دكريات للكاتب : حدث في بغداد
بقلم : وليد رباح – الولايات المتحده الامريكية
لم يزل حبك يا بغداد في ذاكرتي .. كلما طواني الليل انسرب مع العتمة الى ابي نواس .. حيث (المسقوف) يحكي عن الصبايا اللواتي خلعن عباآتهن لبيعها في سوف نخاسة العرب أنت يا بغداد جرحي .. وانت التي فرشت لي طريقا معبدا نحو الحرية .. فمتى تنهضين ..
***
هاتفت ام سعد بعد طول عذاب .. قلت لها اتحدث اليك من عمان .. ولكني اقيم اليوم في امريكا .. فما احوال الاهل عندكم .. قالت ام سعد : نحن بالف خير يا وليدي .. نقطع من لحومنا ثم نأكل منها ولا نبيع كرامتنا .. وبكيت .. وبدلا من ان اواسيها اخذت تخفف عني .. ولكن .. ما اصل الحكاية .
***
في بداية الثمانينات شددت الرحال الى بغداد .. حيث ضاق صدري في بلدي ولم أجد ما اتبلغ به .. قيل لي يومها ان في العراق اناسا لم تزل نخوتهم في صدورهم .. فاذهب راشدا ..
وسار بي الركب حتى حط في بغداد .. وسرت في شوارعها تائها لا ادري ماذا افعل .. وفي شارع السعدون قابلت ام سعد .. امرأة هدها الزمان بعد ان جاوزت السبعين ولكن عينيها تشعان بالذكاء .. كانت ام سعد تقف بين جمهور من الناس ويشوي لها صاحب المطعم على رصيفه بعضا من اسياخ التكة والكباب .. ونظرت الى ما بيدها وتحلب ريقي .. كنت جائعا وحزينا .. ولا اجد مكانا آوي اليه .. وقفت اللقمة في فمها عندما نظرت الي .. ثم جاءت ببعض اسياخ التكة وقالت : هذا لك .. لقد اخذت كفايتي .. وتمنعت .. ولكنها اصرت .. فاكلت ..
قالت : منذ متى وانت في بغداد ؟
قلت : لقد وصلت ظهر اليوم ..
قالت : أأنت فلسطيني يا وليدي ؟
قلت : نعم .. كيف عرفت ذلك ؟
قالت : ان كل حزن الدنيا في عينيك .. فلا حزن في هذا العالم اكبر من حزن الفلسطيني .. وكذا عرفتك .. وتابعت .. كيف حال اهل فلسطين يا وليدي .. قلت لها بخير .. قالت : والاقصى .. اما زال اليهود هناك ؟ قلت لها : في ظل عروبتنا لا بد وان يكونوا هناك .. قالت : لا تلم العرب يا وليدي .. ففاقد الشىء لا يعطيه ..
وسرنا سويا .. وعندما وصلنا الى موقف حافلات المشتل قالت : هلم معي .. فتمنعت .. فحلفت برأس سيدنا الحسين ان اصعد معها الى الحافلة .. وهكذا صعدت .
كان البيت يعج بالاطفال والنساء فاخذهن العجب .. غريب يأتي الى بيت فيه الصبايا ورجالهن جنود يحاربون في الجبهة .. ورأيت في عيون الجمع نظرات الغرابة والاستنكار فقالت ام سعد : لا تخفن .. انه فلسطيني .. وابتسمت النساء .. كانت فلسطينيتي جواز سفر لعفتي .. فدخلت البيت آمنا .
صرخت ام سعد : يا ام لؤي .. استكانة جاي للظيف .. ثم تابعت : باتأسفلك يا وليدي .. فانت لست بضيف .. انت صاحب البيت .. ووقفت الدمعة في عيني ولم تنزل .. قالت بعد ان نام الجميع : هذا سوار ذهبي يا وليدي وهذه اقراطي فخذها .. ( الحدايد) لا تنفع الا وقت الحاجة .. اذهب عند الصبح وبعها .. ثم فتش لك عن عمل ..
***
هكذا بدأت في بغداد .. وفي المشتل .. استضافتني ام سعد عشرة ايام بكاملها حتى وجدت عملا .. وفي غضون اشهر ثلاثة امتلآ جيبي بالنقود .. وكنت لا اقاطع ام سعد .. ازورها بين الحين والاخر لاعيد الحديدة والقرط .. ولكنها كانت ترفض بشدة .. وعندما غادرت بغداد بعد ثلاث سنوات طويلة .. كانت ام سعد تقف عند حافلات عمان ومعها نساء البيت واطفاله يودعونني والدموع تسح من مآقيهم كالمطر .
***
في كل شهر كنت احادث ام سعد فاطمئن عليها .. ثم ضاقت بي الاحوال ثانية فرحلت الى امريكا .. ثم وقعت الحرب .. فتهنا سويا .. لم تعرف لي عنوانا ولم استطع ان اهاتفها .. فهواتف بغداد كانت على اسوأ حال .. وكتبت لها مرارا ولكني لم احظ بالجواب ..
واخيرا جئت الى عمان .. وقبل ان اذهب الى بيتي ذهبت الى مبنى البريد وهاتفت ام سعد فانفجرت باكية : قلت لها يا ام سعد .. كيف الاهل عندكم .. قالت : أي اهل يا وليدي ؟ انني وحيدة .. قلت : والعيال ؟ قالت : العيال والنساء يا وليدي في ذمة الله .. في اليوم الثاني للحرب رحلنا الى اقاربنا في الشورجه .. وهناك ضاع الجميع في ملجأ العامريه .. وبقيت انا .. تصور .. ضاعوا كلهم في غارة مجنونة على الملجأ ولم يبق سوى ام سعد .. اليست هذه مأساة .
وانفجرت باكيا .. قالت : لا تبك يا وليدي .. لقد فقدت سعدا في اليوم الاول من الحرب .. فقلت ان لي ابنا آخر سوف يهتدي الى في يوم ما .. وها انت قد اهتديت الي ثانية .. فانت سعد .. وفقدتهم جميعا في ملجأ العامرية فلي الله .
وبدلا من ان اواسيها اخذت تخفف عني : قل لهم يا وليدي في امريكا ان ام سعد لم تزل فارعة الطول مثل النخلة .. تأكل من لحمها ولا تركع .. قل لهم ان الحرة يا وليدي تأكل من ثديها ولا تؤجر لحمها للغزاة .. قل للرجال الذين تحولوا الى نساء في زمن الاعراب ان ام سعد ليست اميرة .. انها انسانة بسيطة مكونة من لحم ودم .. تفرش ثدياها على قارعة الطريق لكي يلهو بهما الاطقال العراقيون عوضا عن الطعام .. قل لهم .. ثم انقطعت المكالمة .
***
يا نخلة العراق .. امي التي لم تنجبني .. اشتاق اليك كما يشتاق الغريق الى قطعة خشب طافية على سطح الماء .. واحن اليك كما يحن الصغار الى ضوء المصباح الذي يقرأون على نوره تاريخ بلادهم .
***
ام سعد كانت تعمل نهارا بائعة للسجائر .. تفترش الارض على كيس من الخيش وتعرض بضاعتها للبيع .. تفتح علبة الدخان العراقية لتبيعها ( بالفرط ) أي سيجارة اثر سيجارة .. ولكن فراستها تدلها دوما على الزبائن الذين لا يحملون النقود ويشتاقون الى مص سيجارة يلفظون مع دخانها تاريخهم بكل ما يحويه من ماض وحاضر .. تناديهم ام سعد .. وتتقاسم واياهم السيجارة .. ثم تنهاهم عن التدخين لانه ضار بالصحة .. فاذا ما قلت لها ولكنك تدخنين يا ام سعد قالت : انا يا وليدي ودعت .. هم تلقاني باجر لو ما تلقاني .
***
هاتفت ام سعد بعد شهر من انقطاع مكالمتها .. ذلك انني حاولت بكل ما اتويت من صبر ان استعيد صوتها الذي ذهب عندما اخبرتني عن الاطفال والنساء الذين استشهدوا في ملجأ العامريه .. ولكن الهواتف كانت معطلة .. وبذا ذهب صوت ام سعد الى البعيد البعيد .. ولم استطع ان استعيده حتى ولو لكلمات قليلة .
قالت ام سعد عندما جاء صوتها بعيدا كأنه ينبع من بئر رومانية عتيقة .. أهذا انت يا وليدي ( ثم اردفت باللهجة العراقية المحببة ) لو بيني وبيك بحر قطعته .. لو كانت سهول العمر بعيده بعد السحاب كنت نطيت مثل العصافير وعظيت خدودك لانها خدود سعد .. آه يا وليدي .. العمر قصير .. يمكن تراني لو ما تراني .. يوم ( هي لفظة عراقية تعني .. يا اماه ) اريد اتشكر لك على المبلغ ال تدزه لام سعد .. آني ما احتاجه .. ال يحتاجونه الجيران والجهال ( تعني الاطفال) الخمسين دولار يا وليدي يطعمن ثلث عوايل مع جهالهم شهر كامل .. كل مطلع شمس توصل لك دواعي العوايل والجهال تمرق مثل السهم وتوصل لامريكا .. يوم .. ربي يبارك لك .
قلت لها يا ام سعد .. لا اريد ان تضيع المكالمة فيما تقولين .. اخبريني .. هل ما زالت بغداد هي بغداد .. والناس هم نفس الناس ام تغير كل شىء ..
قالت : يا وليدي : عمرك شفت عود الريحان يفقد شذاه الطيب .. عمرك شفت استكانة جاي صافيه اتعكرت .. يا وليدي .. بغداد لم تزل بغداد .. والناس لم يزالوا هم الناس .. كل الذي تغير اننا اخذنا نركض خلف الرغيف بعد ان كنا نجده بسهوله .. لكن الحمد لله .. الخير واجد وال يتعب يحصل ..
وانقطعت المكالمة ثانية .. وفي طريقي الى البيت تذكرت ام سعد وطابور الجهال والنساء الذي تقوده من البيت العتيق قبل ان يدفن الاحياء في ملجأ العامريه ..
وجاءني صوتها عبر سراديب الهواء لكي يطرق مسامعي بقوة : يا ام لؤي .. هاذي ام لؤي زهرة عمري .. زوجة سعد ال يحارب في الجبهه .. استكانة جاي لابو خالد .. وصبيله تمن ومرق .. وعدنا باجه من باجر جيبيله تا ياكل خوف ما يقول العراقيين ما عشوني .. وتضحك ام سعد عن اسنان مهترئة وتقول : ام سعد تحب تحجي هيج .. ثم تصرخ بملء فمها ثانية .. وين القيمر يا ام لؤي .. فاقول لها القيمر يؤكل في الصباح .. فترد قائلة .. القيمر للقيمر يا ابو خالد .
أعود للذكرى ثانية .. هل ذهب كل هؤلاء في ملجأ العامرية دون ان اودعهم .. وقبل ان تبزغ الشمس من جديد .. اذكر الجهال وصخبهم .. وام لؤي وهي تعد استكانة الشاي .. والصبايا الرائحات الغاديات وكل منهن تقدم لي شيئا من صنع يدها لتقول لي .. ذوجه يا ابو خالد .. واحكم ..