مـحـمـود الــسـعـدنـي.. الـسـاخـر الـحـزيـن – بقلم : د. احمد الخميسي

فضاءات عربية ….

مـحـمـود الــسـعـدنـي.. الـسـاخـر الـحـزيـن – بقلم : د. احمد الخميسي
كانوا يتحدثون عن محمود السعدني دائما بصفته ذلك الكاتب، الانسان الساخر، الذي لا يكف عن اطلاق التعليقات الحادة وأعنف ألفاظ السباب من غير أن تخونه ولو للحظة الكلمة المضحكة، حتى أن عادل إمام قال له ذات مرة في نادي الصحفيين النهري: ” يا عم محمود لو أنا منك لعملت جلساتك هذه بتذاكر.. أنت مسرح كامل”. وفي شخصه النحيف، الذي كان يبدو ضعيفا هزيلا، وفي صوته شبه الخافت، كنت ترى إحدى أجمل وأعظم سمات الشعب المصري: موهبة السخرية اللاذعة من كل شيء، الصبر الذي يداوي الألم، والقدرة على تحويل الجرح إلى ضحكة أولا بأول حتى والجرح مازال ينزف على فمه. وكان حضوره إلى منزلنا مفرحا إذا كان على موعد مع والدي وجاء مبكرا، لأنه لم يكن ينطق أمامنا بشيء من العبارات التي يرددها المثقفون. كانت حواري وأزقة طفولته والفقر وأوجاع الناس تسكنه فلم يكن يجهر بكلمة من معجم النخبة، كأنه يلوم نفسه لأنه أصبح مثقفا وكاتبا شهيرا وترك الناس هناك في القاع. أتذكر”عم محمود” في عيد ميلاده الرابع والتسعين الذي حل في العشرين من نوفمبر الحالي، وأستعيد لقائي الأول به في منزلنا ضيفا على والدي هو والأستاذ محمد عودة، وكان الاثنان من أقرب أصدقاء الوالد. أدهشني” عم محمود” ، لأنه كان يطلق تعليقاته المضحكة من دون توقف، بينما يسكن عينيه حزن ساخر غريب مع ابتسامة هازئة ثابتة على شفتيه. كان السعدني أحد أكبر رواد الصحافة الساخرة، واصل الدور الذي بدأه عبد القادر المازني لكن بروح شعبية مشبعة بأنفاس أولاد البلد والأزقة، لا أولاد البيوت والذوات. اعتقل عام 1964 لمجرد أنه كان يتحرك في وسط اليساريين الديمقراطيين ويصادقهم، لكن لم تربطه بهم أي علاقة تنظيمية، وكان من الشائع حينذاك تسمية التنظيمات بحروف مختصرة، فاخترع السعدني لنفسه داخل المعتقل تنظيما أسماه : ” زمش” وكان إذا سأله البعض عن معنى الاسم المختصر يقول : ” زمش يعني: زي ما أنت شايف” ! خرج من المعتقل وعمل بجريدة الجمهورية ثم فصل منها مع بيرم التونسي والخميسي وألفريد فرج وغيرهم، وعمل في روز اليوسف وغيرها، وكان مقربا من كبار رجال الدولة، ولما قام السادات بما اسماه ثورة التصحيح في 15 مايو 1971 اعتقل كل الوزراء الناصريين ومعهم عم محمود السعدني الذي قال للقاضي في المحكمة:” اعتقلتوني من قبل عام 64 لأني كنت ضد الحكومة، وحين خرجت قررت أن أكون مع الحكومة، وإذا بكم تعتقلون الحكومة نفسها؟!! أعمل إيه أنا؟”!! بعد خروجه من حبسة السادات هاجر السعدني وتنقل مغتربا ما بين أبوظبي والكويت وبغداد وليبيا ثم استقر في لندن وأصدر من هناك مجلة ” 23 يوليو” مع الكاتب الصحفي فهمي حسين، ثم عاد إلى مصر بعد اغتيال السادات في 6 اكتوبر 1981 ليواصل دوره الذي لم يتوقف، منذ أن نشر ولى مجموعاته القصصية ” سماء سوداء” وأعاد نشرها عام 1967، علاوة على أربع مسرحيات أشهرها ” عزبة بنايوتي” التي قدمتها فرقة ” الخميسي” عام 1961، و سيرته الذاتية الممتعة ” الولد الشقي”. كان ” عم محمود ” أول من نشر لي قصة في مايو 1966 وأنا في السابعة عشرة ، وقام بتقديمي إلى قراء مجلة صباح الخير قائلا:” هذا كاتب جديد يثبت نظرية ابن الوز عوام.. فأبوه كاتب صايع شهير جذف في بحار الفن نصف قرن أو يزيد وهو عبد الرحمن الخميسي.. وهذا الكاتب الصغير سنا عنده فكرة وله أسلوب ودودة كتب” إلى آخر كلمته الجميلة. وحين سافرت للدراسة إلى الاتحاد السوفيتي ورجعت إلى مصر بقيت بلا عمل ولا مصدر دخل، وكان كل من ألتقيه يسألني باهتمام:” كيف انهار الاتحاد السوفيتي؟وما أخبار الاشتراكية ؟”. لكني حين قابلت عم محمود نظر إلي لحظات ولم يسألني عن الاشتراكية! سألني وهو يضم أصابعه الخمسة ويشير بها إلى فمه: ” أنت بتأكل منين ياوله؟. عايش ازاي؟”. لقد رأى الانسان أولا قبل كل شيء.
كل سنة وأنت باق في القلوب أيها الساخر الحزين العزيز المبدع الكبير.
***