فن وثقافة …..
حاوره : نبيل عودة وسيمون عيلوطي – الناصرة …
* اهتماماتي وكتاباتي هي أنا، هي انعكاس لذاتي وفكري ومشاعري* “ضمنت كتابي “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة” أفكارا وهواجس لغويّة رافقتني أكثر من عشرين سنة* محمود درويش في رأيي أبرز شعراء العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين* الترجمة من الإنجليزية إلى العبريّة أسهل، لأنّ العبريّة الحديثة تطوّرت أكثر من تطوّر لغتنا* أنا من هذا العالم، تشغلني مشاكله وفواجعه في هذه الأيّام بالذات*
******
بروفسور سليمان جبران هو ناقد وباحث ادبي معروف ، كان استاذا للادب العربي الحديث في جامعة تل أبيب ورئيسا لقسم اللغة العربية وأدابها في الجامعة بين ( 1998 – 2002 ) ومن مؤسسي مجمع اللغة العربية. صدر له عديد من كتب الابحاث والدراسات الادبية النقدية من ابرزها كتابه عن احمد فارس الشدياق: “الفارياق : مبناه واسلوبه وسخريته ” ( صدرت طبعته الثانية عن دار قضايا فكرية – القاهرة – 1993 ) وكتابه عن محمد مهدي الجواهري: ” صل الفلا : دراسة في سيرة الجواهري وشعره ” ( صدرت طبعته الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت وعمان – 2003 ) وكتاب “نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب” (منشورات الكرمل – جامعة حيفا، ودار الهدى – كفر قرع) “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة” ( مجمع الللغة العربية – حيفا) الى جانب مؤلفات ، ابحاث ودراسات مختلفة عن اللغة العربية وعن الاعمال الادبية لأدباء عرب.
* كيف تفسّر تعّدد اهتماماتك بين الأدب، الأبحاث والسياسة؟
– اهتماماتي وكتاباتي هي أنا، هي انعكاس لذاتي وفكري ومشاعري. لم أفكّر يوما، في أوّل الطريق، في أن أكون محاضرا في الجامعة. قصارى مطامحي كانت ، كما ذكرت في موضع آخر ذات يوم، أن أعمل معلّم لغة عربيّة في مدرسة ثانويّة. العمل في الجامعة، والدراسات الأكّاديميّة كلّها، لم تكن لي على بال. أتتني الرياح بخير ممّا اشتهت سفني. إلا أنّ الحياة الجامعيّة، مع ذلك، لم تقصني تماما عن طموحاتي واهتماماتي قبلها. لا عن الحياة، بكلّ أطيافها، من حولي، ولا عن الكتابة الإبداعيّة أيضا. صحيح، يمكن القول تعميما إنّ كتاباتي، خلال سنوات عملي في الجامعة، كانت جلّها في نطاق البحث العلمي الصارم. مع ذلك، لا ننسَ أنّي في الفترة ذاتها كتبت أيضا مجموعة شعريّة للأطفال، وصفتها يومها بأنّها نزوة!
بعد خروجي من العمل في الجامعة، انتابني فجأة شعور سجين يخرج إلى الحياة، إلى الهواء الطلق. يمارس حرّيته كاملة، فيحقّق أمنية قديمة لم تفارقه يوما. بعد الجامعة، أصدرت كتاب لغة بعنوان “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة المعاصرة”. ليست اللغة، طبعا، مجال بحثي وتخصّصي. مع ذلك، ضمّنت الكتاب المذكور أفكارا وهواجس لغويّة رافقتني أكثر من عشرين سنة من عملي في التعليم، بكلّ مراحله. وكتابا آخر، باسم “أوراق ملوّنة”، ضمّ مقالات سياسيّة، في نقد الحياة من حولنا، هنا وفي العالم العربي، وأخرى أدبيّة واجتماعيّة منوّعة. في كتابي الأخير هذا وجدت متنفّسا لذاتي، أكثر منه في أيّ كتاب سابق. تجدني فيه بكلّ أفكاري ومشاعري. فلا غرو إذا كان أعزّ كتبي عليّ. بعض أصدقائي لاموني، كما ذكرت في مقدّمته، على كتابة المقالة السياسيّة، ولعلّ لومهم يومذاك كان السبب في انصرافي مؤخّرا عن إصدار كتاب آخر، ابن عمّ الأوراق، بعد أن كان معظمه قاب شهرين أو أدنى من المطبعة! مع ذلك، يظلّ هذا الكتاب، أوراق ملوّنة، أقرب إلى نفسي من كلّ كتبي. المقالات السياسيّة فيه، وهي من ذاتي وعزيزة عليّ جدا، يجب ألا تغطّي طبعا على المقالات الأخرى، وهي كثيرة هامّة. القارئ هو الحكم أوّلا وآخرا.
*كتابك عن تاريخ الشعر الفلسطيني أثار اهتماما واسعا، هل لك أن تعطينا لمحة عن رؤيتك لتأثير تلك المرحلة على شعرنا الفلسطيني؟
– تأليف الكتاب المذكور كان عرضا، طريقا جانبيّا أوغلنا فيه حتّى انقلب طريقا مستقلا، قائما بذاته. كتبنا ذلك في المقدّمة هناك أيضا:” كانت النيّة، أوّل الأمر، القيام بدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 – 1967[…]. كان رأينا دائما أن الشعر [ العربي في إسرائيل] لم ينشأ من فراغ، وإنّما هو امتداد طبيعي، بشكل أو بآخر، للشعر الفلسطيني في عهد الانتداب..”. عدنا إلى دراسة الشعر الفلسطيني الانتدابي، فلم نجد ما كتبوا فيه، وهو كثير، يوفيه حقّه. لم تعرض الكتابات التي وجدناها لخواصّ هذا الشعر الأسلوبيّة، وتاريخ ظهوره الدقيق. تذكر معظم الكتب التي وجدناها، مثلا، أنّ بدايات هذا الشعر كانت في أواسط القرن التاسع عشر. إلا أنّ كلّ ما كتبوه من شعر، حتّى بداية القرن العشرين، كان شعرا دينيّا تقليديّا، لا يحمل من الشعر الفلسطيني الحديث أيّ سمة مضمونيّة أو أسلوبيّة. ثمّ إنّنا أعدنا للشاعر الوطني وديع البستاني حقّه، بعد أن ظلمه مؤرّخو الشعر الفلسطيني كلّهم، لأنّه لبناني ربّما. لم يشفع للبستاني مشاركته في القضيّة الفلسطينية، شعرا، في ديوان كبير له باسم “الفلسطينيات” ، ولا نضاله في المحاكم الانتدابيّة دفاعا عن فلسطين وأحرارها. أنصفنا الرجل، بل اعتبرناه بحقّ “رائد الشعر الفلسطيني” ، وإن يكن لبنانيّ المولد. ألم يقل الرجل نفسه في فلسطينيّاته:
ومن ورائي فلسطين أعيش لها / حتّى أموت، وفي عينيّ لبنانُ
أبرزنا في الكتاب أيضا ملامح ثلاثة واضحة، ميّزت الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب: الانخراط الحميم في الحياة السياسيّة والنضال الشعبي، المناحي اليساريّة البارزة، فكرا وصياغة، الاستقاء على نحو مكثّف من اللغة المحكيّة والمأثور الشعبي. ولعلّ بين السمات الثلاث المذكورة علائق إيديولوجيّة وأسلوبيّة وثيقة.
*لك دراسات هامّة، نشرت في العالم العربي أيضا، حول محمّد مهدي الجواهري وأحمد فارس الشدياق. ما هو سبب اهتمامك بهما؟
– كتابي عن الشدياق، “كتاب الفارياق، مبناه وأسلوبه وسخريته”، هو في الأصل رسالة الماجستير في الأدب العربي الحديث. قبل الكتاب المذكور، تعرّفت على الشدياق من طيّب الذكر، الكاتب اللبناني الرائع، مارون عبّود. في إعداد الكتاب المذكور، قرأت كلّ ما وصلت إليه يداي، ووقفت مشدوها أمام “جبّار القرن التاسع عشر”، بتعبير عبّود. كتاب الساق على الساق كتاب فريد سبق عصره بأشواط. هو في رأيي أوّل سيرة ذاتيّة في الأدب العربي الحديث. وإن كان أوتوبيوجرافيا “شدياقيّة”، فصّلها الرجل على مقاسه، فجعله كتابا يضمّ بين دفّتيه كلّ فنون العربيّة، من سيرة ذاتيّة، ولغة، وأدب، وأخبار، ووصف رحلة. بالإضافة إلى كتابنا المذكور في التعريف بهذه القمّة الشامخة، كان لنا أكثر من مقال تناولنا فيها مواقفه واجتهاداته وجهوده اللغويّة. على كلّ حال، ما زالت مؤلّفات الرجل المتنوّعة حقلا مترامي الأطراف أمام الدارسين والمحقّقين أيضا. كان بروفسور ساسون سوميخ، المشرف على الدراسة، يحذّرني دائما من الانجراف في حبّ الرجل، فأبتعد بذلك عن الموضوعيّة العلميّة. ولعلّ المجال هنا هو الفرصة المناسبة للاعتراف، أمام سوميخ والقرّاء جميعهم، بأني لم أستطع الوقاية من هذا “المرض”، رغم التحذير المتكرّر، والحيطة المطلوبة!
كتابي عن الجواهري جاء متأخّرا نسبيّا. بذلت فيه جهودا كبرى وساعات تأمّل طويلة خلال شهور من العزلة التامّة عن العالم في أكسفورد. حاولت الإجابة، في الكتاب، عن سؤال بالغ الأهميّة في تاريخ الشعر الحديث: كيف تمكّن الجواهري، بخلفيّته الكلاسيكيّة الطاغية، التعبير عن حساسيات القرن العشرين، بكلّ تعقيداتها وتركيبها؟ وأظننّي أجبت عن السؤال المذكور إجابة وافيه في الكتاب. الكتاب المذكور عن الجواهري أقرب ما يكون إلى رسالة دكتوراة، بمبناه ونهجه ونتائجه!
* دراستك عن الوزن الشعري عند محمود درويش، أثارت اهتماما كبيرا، خاصة حين عرضت للعلاقة الملتبسة بين درويش وقصيدة النثر. وهي موضوعة لم يطرقها ناقد قبلك. ما هو التجديد في شعر درويش الخارج عن شعره الموزون؟
– صلتي بدرويش هي الأخرى صلة ملتبسة مركّبة. عرفته منذ أيّام الثانويّة في كفرياسيف. وعن كثب في سنوات ثلاث أخرى قضيناها في حيفا أواسط الستينات. أعجبت بشعره منذ طلع به علينا في تلك الفترة. لكنّي كنت أعدّه، من يومها، صديقي. وهذا ما حال دون تناول شعره بالنقد قبل وفاته. “سنّة” أخذت بها نفسي منذ عهد بعيد؛ لا أتناول نتاج الأصدقاء بالنقد خشية اعتباره مجاملات وإخوانيّات بين صديقين. لكنّي أنصفت الرجل أخيرا، بعد غيابه عنّا (!)، و”على النار” كتاب عن درويش وشعره، يضمّ ما نشرته حتّى اليوم، بعد وفاته، ومادّة أخرى جديدة. محمود في رأيي أبرز شعراء العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأرجو لكتابي المذكور أن يوضّح ذلك بالأسلوب العلمي الموضوعي أيضا!
*كيف تفسّر أنّ الجامعات في إسرائيل تعلّم اللغة العربيّة باللغة العبريّة، متى ننتهي من هذه المهزلة؟
– طالما سمعنا هذه الدعوى كأنها سبب ضعف العربيّة بين الجيل الجديد دون سواها. ليست دعوى دقيقة أوّلا. المحاضر حرّ في استخدام اللغة التي يريد في دروسه. لكن قل لي بربّك: المستشرقون الكبار تعلّموا العربيّة بالطريقة ذاتها، وأنا أيضا. هل من ينكر فضل كثيرين من الأساتذة الأجانب على اللغة العربيّة، وعلى التاريخ العربي الإسلامي أيضا؟ ضعف العربيّة أسبابه كثيرة، كثيرة جدّا، ولا أظنّ طريقة تدريس العربيّة في الجامعة من أسبابها الأساسيّة. لكن من لا يجيد الرقص يزعم أنّ الأرضيّة عوجاء، كما علّمنا السلف.
* نلاحظ أنّ الترجمة من الإنجليزيّة إلى العبريّة أسهل منها إلى العربيّة، رغم أنّ العبريّة نشأت في أحضان العربيّة، في القرون الوسطى. أين المشكلة هنا؟
– الترجمة من الإنجليزية إلى العبريّة أسهل، لأنّ العبريّة الحديثة تطوّرت أكثر من تطوّر لغتنا . مؤسف فعلا، لكن هذا ها الواقع. عرضت لهذه المسألة بتوسّع في كتابي على هامش التجديد والتقييد، بل نُشر ذلك على شكل مقال مستقلّ حديثا، فلا حاجة إلى التكرار. بكلمة موجزة: مجتمع متطوّر يفرز لغة متطوّرة. هل نواحي حياتنا كلّها متطوّرة فنلوم اللغة وحدها؟!
* ماذا تشغلك هذه الأيّام… وهل من مشاريع مستقبليّة؟
– أنا من هذا العالم، تشغلني مشاكله، وفواجعه في هذه الأيّام بالذات. أمّا إذا كان السؤال بصدد التأليف بالذات، فأرجو إنجاز الكتاب الذي ذكرته عن درويش قريبا، وكتاب آخر عن الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 – 1967. الكتاب الثاني كتبت مقدّماته منذ زمن بعيد، بل نشرتها على حدة أيضا، وما زالت أصوله في جواريري تنتظر. أرجو أن يسعفني العمر والصحّة في إنجاز كلا الكتابين!