منوعات …..
بقلم : د . كاظم ناصر – كاتب فلسطيني ..
يختلف رجال السياسة والإعلاميون والمثقفون العرب في تحليلهم لأسباب اندلاع وإخفاق حركات الربيع العربي؛ فبينما يفسّرها البعض ” بنظريّة المؤامرة ” ويقول إنها كانت موجّهة لخلق فوضى مدمّرة لا تخدم الأمّة، يرى آخرون أنها كانت حركات جماهيريّة هدفها الاحتجاج على الاستبداد والفساد والفقر والبطالة، وكان من الممكن أن تتحوّل إلى ثورات ديموقراطيّة مشابهة لما حدث في أوروبا الشرقيّة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكنها فشلت لأنّها كانت تفتقر إلى مساندة أحزاب ومؤسّسات مجتمع مدني فاعلة تتولّى قيادتها وتوجيهها.
عندما انطلقت تلك الحركات، كانت الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة العاملة تحت مظلّة الاخوان المسلمين في مصر وتونس واليمن والأردن والسودان والمغرب وغيرها من الدول العربية تتمتّع بتأييد شعبي قوي شكّل ضغطا كبيرا على الأنظمة العربية خاصة الوراثيّة الغنيّة منها، وسارعت تلك الأنظمة إلى التدخل فيها لاحتوائها.
الأنظمة العربيّة ترى في الديموقراطيّة الحقيقيّة تهديدا أساسيّا لوجودها؛ ولهذا تصدّت لتلك الحركات ودفعت مليارات الدولارات لإظهارها كحركات فوضويّة مدمّرة ونجحت في إفشالها، واستمرّت في معارضة الانتفاضات والحركات الجماهيرية سواء كان أبطالها ” شيعة أو سنّة.” لكن آثارها واستحقاقاتها ما زالت تتفاعل، وإن من أهم نتائجها أنّها ساهمت في زيادة الهوة بين الحكّام والشعوب، وفي تراجع الإسلام السياسي وتغيير الأولويّات والتحالفات في المنطقة.
فبعد أن فشل نظام الإخوان المسلمين في مصر، وفشلت حركة النهضة التونسية في أسلمة الدولة والانفراد بالسلطة، وتراجع تأييد الإسلاميين في الانتخابات النيابية التي أجريت في الأردن والبحرين والكويت والمغرب، وانهارت ” خلافة داعش”، وتمّ اعتقال أعدادا كبيرة من العلماء والسياسيين الإسلاميين من المذهبين السني والشيعي في مصر والبحرين والسعودية والإمارات ودول عربية أخرى، … تلقى الإسلام السياسي … أقسى ضرباته من” حاميته وقائدته” الدولة السعودية التي قامت بما يشبه الانقلاب عليه، وبدأت في التخلّي عن تطبيق النموذج الوهابي المتشدّد الرافض للحداثة والتغيير الاجتماعي والمدعوم من الطبقة الدينيّة، وتوقّفت عن تشجيع وتمويل الحركات والأحزاب السياسيّة الإسلاميّة.
لقد نجح الحكام العرب في إفشال الربيع العربي، وفي تقليص نفوذ الطبقة الدينيّة والحركات الإسلامية التي ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في تأسيسها وتمويلها وحمايتها، واستخدموها في خداع شعوبهم، وحماية أنظمتهم، وتأجيج الصراع بين ” السنة والشيعة”، والآن ” انقلب السحر على الساحر” وتخلوا عن حلفائهم الإسلاميين، وغيّروا أولوياتهم وتحالفاتهم.
ولهذا فإن التحالفات والصراعات الحاليّة في المنطقة تتحكّم فيها وتؤجّجها أولويات وارتباطات السياسة وليس الانتماءات الدينية ” السنيّة الشيعيّة “؛ فعلى سبيل المثال قطر لها علاقات ممتازة مع إيران الشيعيّة في الوقت الذي توجد فيها قاعدة عسكريّة لتركيا السنيّة وقاعدة العديد الأمريكية وتحافظ على علاقات وثيقة مع واشنطن، والإمارات المتحالفة مع السعودية ضدّ إيران تربطها علاقات اقتصادية متينة معها، والكويت السنيّة وعمان التي يهيمن عليها الأباضيوّن لهما علاقات جيدة مع إيران وتركيا، والعلاقات السعودية التركيّة في غاية السوء، وعلاقات مصر وتركيا سيّئة، وإيران وتركيا تنسّقان سياساتهما في المنطقة وفق مصالحهما، وتحافظان على علاقات سياسيّة وتجاريّة جيدة بينهما ولهما تأثيرا سياسيا واضحا في عدد من الدول العربية.
وأكبر دليل على تغلب المخاوف الأمنية والاستراتيجية على الصراع الديني وتراجع الإسلام السياسي في المنطقة هو التحول في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية ” السنية والشيعيّة ” وبصورة خاصة المملكة العربية السعودية، وفشل الدول العربية والإسلامية في مواجهة قرار الولايات المتحدة بتهويد القدس وتراجع اهتمامها بالقضية الفلسطينية، وازدياد النفوذ السياسي والعسكري الأمريكي في العالم العربي، والكشف حديثا عن النية لتشكيل ” ناتو عربي أمريكي ” يضم الولايات المتحدة ودولا خليجية وعربية لمواجهة النفوذ الإيراني.
أمريكا وإسرائيل ومعظم الحكّام العرب يشعرون بالارتياح لتراجع تأييد الإسلام السياسي، وإن الأولويّات والتحالفات والمخطّطات التي تجمعهم حاليّا أمنية واستراتيجية هدفها مواجهة إيران ومنعها من تطوير أسلحة نووية، وتصفية القضية الفلسطينية، وتوفير الأمن لإسرائيل وقبولها كدولة من دول المنطقة، وحماية الأنظمة العربية من الشعوب!