الثورة السورية والمال العربي

الرابط : دراسات :
زهير كمال – نيوجرسي :
في انتخابات عام 2009 في إيران حصل السيد مير حسين موسوي على نسبة 33.75 في المائة من أصوات الناخبين الإيرانيين  وتم إعلان فوز أحمدي نجاد بفترة رئاسية أخرى.  قامت على إثر ذلك اضطرابات ومظاهرات ضخمة في جميع أنحاء إيران اتهمت فيها المعارضة الحكومة بالتزوير وقام الغرب بتأييد هذه الاضطرابات الواسعة سواء بواسطة الإعلام الموجه أم بأجهزة المخابرات التي تعمل في الخفاء وتصب الزيت على النار، فالنظام الإيراني عدو شرس للغرب، يجاهره العداء ويقف في وجه مخططاته.
لم يكتب لهذه الاضطرابات النجاح والسبب بسيط فاتهامات التزوير لم يكن لها أساس وهي محاولة من الأقلية لفرض رأيها على الأغلبية، وإنما يجب على الخاسر القبول بالنتيجة وتعلم اللعبة الديمقراطية وانتظار انتهاء الفترة التي نص عليها الدستور والاستعداد خلال ذلك بتقوية صفوفه ورصها لضمان نجاحه.
قبل ذلك حدثت قلاقل وثورات في أوروبا الشرقية وبعدها في العالم العربي تكللت بالنجاح في معظمها ولكن فشلت القلاقل في إيران لكون إيران تتمتع بنوع من الديمقراطية وهناك عدد من رؤساء الجمهوريات السابقين وإن كان هناك من خلل فهو في عدم رسو الديمقراطية الحديثة وتجذرها في المجتمع.
ديمقراطية إيران على رغم عيوبها سمحت لها بعمل برامج علمية طموحة وتسمح لها بتحدي العقوبات الاقتصادية القاسية التي يفرضها الغرب، ففي النهاية تصبح المسألة خيارات أمة بأكملها قادرة على التحمل رغم كل المعاناة.
في فنزويلا فاز السيد هوغو شافيز بنسبة مريحة تقدر ب 54% من الأصوات في الإنتخابات التي جرت هذا العام ويسمح له ذلك بالبقاء رئيساً للبلاد حتى عام 2018
وهو يحكم فنزويلا منذ عام 1999 اي ان مدة حكمه ستقارب العشرين عاماً. ولكن لن نتمكن من وصف شافيز بالدكتاتور. لسبب بسيط ان الانتخابات التي جرت في فنزويلا وكذلك ايران هي انتخابات نزيهة والشعب هو الذي يقرر من يحكمه.
عندما بدأت الثورة العربية كان مقدراً لها أن تكتسح العالم العربي كله فظروف مجتمعاته متشابهة وأنظمة حكمه من مخلفات القرون الوسطى، بالية عفا عليها الزمن وكان من نتائج فساد الحكام وضع المنطقة كلها خارج التاريخ وأصبحت الأمة العربية في مجملها من الأمم الهامشية تتلاعب بها الدول الكبرى وتفرض عليها التبعية العمياء سياسياً واقتصادياً.
شاهدت الشعوب العربية  دول العالم المختلفة وهي تنتقل الى مرحلة متقدمة من التطور، ففي أمريكا الجنوبية مثلاً والتي كانت تعرف باسم جمهوريات الموز،  بدأت تتخذ مسارات ديمقراطية وأصبحت بعض حكوماتها تمثل لأول مرة شعوبها، ولعل لولا دي سيلفا أحد الفقراء الذين رفعوا البرازيل ووضعوها في مصاف الدول العظمى إنما هو مثل ناصع على ما يمكن للديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة أن تفعله لتغيير المسار البائس لشعوب طالما عانت من الفقر والفساد واستغلال الأجنبي لمقدراتها.
عندما وصل قطار الديمقراطية الى تركيا بدأ الإعلام يبث نجاح الدولة في رفع معدل النمو السنوي الى 11% ، وهي نسبة من أعلى النسب في العالم، بعد أن كانت تركيا تتخبط وتعاني التضخم والفساد والرشوة. ليس ذلك فحسب بل فرضت الديمقراطية على الحكومة الوليدة عدم التدخل في العراق أو شنّ هجوم من القواعد العسكرية للناتو المتواجدة في أراضيها، مما يشير الى بداية استقلال القرار بعد عهود من التبعية.
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية انفجرت الثورة العربية بداية في تونس وبدأت تنتقل بالتدريج الى باقي المنظومة.
بالرغم من أن زين العابدين بن علي حاول بكل قسوة وقف الثورة إلا أنه الوحيد من بين الرؤساء الذي فهم اللحظة التاريخية وأدرك أنه لا يمكن وقف قطار التغيير فآثر الانسحاب مبكراً. ربما كان ذلك الفهم ناتجاً عن عمله القديم كرئيس مخابرات امتلك بعض القدرة على التحليل العميق وربما كان لوقوفه أمام جسد محمد بوعزيزي المحترق وشعوره بغضب الشعب التونسي.
بينما لاحظنا أن باقي الطغم الحاكمة في العالم العربي من المحيط الى الخليج لم تستوعب ما يجري فهي لا تتحلى بالذكاء الذي يسمح لها بالوصول الى عمق المسألة.
وصلت الثورة الى سوريا، بدأت خجولة تنتقل من مدينة الى أخرى ، ففي ذاكرة الشعب مذبحة حماة التي ارتكبها النظام وكان مسروراً ومزهواً وهو يعترف بقتل ما لا يقل عن أربعين ألفاً من خصومه وتدمير مدينة بأكملها على رؤوس ساكنيها بدون تفريق في دين أو جنس أو عمر، ومع هذا بدا تصميم الشعب واضحاً على التغيير.
بدت الحيرة على كثير من المثقفين فالنظام السوري بالرغم من عيوبه هو أحد دعامات الممانعة والصمود في وجه العدو الصهيوني ومخططاته. ولكن الشعب السوري لم يعد يستطيع الاحتمال وكان لسان حاله يقول لماذا علينا أن نقبل الدكتاتورية والقمع والفساد مقابل ادعاء النظام الممانعة وقد صبرنا أربعين عاما على ضياع الجولان ولم يقم النظام الذي يمثلنا باتخاذ الوسائل المناسبة لاستردادها؟
في هذه اللحظة التاريخية كان على النظام اتخاذ خطوة ثورية صحيحة تناسب ما يصف نفسه به، وفي تصريح نادر للرئيس الأسد قال إنه بصدد إجراء إصلاحات جذرية في سوريا ستكون مثالاً لكل المنطقة.
كان على الرئيس الأسد الاستقالة من منصبه وترشيح نفسه أمام منافسين آخرين في انتخابات حرة ونزيهة وتبني برنامج للقضاء على الفساد وغير ذلك. كانت هذه هي الخطوة المناسبة لقيادة الثورة السورية وكان من المؤكد أن الشعب السوري سينتخب الرئيس الأسد مرة ثانية، فنحن شعوب عاطفية تغفر الأخطاء وتعطي الفرصة ولكن عند الشعور أن هناك خطوات تسير في الاتجاه الصحيح .
ما يؤسف له أن الرئيس الأسد لم يتخذ هذه الخطوة المصيرية في حياة سوريا رغم أنه كان الوحيد المؤهل بين أقرانه من الحكام لمثلها ، فهو شاب مثقف وقد تعلم في الجامعة وعاش خارج بلاده خلال دراسته الجامعية بخلاف الحكام العسكر الجهلة أو أبناء الملوك الذين تصلهم السلطة بدون معاناة أو تعب وفي غالب الأحيان لا يكونون مؤهلين لها.
ورغم أن خطوة الاستقالة تعتبر خطوة خارجة عن المألوف ولكنها كانت ضرورة لإنقاذ البلاد من الفوضى والمتاهة.
في تاريخنا العربي الحديث لم تحدث سوى مرة واحدة عند استقالة الرئيس الخالد جمال عبدالناصر بعد حدوث نكسة 1967، ولتحليل هذه النقطة علينا ان نسأل أنفسنا :
ماذا يعني أن يقدم دكتاتور له سلطة مطلقة استقالته؟
يعني أنه لم يعد في نظر شعبه دكتاتوراً فقد أرجع سلطته إليه  مرة أخرى وأصبح      له الحق في قبول الاستقالة أو رفضها.
رفضها شعب مصر بالمظاهرات العفوية الحاشدة في جميع أنحاء البلاد والتي طلبت منه الاستمرار في تولي المسؤولية وإصلاح الأخطاء الهيكلية وإعداد البلاد للحرب.
ما الذي يمكن حدوثه لو لم يقدم الرئيس عبدالناصر استقالته؟
رغم أن هذا سؤال افتراضي لم يسأله أحد من قبل إلا أن الشك والريبة والكراهية ستعم أبناء الشعب المصري كافة وسيحملون الرئيس مسؤولية ما حدث وستعم القلاقل والاضطرابات البلاد وهذا رد فعل طبيعي للجماهير وخيبة أملها في قيادتها وكان من الممكن لنصر أكتوبر 1973 أن لا يقع ، فالحشد النفسي وشعور الشعب بأكمله بمسؤوليته هو الذي يصنع الانتصار، فالشعب يدافع عن وطنه ولا يحارب من أجل حاكم.
مثل آخر ما حدث في الاتحاد السوفييتي، الدولة الوحيدة في العالم التي سمّت وما تزال الحرب العالمية الثانية بالحرب الوطنية العظمى بعد نجاح الإعلام في تثبيت حقيقة أن الحرب هي للدفاع عن الوطن وستالين رغم دكتاتوريته إنما هو ترس في آلة الحرب الكبيرة.
ورغم أن الأعمار بيد الله ، كان من الممكن للرئيس عبدالناصر أن يعمر فترة أطول فالمسألة تتعلق برهافة المشاعر والشعور العميق بالمسؤولية الذي يتحول الى ضغط عمل متواصل يضعف جسم الإنسان ويقصر في عمره.
استقال عبد الناصر لأنه كان ابناً لشعبه درس مع أترابه في المدارس الحكومية ولعب الكرة الشراب معهم واشترى الفول من البائع الموجود على الناصية وغير ذلك من الممارسات اليومية الصغيرة التي تترسخ كل لحظة في وجدان الفرد وتعمّق انتماءه لوطنه.
لم يستقل الرئيس بشار لأنه تربى في بيت عز وجاه وسطوة ، ولم يشعر بمعاناة الجماهير الكادحة وبوقفة الذل في المؤسسات الحكومية وفي الطوابير.
لم يستقل الرئيس بشار لأن هذه أصعب خطوة يتخذها حاكم مطلق فمعظمهم مات ميتة طبيعية بعد أن عمّر طويلاً أو مات اغتيالاً.
عامل النظام الثورة السلمية على أنها مجموعات من العصاة  ينبغي تأديبها ، كانوا يريدون شعباً صامتاً مطيعاً لا يفكر، يسمع ويطيع، وهكذا اقتلعوا حنجرة الفنان الشعبي ابراهيم قاشوش وكسروا أصابع فنان الكاريكاتير علي فرزات.
ولكن دروس التاريخ واضحة: ما إن تنطلق الثورة فإن ضحاياها وقود يزيدها اشتعالاً.
ما حدث من تطورات بعد ذلك كان طبيعياً في عصر التكنولوجيا والاتصالات والتداخل في المصالح، عصر المخابرات التي تخطط وتدبر وتلعب في الخفاء.
ما يقوله النظام إن هناك حرب كونية ضده صحيح جداً ، هناك حلف يشابه الى حد بعيد التحالف الثلاثيني الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق عند غزوه الكويت.
دول الغرب موقفها معروف بالوقوف ضد تطلعات وآمال الشعوب العربية ودعم إسرائيل المطلق . تركيا تحاول وضع موطئ قدم لها في المنطقة بالاستحواذ على سوريا تماماً كما استحوذت إيران على العراق. أما دول الخليج فهي تعمل كوكيل غبي للغرب وغباء أنظمته يكمن في استعمال المال حسبما تمليه مصلحة أعداء الأمة وبالطبع فإن تلاقي مصالح أنظمة الدول العربية الرجعية مع أعدائها معروف فالمال ليس له وطن.
ولكن هل نلوم المال العربي ولا نلوم أنفسنا؟ أغرق المال العربي الثورة الفلسطينية وكان عاملاً هاماً في إفساد النفوس الضعيفة التي لا تمتلك مباديء أو نفس ثوري حقيقي وانتهى الوضع الفلسطيني الى مأساة شاملة ما تزال مستمرة الى يومنا هذا، وكان الأمل معقوداً على حماس أن تقود المسيرة النضالية ولكن بدأ مال الخليج يصب في الجيوب الفقيرة وسيكون له فعل مدمر وقاتل على المستقبل الفلسطيني وعلى تطلعاته في تحرير وطنه.
هذا المال يصب في سوريا الآن بشكل مكثف ولا يهمه معاناة السكان وعذاباتهم فهذه مسألة هامشية، ولكن في نفس الوقت نرى أن النظام لا يقصر في التدمير وهو من أسعد الناس بتحول الثورة الى حرب أهلية تختلط فيها الأوراق والحابل بالنابل ويعتقد أنه سينتصر فقد أصبحت الثورة حرباً ضد الإرهاب، ولكن لا يستطيع ذلك فهو يتآكل بسرعة كبيرة من الداخل. وكان المعوّل أن يعي النظام المخاطر المحدقة به ويتخذ الإجراءات الذكية المناسبة كما سلف. وما يؤسف له حقاً أن المعارضين السوريين الوطنيين لم يستطيعوا التحول الى جبهة معارضة حقيقية تقود معركة التغيير الحقيقي وتحافظ على جبهة الممانعة ضد إسرائيل والغرب.
ما زال العالم العربي يعيش الحقبة السعودية في حياته (كما اسلفت في مقال سابق) وهو في أضعف لحظاته التاريخية، اذ مايزال النظام السعودي يقود المنطقة وشعوبها الى الهاوية ولكن الى حين فشعوب المنطقة ستنتصر في النهاية مهما طال الزمن.