أن يعتبر الفلسطينيون والعرب المعنيون في عدم هدر المزيد من الوقت لصالح البناء الصهيوني على الأرض.
———————
Nzaro22@hotmail.com