فن وثقافة ……
بقلم د. كنان حسين – سوريا
لدى الوقوف عند الأدب الفلسطيني عموماً، يجد القارئ أنّ أجناس الإبداع الفلسطيني جميعها تتمحور حول ثنائية (الحبيبة/ الأرض)، وتماهي طرفي هذه الثنائية؛ فالحبيبة هي أرض الوطن، وأرض الوطن هي الحبيبة.
بالرجوع إلى أسطورة الخلق البابلية، نجد الأرض هي الأم المغذّية، يخصبها الإله الذي أراد الخير للبشر. وحين تسكب السماء ماء الإخصاب في حضن الأرض المتعطشة له، فإنها تحقق بذلك اتحاد العلوي (الروحي) مع الأرضي (المادي)، وهذا الاتحاد هو أساس الحياة. وتُبرز أناشيد الإخصاب، مظاهر الحب العميق الذي يجمع بين الأرض والسماء ( ). فالأرض إذاً، منذ البدء، هي الأنثى المخصبة، وأبطال الكاتب الفلسطيني “رشاد أبو شاور”() يعشقون أرضهم، بل يتحدون بها كما لو أنهم جزء منها. فهي الأم التي أنجبتهم، والحبيبة التي ترخص الروح من أجلها، تكاد لا تفرقهم عن صخورها مهما اشتدت قسوة الحرب، وإذا ما اقتلعوا منها وألقي بهم في المنافي فإنهم لا يفقدون انتماءهم إليها في حال من الأحوال. من هذا المنطلق، سنناقش قضية الانتماء من زاويتي تبئير مختلفتين، تتصدى الأولى لرصد شعور الانتماء عند أبطال “أبو شاور” من داخل فلسطين، والثانية لرصد هذا الشعور من خارج فلسطين.
-الرؤية من الداخل:
في رواية “أيام الحب والموت” نلحظ توحد الزوجة الحبيبة مع الأرض في قلب سلمان أبي عبد الله في حديثه لابنه عبد الله: “والله لولا يقولوا الناس مجنون لأنام في الكرم أيام الشتاء، وأتمرغ على التراب وهو بيشرب نعمة السماء… أيام زمان كنت أنام أنا وأمك في الكرم، أيام الربيع والصيف، الله يرحمها، والله إني بشم ريحتها بالأرض” (ص9). هنا تتجلى قدسية الأرض في عيون الفلاح الفلسطيني، إنها الأنثى الحبيبة الخصيبة. وتعلقه بالأرض لا يعزى إلى الذكريات التي خلعها عليها فحسب، بل إن لها حضوراً عذباً مستمداً من هويتها ومكوناتها، فرائحتها متغلغلة في أنفه وذاكرته، تتعالق مع رائحة زوجته فيها. كما أنه استودع روحه فيها، فليس غريباً أن يفترش حبات تراب أرضه ويتخذ أوراق شجرها سقفاً له؛ إذ إنه “يرفض أن ينام إلا في الكرم، تحت أشجار التين والزيتون التي زرعها بيديه في الأرض” (ص9). إنها حالة من التوحد مع الطبيعة تكرّست بعد وفاة الزوجة أكثر من أي وقت مضى؛ لتحل الأرض بديلاً من الزوجة، ومعادلاً لها. فنرى هذا الرجل يبادل أرضه العطاء، يضع البذار فيها فتنجب، ينعم بنضارة لا تشيخ ولا تحتضر. وفي النوم في أحضانها ما لا توفره أحجار البيت الباردة من الحميمية والدفء النفسي. فمنذ ماتت الزوجة، والرجل “ينفرد بنفسه في الكرم، ولا يبرحه إلا نادراً، وكأنما صارت الأرض زوجته، يستأنس بها، يسرّ لها بهمومه وأشواقه” (ص79). وبذلك يظهر عشق الأرض في أعلى مستوياته، تكرّسه ثلاثية (الرجل، المرأة، الأرض)، التي تتفاعل أطرافها وتنصهر في مكوّن واحدٍ يشعّ عطاءً. فالبطل سلمان يتشبث بالبقاء فوق أرضه كأنه شجرة، ويلبس الأرض لبوس امرأة برائحتها الأخاذة وفيض حنانها، وحضورها الآسر في الذاكرة. وعندما اشتدّ حصار المستوطنين الصهاينة للقرية، لم يشأ سلمان أن يغادر أرضه بعد تقدمه في العمر، وأن يفرط بمتعة الموت فوق أرضه. يحدّث سلمان حفيده الصغير محموداً، بعد أن تقرّر إرسال النساء والأطفال إلى قرية أخرى اتقاء لوحشية المستوطنين، قائلاً: “هالأرض اللّي مثل الحنون… يوم ما ترجع إلها اتذكرني… شمّ ريحة التراب خلّيها ما تروح من بالك”(ص78). وهنا نقف عند الرسالة الوطنية التي يؤديها سلمان في زرع بذور الانتماء والتمسك بالأرض، تارة في نفس ابنه عبد الله، وأخرى لدى حفيده محمود. الأمر الذي سيسجل الأثر الأكبر باستشهاد عبد الله في سبيل هذه الأرض.
في الرواية ذاتها، نتعرف على “حلوة”، المرأة الفلسطينية الفلاحة التي سئمت من نظرات “هاجم” الإقطاعي وتماديه، وعافت سكوت أهل القرية عن أرضهم المغتصبة، فرفعت ثوبها وهبت بوجه الرجال صارخة: “باطل يا رجال.. أرضكو راحت، عرضكو راح” (ص22). نلحظ في خطاب حلوة السابق تساوي العرض والأرض، فعرض حلوة المباح هو رمز للأرض التي استبيحت. وعلى الرغم من تجذر ثنائية (العرض / الأرض) في التاريخ العربي، إلا أن حلوة قد قامت بتوظيفها بعد أن أعادت ترتيب طرفيها بما يخدم القضية. فصرختها إدانة للرجال للسكوت عن استباحة أرضهم أولاً، ونسائهم ثانياً. وهذا ما أشارت إليه في تقديمها لاستباحة الأرض، في تلك الصرخة؛ لأنّ شرف المرأة يحتل المقام الأول في المجتمع الشرقي. لقد استطاعت حلوة استنهاض همم الرجال النائمة من خلال الربط بين القيمتين، بعد أن لمست من الرجال تراخياً في الدفاع عن أرضهم. ففي ذلك اليوم انقضّ محمد أبو عمران صارخاً كالرعد: أنا أخوكي يا حلوة.. وغرس خنجره في صدر هاجم” (ص22) إلا أنه لقي مصرعه على أيدي رجال هاجم.
ومن الجدير بالذكر أن اختيار حلوة لزوجها ارتبط من إحدى النواحي بقيمة الأرض في حياتها، فعندما تقدم سلمان عارضاً عليها الزواج أمام أهل القرية، “أجالت حلوة نظراتها في الرجال الواقفين حولها، وظلت ساكتة برهة من الوقت، ثم قالت: أقبلك يا سلمان أنت صاحب أخوي، ورجل بتحب الأرض والناس، وشهم…” (ص25). فحب سلمان للأرض كان من أهم معايير قبوله لدى حلوة، حتى إنّ المعايير الأخرى تدور في فلك ذلك الحب، فمحبة الناس لا تنفصل عن محبة الأرض؛ لأن من يحبّ الأرض يحبّ قيم الخير والعطاء، وهذا من شأنه أن ينعكس على نحو إيجابي سليم، على علاقته بالناس، والأرض- كما أسلفنا- هي العرض، والشهامة تقضي صون العرض؛ لذا، فإن مجمل ما تم عرضه يشير إلى حالة انتماء عميق إلى أرض الوطن، لدى كل من حلوة وسلمان.
وبالانتقال إلى رواية “العشاق”، نكون قد بقينا في إطار الأرض الفلسطينية، لكن مع جيل جديد من أجيال القهر. فمحمود وحسن ينتميان إلى الجيل الفلسطيني الثاني الذي غادر أرضه شاباً، للعيش في المخيمات، إلا أنه بقي مشدوداً إلى أرضه، كما لو أنها نواة يدور هذا الجيل في أقرب مدارٍ إليها، مدفوعاً بطاقة تكاد لا تفنى لمقاومة الاحتلال الذي اقتلعه منها؛ إذ لم تستطع أسوار السجن أن تحدّ من عزيمة محمود الذي خرج أكثر تصميماً من ذي قبل، على العودة إلى أرضه بأي ثمن؛ لأن الحرية بالنسبة إليه تكمن في العودة إلى هذه الأرض وليس في البقاء خارج أسوار السجن. والتاريخ حليفه في العودة إلى أريحا التي لفظت أرضها الغزاة كلهم. هكذا كان “محمود” يشحذ نفسه مردداً العبارات الآتية: “أنت مجنونة يا أريحا، رائعة الجنون، … منكِ يدخل كلّ آتٍ، أو غازٍ لفلسطين، ومنكِ يخرج أيضاً” (ص44). وهنا، نعود لتأكيد علاقة الفلسطيني بأرض وطنه التي تخرج من إطار علاقة الذات بالموضوع، إلى علاقة الذات بذات أخرى. وإلا فما هذه الأوصاف التي يخلعونها على الأرض لو لم تكن في عيونهم هي الأنثى المكتملة؟ إنها القدرة على التكاثر والإنجاب، إنها الأنثى المجنونة بما يكفي أن تذهب بعقل عشاقها. هكذا هي العلاقة بين “محمود” و”ندى”، تفوح رائحة أريحا من ثناياها؛ إذ إن طرفيها ينظران إليها بعيون وطنية، ويواصلان تجسيد الحب. الأمر نفسه نجده في علاقة حسن بالأرض، عندما غازل أريحا بفصولها المتطرّفة دائماً: “صيفُكِ قاسٍ يا أريحا، لكنّه حلو، جهنّمي، وحادّ، وشرس، ولكنّي أحبّكِ” (ص246)؛ وبذلك بدت المدينة فتاة متقلبة المزاج، كلما أمعنت في تقلباتها ازداد التعلق بها.
في الرواية ذاتها تستوقفنا شخصية أبي خليل التي تعيد إلى أذهاننا، إلى حد كبير، أنموذج أبي عبد الله بطل رواية “أيام الحب والموت” في الوفاء للزوجة الحبيبة، والعيش على ذكراها، وما أفرزه ذلك من شدة تعلق بالشجر والأرض؛ أرض الذكريات الطيبة. فحين يُجبَر على الرحيل مع ابنته من مخيمه إلى مخيم آخر، بعد حرب حزيران 1967، يقول لابنته وهو يضع بحرص ملابس زوجته في حقيبة كبيرة: “لا أستطيع أن أترك مكاني، تحت تلك الزيتونة سأواصل حياتي هناك” (ص220). وهل من شيء أقرب ترميزاً إلى الزوجة الحبيبة من هذه الشجرة الطيبة المباركة المقدسة التي تنضح بالخصب والحياة، وتمنحه ظلاً وحناناً وعطاءً ونضارةً ما تبقى له من العمر؟ بيد أن الأب الذي تقدم به العمر ينزل عند إلحاح ابنته، متابعاً لملمة تركة الحبيبة المرحومة؛ إذ ينزل صورتها عن الجدار، ويدسها بين الملابس في الحقيبة، وبعد أن يغلقها، ينحني عليها “كأنمّا ينحني على جثة عزيز” (ص220). وهنا يلحظ توسط عبارة الأرض وشجرة الزيتون، بين دوال الوفاء الزوجي، المشحونة بلهيب الحب والشوق واللوعة. لقد رسم “أبو شاور” علاقة الفلسطيني بالأرض في الروايتين السابقتين: “أيام الحب والموت” و”العشاق” في إطار ثابت راسخ على مرّ السنين بتعاقب أيامها وفصولها.
الرؤية من الخارج:
في رواية “الرب لم يسترح في اليوم السابع” للكاتب “رشاد أبو شاور”، تتماهى الحدود بين العشق بمعناه الخاص، وعشق الوطن؛ إذ يمسك “رشيد” بيد “زينب”، ويمشي معها بهدوء، وينظر في الأفق البعيد، ويسألها: والآن في أي الجهات فلسطين… أين هي، فتبتسم له، وتضع يدها على الجهة اليسرى من صدرها وتقول: هنا، في هذه الجهة، فيسألها: وأنا؟ … تجيبه: في داخلها. (ص67-68)
لقد رُسمت حدود حب زينب لرشيد ضمن إطار حب الوطن، رسماً يجسد رؤية الروائي الفلسطيني “رشاد أبو شاور”، في مجمل رواياته، القائمة على التماهي بين الحب الشخصي، وحب الوطن. تمر علاقات الفلسطيني العاطفية كلها من خلال حبه للأرض، ولا يمكن بشكل من الأشكال أن يضل الفلسطيني طريقه إلى هذه النقطة. فحبه يصله بها من أي مكان في العالم، وإن كان في عرض البحر، حيث تذوب الاتجاهات كلها في الأفق المستدير. تقول زينب للعجوز أبي العبد، أحد المناضلين المرحّلين على ظهر السفينة “سولفرين”: “الوطن هنا يا عم… ودقت بيدها على صدرها… وهنا… ثم مررت أصابعها حول جسدها، كأنما تتبع الدورة الدموية، ورددت… وهنا… وهنا… فقال رشيد (معلقاً) آمين… هذه صلاة صباحية جميلة” (ص212). الصلاة فرض سماوي تصل المؤمن بربه، وفروض عشق الوطن اليومية التي تؤديها “زينب” تصلها بوطنها أينما كانت، فعندما تريد أن تصلي ستكون على يقين أن صلاتها باتجاه القبلة؛ لأن قبلة الفلسطيني “في داخله” (ص81)؛ فهي بوصلته الخاصة التي يهتدي بها. وأبطال “أبو شاور” يحملون معهم حب الوطن أينما حلّوا، فلا ترى عيونهم غير سمائه، ولا ترتسم أمامهم غير ملامحه، إيذاناً بالعودة إليه يوماً ما. كما يأخذهم الحنين الدائم إلى البيت بوصفه الحاضنة الصغرى الأكثر تأطيراً لوجود الإنسان، والأشد التصاقاً بطفولته. تستحضر زينب صورة الوطن بعدما ذكرها رشيد به: “يصعد من وراء جبال مؤاب، كأنما هو قمر أريحا وحدها، إنه فرح وليس مجرد ضوء… المزرعة لا أنساها، التين المبلل بالندى في الفجر، والعنب المعسل وعليه من تراب الأرض” (ص214). تستمد الوطنية عراها من طفولة الإنسان، ووجوده الفيزيائي. انطلاقاً من أصغر وحدة اجتماعية تحتضن الوجود المادي للإنسان، وهي البيت. ويتسع مدار الألفة كلما كبر الإنسان، وانفتح على محيطه شيئاً فشيئاً. الانتماء للحي، فالمدينة، وصولاً إلى استيعاب أشمل لروح الانتماء إلى الوطن. والإنسان عندما يفقد ارتباطه الحقيقي بوطنه يفقد انتماءه؛ أي يفقد هويته؛ لأنّ الارتباط الحقيقي هو الذي يتجاوز قيود المكان.
في الواقع، إن ترحال الفلسطيني بين أرجاء الوطن العربي، قد أسهم في إنضاج مفهوم الوطن الكبير ومحبته؛ إذ بات يشعر في كل مرة يفارق فيها أرضاً عربية إلى أرض أخرى، أنّه يفارق جزءاً من وطنه، لقد ودع رشيد بيروت، كما لو أنه يودع وطنه فلسطين، أو لنقل إن “بيروت” كانت بمنزلة الوطن الثاني بالنسبة إلى رشيد، وهذا ما ندركه من عبارات الوداع: “بخاطرك، اذكرينا يا مدينة البحر، والشعر والمتاريس، والغرباء … يا أم الهاربين من أوطانهم إلى مقاهيك وشوارعك وصحفك ومجلاتك… وداعاً يا شوارع بيروت، يا أهل بيروت، يا… ياسمين بيروت.” (ص 15-28). لكن، ما يثمن بيروت في عيون “رشيد” وغيره من الفلسطينيين “أنها كانت تجعلهم قريبين من فلسطين” (ص126)؛ إذ لا يمكن في حال من الأحوال، أن يسمو حب الوطن الكبير على الوطن الصغير فلسطين، فبالنسبة إلى الفلسطيني “الرحيل إلى كل البلاد متشابه، ما دمت غير عائد إلى فلسطين” (ص28). ومن البدهي أن نجد هذا الفرق عند الفلسطيني؛ لأن وجوده خارج فلسطين قسري، واستقراره المرحلي في الأقطار العربية الشقيقة، لم يستطع أن يصرف نظره بأي شكل من الأشكال عن حلم العودة، فكلما أبعدهم تيار التهجير ازدادوا إصراراً على العودة، مما يحيل على ثبات علاقة الفلسطيني بالأرض والوطن.
– أنموذج البطل المنتمي:
في رواية “لمن تقرع الأجراس”Hemingway, Ernest: For Whom The Bell Tolls: Vintage, UK, 1999″ ” يعمد الكاتب الأمريكي “إرنست همنغواي” بشكل مستمر عبر لغة السارد، إلى الربط بين ماريا والأرض، فتارة يشبه شعرها “بحقل من الذرة السمراء الذهبية” (ص23)، وتارةً يشبه نهديها بـ “رابيتين صغيرتين” (ص364). في ضوء هذا، فإن قرب روبرت جوردان من ماريا يعكس قربه من وطنه المختار إسبانيا. ففي الجملة الأولى من الرواية نجد روبرت جوردان وقد “انبطح على أرض الغابة السمراء المكسوة بأوراق الصنوبر الإبرية” (ص1)، ثم نراه وسط النبات الأخضر في الغابة مرات عدة في الرواية. وفي الليلة الثانية، يتخذ روبرت جوردان من أغصان شجرة صنوبرية، سريراً له ولـماريا، عناقه لـماريا وقربه من الأرض يظهر بشكل ملموس عشقه لـماريا ولأرض إسبانيا في آن معاً. وفي المشهد الأخير من الرواية، يتخذ جوردان الوضعية ذاتها للمرة الأخيرة، عندما يستلقي خلف شجرة، في مكان التقت فيه أشجار غابة الصنوبر بمنحدر المرج الأخضر. وقد “استطاع أن يشعر بقلبه يخفق على أرض الغابة السمراء المكسوة بأوراق الصنوبر الإبرية” (ص504). وبمقارنة وضعيته في السطر الأخير من الرواية، بالوضعية المماثلة تقريباً في السطر الأول من الرواية، ننتبه إلى العنصر الجديد في المشهد وهو القلب النابض الذي ولد من جديد من خلال علاقة الحب التي تجمعه مع ماريا، التي تشاطره شعوره إزاء أشجار الصنوبر، فهي تهوى شذاها و”ملمس أوراقها الإبرية تحت القدم” (ص104) لقد اجتمع روبرت جوردان مع ماريا على حب هذه الأرض، وعلى حب الجمهورية ومعاداة الفاشية؛ أي إن حب روبرت جوردان لـماريا قد عمق حبه لأرض أسبانيا؛ لتشهد الأرض والحبيبة توحداً في قلبه؛ توحداً يدعمه تصريح جوردان لماريا بتساوي حبه لها مع حبه لإسبانيا: “هل تعلمين أنني مذ قابلتك، لم أسأل عن أي شيء، ولا فكرت بأي شيء سوى كسب الحرب؟ في الحقيقة لقد كنت صادقاً تماماً في طموحاتي…، والآن أحبك كما أحب الحرية والشرف…، أحبك كما أحب مدريد التي ندافع عنها” (ص371). إن قيمة حب هنري لماريا جاءت موازية لكل القيم التي تكرست لديه طوال حياته السابقة، التي تنصهر في مفهوم الوطن. فعلى الرغم من أن روبرت جوردان أمريكي الجنسية، إلا أنه لا يشعر بأنه أجنبي أو غريب على الأرض الإسبانية؛ إذ إنه عاش في إسبانيا عشر سنوات، وكان يتمنى لو ولد فيها، وهو يتكلم اللغة الإسبانية بشكل جيد. ويثبت روبرت جوردان في نهاية الرواية، من خلال تضحيته بنفسه، أن الانتماء الحقيقي إلى الوطن لا تحدده الجنسية، بل يحدده الإيمان العميق بهذا الوطن، والشعور الصادق إزاءه.
-أنموذج البطل غير المنتمي:
في رواية “وداعاً للسلاح”، “Hemingway, Ernest: A Farewell To Arms: the millennium library, London, 1993” نجد لـ “هنري” مواقف خاصة إزاء الحرب التي يشارك فيها، فهو لم يكن يريد المجد أو الانتصار فيها، ولا يعرف لماذا تورط فيها أصلاً؛ لذا عندما تأتي كاترين على ذكر انخراطه في الجيش الإيطالي، يصحح قائلاً: “في الواقع لست جندياً، إنما أعمل في فرقة إسعاف” (ص15)، وعندما تسأله عن سبب إقدامه على ذلك يجيبها: “لا أعرف، قد لا يجد المرء تسويغاً لكل شيء يحدث معه” (ص16). لقد كانت الحرب غريبة بالنسبة إليه، ولم يشعر بأي مسؤولية تجاهها، فوقف على الحياد، وانغمس في الملذات؛ إذ جاء تعرفه على كاترين باركلي، مكرساً ابتعاده عن الحرب، وعودته إلى الحياة على طبيعتها، وإلى لغته الأم التي زادت من تعلقه بـ “كاترين باركلي”؛ إذ إن كاترين بريطانية الجنسية، وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت من الأطراف المتورطة في الحرب، فإن حماسها أخذ يخبو شيئاً فشيئاً. منذ اللقاءات الأولى التي جمعت بين الحبيبين، لم تبرز أرض إيطاليا بوصفها رمزاً يتواشج مع ذات الحبيبة؛ لذا فقد كان هنري يرفض أن ينشغلا في الحديث عن الحرب، أو أن تطغى حرارة الحرب على حرارة اللقاء العاطفي، فكان يقطع حديثها عن الحرب:
– “دعينا من حرب الجبهة.
– أظن ذلك صعباً للغاية.
– لنهرب مهما كلف الثمن.
– حسناً.” (ص23).
كان هذا بمنزلة الإرهاص الأول لهروب هنري من الحرب والتفرغ للحب، حتى إنه كان يتعامل مع الحرب في البداية كما لو أنها لعبة، يقصيها عنه متى يشاء، ويجتذبها متى يشاء. ففي المشهد المتضمن الحوار السابق نفسه، يحاول تقبيل كاترين فتصفعه، وعندما تعتذر منه، يقول لها بشيء من السخرية: أجل، لقد ابتعدنا عن الحرب (ص24). ويستمر هنري بالابتعاد نفسياً عن الحرب، إلى أن يلقي بنفسه في النهر هرباً من الشرطة العسكرية، ويتخلص من أدنى شعور بالمسؤولية، ثم يسرّ لنفسه بأنه لم يشعر بالعداء للإيطاليين، ولم يمقتهم، بل على العكس، فإنه يحترمهم ويرجو لهم التوفيق، إلا أن كل ما يرجوه أن تتاح له فرصة الأكل والنوم والجلوس المريح والابتعاد عن التفكير في الحرب. وهذا إقرار واضح بأنه لا يعدُّ نفسه معنياً بهذه الحرب. فهي ليست من شأنه. ولا أدل على عدم جديته في الانخراط في هذه الحرب، من قوله لرئيسة الممرضات في المستشفى البريطاني الذي تعمل فيه كاترين، حين سألته عن سبب التحاقه بالجيش الإيطالي بدلاً من الجيش البريطاني: “لست أدري، هل أستطيع أن أنضم إليه الآن” (ص19). توجز لنا العبارة السابقة إلى أي حد لا يعي هنري الطريق الذي يمضي فيه، فلا فرق لديه إن كان يخدم في الجيش الإيطالي، أو البريطاني. فهو ببساطة، لا يعرف لماذا انضم إلى الجيش الإيطالي؛ لقد استطاع الحب إقصاء البطلين عن الحرب، ورسم عالماً خاصاً بهما، ينتميان إليه.
أوجه الشبه والاختلاف:
إذا كان الروائي “رشاد أبو شاور” في مجمل رواياته، قد دأب على مزج الذات المعشوقة بالوطن في قلب العاشق، ورسم الحب ضمن هذا الإطار، فإننا نلمح ذلك أيضاً عند “إرنست همنغواي” في رواية “لمن تقرع الأجراس”، بتوحد الحبيبة ماريا مع الأرض في قلب روبرت جوردان. وعلى الرغم من هذا الشبه، فإنّ شعور الإنسان غير المنفي بالانتماء إلى الوطن، في القضية التي نحن بصددها، لا يمكن في حال من الأحوال، أن يفوق عمقَ شعورِ الإنسان المنفي. فالأرض من المقولات الأساسية في أدب “أبو شاور” المنفي عن وطنه؛ لذا فإن قضية الانتماء إلى الأرض والوطن كانت أكثر بروزاً وشفافيةً وغزارة لديه؛ لأنه عاش الحرمان الحقيقي. أما “همنغواي”، فقد عكس تجربة شخصية في عشق الأرض التي يقاتل من أجلها طواعيةً، وعلى الرغم من عمق استتار هذا العشق خلف الرمز في الغالب الأعم، فإنّه يعجز عن أن يرقى في التجربة الشعورية إلى مصافّ عشق الوطن السليب، بوصفه قضية شعب منفي.
ويبدو الشبه أيضاً، في تجلي الحب بوصفه قوّة مقاتلة في زمن الحرب، فوفقاً لما رأينا من تضحية أبطال “أبو شاور” بأنفسهم في سبيل وطنهم، وأحبتهم، فإننا نجد في رواية “لمن تقرع الأجراس”، تضحية البطل بنفسه من أجل كلٍّ من إسبانيا، وحبيبته ماريا، وفكره المثالي المعادي للفاشية.
وخلافاً لما يظهر من تعلق أبطال “أبو شاور” بأرضهم، فإننا نقف عند شخصية هنري في “وداعاً للسلاح”؛ الأمريكي المشارك في الحرب على أرض إيطاليا، الذي لم نجد ارتباطه أو تعلقه بالحرب؛ فهو لا يحارب على أرضه، أو يدافع عنها، ولم نلمح وجود أي رابط روحي يربطه بهذه الأرض. وهذه القضية وقف “رشيد” عندها في رواية “الرب لم يسترح في اليوم السابع، حين قال إن الأمريكيين” لم يعانوا شيئاً يذكر في الحرب…هم كسبوا على حساب الذين تعذبوا…” (ص172)، مشيراً بذلك إلى أن أمريكا كانت الكاسب الأكبر في الحربين العالميتين؛ إذ لم تتسبب كلتا الحربين بدمار بنيتها التحتية، بل إنها أصبحت على أعقاب الحرب العالمية الثانية، القوة العظمى في العالم.
وفي الوقت الذي يصمد فيه أبطال “رشاد أبو شاور” على أرضهم، أمام الدبابات الإسرائيلية؛ لأن عشق الوطن فوق كل عشق، يهرب البطلان فريدريك هنري وكاترين باركلي تاركين أرضاً ليست أرضهما. وإذا انطلقنا من فكرةٍ مفادها أن رشيداً في رواية “الرب لم يسترح في اليوم السابع”، قرأ رواية “وداعاً للسلاح” لـ “إرنست همنغواي”، الأقرب إلى قلبه من بين الروائيين كلهم، وردَّ بقوله: لا.. السلاح هو حياتنا لن نودعه” (ص21)، فهذا يوفر علينا بعض العناء، ويضعنا تماماً عند مكمن الاختلاف في الشأن الذي نقاربه هنا. ففي رواية “وداعاً للسلاح” وبالانطلاق من عنوان الرواية الذي يعرب بصراحة عن صلب القضية؛ أي التخلي عن السلاح، فإن السلاح لم يرتبط بعشق الأرض، أو الدفاع عن قضية، خلافاً لما وجدناه من تجلي الحب بوصفه قوّة مقاتلة، في روايات “أبو شاور”. وهنا نعود إلى تأكيد ارتباط قضية السلاح بقضية الدفاع عن الأرض؛ إذ إن تعلق أبطال “أبو شاور” بالسلاح قد أفرزه تعلقهم بأرضهم وقضيتهم، الأمر الذي لا مقابل له في رواية “وداعاً للسلاح”.