أبدا ليست كلها أمية منهجية – بقلم أ.د – عبد الرزاق مختار محمود

دراسات – اصدارات ونقد
بقلم : أ.د عبد الرزاق مختار محمود – مصر ..
اطلعت على مقال الدكتور عمار علي حسن عن الأمية المنهجية, خصوصًا في العلوم الإنسانية, والدكتور عمار كاتب مرموق, له خطه المميز والمتميز, يحق له أن يرصد, وينقد, ويقدم المقترحات والحلول, كما حوى مقاله.
ولكن ما دفعني لكتابة هذه الكلمات ليس فقط تناوله بيراع النقد والتعليق, ولكن كثرة تداول المقال من قِبل أساتذة في ميدان العلوم الإنسانية يثنون على المقال, ويؤيدون كل ما فيه, وربما مجرد هذه الكثرة توكد هذا العنوان الصادم الذي ارتضاه كاتبه.
ونسي جُل من تناقل هذا المقال أن بين أيديهم مئات- إن لم يكن آلاف- الرسائل التي وُصفت بالجهل والأميه وانعدام السلامة في بنائها, ولسان حالهم يقول إن رسائلي التي أشرف عليها أو أناقشها لا تنتمي إلى تلك الأمية التي يقصدها الدكتور عمار, وربما توهم بعضهم أن نقده ومشاركته للمقال يعفيه من هذه التهمة, وهذا أيضًا خلل في المنهجية.
إلى هولاء, وإلى القدير الدكتور عمار,
بدايةً أنا لا أنكر هذا المصطلح, ولا أنفيه على الإطلاق, هو فعلًا موجود, وهذه الأمية ليست قاصرة فقط على العلوم الإنسانية, ولكنها تتعداها إلى كل العلوم, ولكنها في العلوم الإنسانية أوضح؛ وذلك نظرًا لطبيعة تلك العلوم وبنيتها.
أما عن الأمية المنهجية التي اختلف مع الكاتب وبمنهجية أيضا عندما قال إن الغالبية العظمى من تلك الرسائل تفتقر إلى المنهجية السليمة, ولعل ما دفع الكاتب إلى ذلك, الانطباع العام والسائد عن التعليم بصفة عامة, ومخرجاته كافة, بداية من أولى درجات السلم التعليمي إلى أرقى الدرجات العلمية, وهو انطباع صحيح في ظاهره, تتشابك فيه الأسباب مع النتائج التي ليس من أهمها قدرات الباحثين أو أعضاء هيئة التدريس, من المدرس حتى الأستاذ.
ولكن الأهم في هذه الأسباب, هو ذلك المنهج الذي لا يشجع المنهجية السليمة, ولا يسلط عليها الأضواء, وعلى رأسها الإعلام, الذي يسلط الضوء بكثافة على السقطات, ولا يكاد يذكر التميز والنجاحات, فعندما يتحرش أستاذ بطالبة أو زميلة تفرد له العناوين, وتدشن له الهشتاجات, وينبري حراس الفضيلة ينصبون المشانق, وتعالج الدراما, وهكذا, ليل نهار.
وأنا لا أنكر هذا, ولكن كتفًا بكتف, ينبغي أن يسلط الضوء على تلك النماذج المتميزة سليمة المنهجية الرصينة الحاصدة للجوائز, فهي أكثر من أن تُحصى في كل العلوم, وفي كل الكليات, وفي كل الأقسام, وأعدادها بمئات أضعاف هؤلاء المتحرشين, ولكنهم ليسوا مادة خصبة لحصد اللايكات والمشاهدات.
ولا ينبغي أن نغفل ما يعانيه البحث من مشكلات لا حصر لا تبرر أمية المنهجية على الإطلاق, ولكنها تساعد في تضخيمها, حتى يتوهم الناقد أن جل الأبحاث والرسائل هي كذلك.
ومنها على سبيل المثال, أن آلاف الرسائل العلمية المتبعة منهجية سليمة وصحيحة ورصينة, ظلت حبيسة مقابر الكتب في قاعات المكتبات التي علتها أتربة غطت ملامحها.
هنا يمكن أن أتحدث عن نفسي, ومعي, ومثلي, وأفضل مني المئات, وهذا عين الحقيقة,
أنا شخصيًا كمختص في المناهج وطرق التدريس, وحصلت على الأستاذية من قرابة عشر سنوات, أشرفت وناقشت قرابة مائة وخمسين رسالة تقريبًا, جميعها يعالج مشكلات حقيقية في التعليم, وعلى المستويات كافة, بدايةً من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية, مشكلات حقيقية من الميدان, تم تشخيصها بأساليب علمية دقيقة ومتعارف عليها, قدمت اقتراحات وحلول مبتكرة لها, تم تجريبها وأثبتت فعاليتها, وهي صالحه للتجريب والتطبيق على نطاق أوسع, ويمكن أن تستخدم في ميدان التعليم, وبعض هذه الرسائل يسعى إلى تدريب المتعلمين والمعلمين على تنمية التفكير, وابتكار حلول إبداعية لمشكلات حقيقية, واكتشاف ورعاية الموهوبين, وتقديم برامج يتم تجريبها وإثبات فعاليتها, بل إن بعض هذه الرسائل يسعى لتوظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتنمية مهارات المتعلمين, والارتقاء بخيالهم الأدبي- على سبيل المثال- ويتم تجريب ذلك على تلاميذ في الميدان، وبعضها تمت التوصية بنشره وإهداؤه إلى وزارة التربية والتعليم, ومركز تطوير المناهج, ولكنها سلكت كما سلك أقرانها سبيل النسيان والهجران، وأين السبيل لتشق هذا الأفكار والتجارب المنهجية سبيلها للتنفيذ والاستجابة والعيب هنا ليس عيب الأستاذ وحده, فنحن نصرخ ليل نهار بأن لدينا تجارب يمكن الاستفادة منها, وتطويرها, ومن ثمَّ تعميمها, ولكن من يسمع, ونحن في سياق أمية فكرية أصابها الخلل في الأولويات, وما تحتاجه المجتمعات لتنهض من عثرتها.
أنا- وكما قدمت- لا أنكر تلك الأمية, ولا أنكر أن من بيننا مجموعة ربما لا تعتني كثيرًا بالمنهجية السليمة, ولكن, وليس بدافع الغيرة, ولا بدافع الرد من أجل الرد, ولكنها الحقيقة التي أتعامل معها بشكل يومي, فإن ذلك يمثل قلة قليلة, أما الغالبية العظمى فهم من أهل التجويد والإتقان وسلامة المنهج.
أشكر الدكتور عمار على مقاله؛ فنحن في المجتمع الجامعي في حاجة إلى من يشاركنا الهموم ويسلط الضوء على ما نعاني.
وما نعانيه هو أبعد بكثير من تلك الأمية على خطورتها وأثرها, وربما حل تلك المشكلات وتسليط الضوء على النجاحات, يسهم في اندثار تلك الأمية, وشيوع المنهجية السليمة والدقيقة.
الأمية ليست أمية منهج فقط وهي كذلك
ولكنها أمية تتعدى المنهج لكل ما هو ثمين- وهو الكثير- ليعلو على السطح الغث- وهو القليل-
فيتوهم أولئك الباحثون عن الوهلة الأولى في كل شيء أنه الشائع والغالب, وهو ليس كذلك.
جامعتنا, وطلابنا, وأساتذتنا بخير, فعلًا بخير, رغم تراكم المشكلات وضعف المخرجات, ولكنه المناخ العام الذي تنزوي فيه الكلمات الراقية والألحان المعجزة والأصوات الجبارة, أمام ذلك الثور الهائج من أغاني المهرجانات.