فلسطين ….
بقلم : : فؤاد عبد النور – المانيا -تحرير : نخبة من ابناء سحماتا
لعل أكثر المواقع عذوبة في المواقع الفلسطينية الكثيرة, إن كانت في البلاد أسيرةً, أو في المهجر مشتتةً, موقع قرية سحماتا. أقول عذوبةً, للمتعة التي تشعر فيها وأنت تتصفح الموقع. ولكن يخالط العذوبة الكثير من الشجن, تكاد تنزل دموعك وأنت تسمع المنشد في أحد الأفلام القصيرة التي وثقت بقاء الأهل في سُحماتا, في مخيمٍ يضم الصغير قبل الكبير, وقد أخرج الفيلم وديع خوري: ” ملتقى سحماتا للسنة 2012 “. كيف يمكنك أن لا تتألم وأنت تسمع المنشد يتلو من شعر أبي عرب:
يا توتة الدار / صبرك على الزمن إن جار / لازم نعود مهما طوّل المشوار .. يابا.. يابا. يا توتة الدار / حلّفتك برب الكون / لازم نعود مهما طال المشوار / أوف.. أوف.. أوف! / هدّي يا بحر هدي / طوّلنا في غيبتنا / ودّي سلامي ودي / للأرض اللي رّبتنا / و سلّم لي عَ الزيتون/ و عَ أهلي ربوني / و عَ أمي الحنونة / بـِـتشمشم مخدتنا / سلّم.. سلّم عَ بلادي / تربة أبي وجدادي / و بعده العصفور الشادي / بغرِّد بعودتنا / خدي سلامي يا نجوم / عَ البيادر والكروم / بعدها الفراشة بتحوم / عمْ تِستنظر عودتنا / واحمل لبلادي سلام / لِ خواني وكل لاِعمام / بعده زغلول الحمام / عشه على توتنا / وعهد الله.. وعهد الثوّار / ما بنسا حقك يا دار / مهما طولنا المشوار / راجع لِك يا ديرتنا .
ها أنا ذا أعود للجليل بعد ربع قرن.. أجول في المواقع الاكترونية المختلفة بدلاً من التجوال الميداني, وأدهش من هذه الطفرة التي تطورت في نضال إخواننا فلسطينيي الجليل في هذه المدة. قبل ربع قرن كان من المحظور أن تتردد على القرى المدمّرة. كانوا يستدعون لك البوليس , فتدور الاتصالات بالاسلكي, لتستفهم عن تاريخك, أسبقـيــّـــاتك, فإن خلصت من الاستجواب, يقولون لك هذه أملاك خاصة .. لا تتعدى!
لي تجربة خاصة في قرية شعب. أفرغت القرية من السكان, ثم أُسكنت بلاجئين طردوا من قرى أخرى, ولم يهاجروا إلى خارج البلاد, خاصة من قريتي البقارة والغنامة على الحدود السورية. والتقيت بشابٍ متفتّحٍ, متحمسٍ, مثقف في الناصرة, أصله من نصارى شعب, أدرك ما أقوم بعمله, وتبرع أن يكون لي مساعداً, فهو مهتمٌ بكتابة تاريخ شعب.
واتفقنا أن نلتقي بعد يومين, ونذهب سوية في جولةٍ لشعب وغيرها من القرى المهجّر أهاليها. قدمت بعد يومين في الميعاد, فلم أجد عنده ذلك الوميض السابق, ولا الحماس الذي كنت أتوقع. تململ واعتذر, إنه لا يعرف الشيء الكثير عني, ولا يدري إذا كنت قد أخذت تصريحا للقيام ببحثي هذا, ألا تعترض عليه الحكومة, البوليس؟ حاولت أن أشرح, فلم يعطني فرصة, وقال: ” إنك لا تعرف الأوضاع هنا.. لقد نصحني الكثيرون أن لا أقترب من موضوع كهذا.”
افترقنا على مودة, ولكن مع بعض خيبة الأمل.
في شعب قابلت شخصاً محتلاً إحدى الكنيستين المهجورتين, معللاً بأنه قد اشتراها, ومنعني من التصوير, أو تسجيل شيء منه. وقال:
” أنا مش قد الحكومة .. بالزمان كانوا يركضوا عَ الخيل يخبروا البوليس.. اليوم عَ التلفون !”
لقد زال الحكم العسكري الفظ. وزالت هيبة البوليس. لم يعد بالإمكان التصدي للتململ الحاصل, إن لم نقل الثورة الحاصلة. لقد كسر المارد القمقم. هل رأيت, أو سمعت, شعباً تحرك واستطاعت سلطةٌ إيقاف تحركه مهما كانت باطشة ؟!
———–
فرحتُ لما وجدت أن د. شكري عراف قد نقل الكثير من المقابلات والأحاديث من كتابي ” الجليل.. الأرض والإنسان ” في كتابه ” لمسات وفاء “. أقول الحق نسيت الكثير مما كتبته بعد هذه المدة, نسيت الذين قابلتهم وحادثتهم, خاصة وأني لم أستطع توزيع كتابي بشكلٍ جيد في الجليل, بعد أن منعنا من السفر بسياراتنا عقب ضرب صدام إسرائيل بصواريخه الكرتونية. ولما حصلت على ” لمسات وفاءٍ ” استعدت الكثير من هذه الذكريات, خاصة المقابلة مع كامل العبد من سحماتا,
وقرأت عنه معلومات جديدة لم أكن أعرفها, وتجارب اللجوء المُرة . ( ص 279 ) رغبت زوجة كامل العبد أن تذهب مع أولادها للجوء عند أخيها حسن في سبلان. عندما وصلت وجدت القرية مغلقةً كمنطقةٍ عسكرية, ولم تدر ماذا حصل لأخيها حسن, فقررت العودة إلى زوجها في كفر سميع, ولكنها تاهت وأولادها الأربعة, فبدلاً من أن تتجه إلى طريق كفر سميع, اتجهت في الطريق إلى البقيعة. مضت ثلاثة أيام على هذا الضياع, وقلق الزوج, وتوجه إلى السيد يوسف بك العلي في البقيعة , وطلب مساعدته في البحث عن عائلته. فأرسل هذا السيد سعيد صويلح, ومعه مسلحان, ولكنهم لم يجدوا للضائعين أثراً. أصر يوسف بيك أن لا يعودوا بدون هذه العائلة, روبعد ثلاثة أيام وجدوهم نياماً بجانب إحدى الأشجار يتضورون جوعا.
——————
راجعت موضوع سحماتا في الطبعة الثانية. وجدت أن مقابلتي مع كامل العبد قدّورة تستحق التسجيل, لا يُمكن عدم إعادتها في هذه الطبعة:
سمعت عن كامل العبد قدورة من أكثر من شخص في المنطقة. عندما كنت في الرامة, سألت عنه, ووجدت بيته. وأبو العبد متحدثٌ لبق. لا تعوزه الكلمات, ولا تخونه الذاكرة. كتبت له 35 صفحة, بالإمكان نقلها بسهولة. تجد أدناه تلخيصاً لأقواله:
” غالبية سكان سُحماتا كانوا مسلمين – 1400 نسمة. المسيحيون كانوا يزيدون قليلا عن 50 نسمة. والمسلمون يتكونون عموما من حمولتين: دار موسى, وكانت العائلة السائدة, وصاحبة النفوذ, ولكنها أهملت نفسها في القرن الأخير من الحكم العثماني, وأخذ ابناؤها يبيعون في أراضيهم. واستطاعت عائلة المتكلم – قدورة – شراء معظم الأراضي المفلوحة, والمزروعة زيتون, فتجمع عندها حوالي 90% من أراضي القرية. وأثّر هذا الوضع الجديد على العلاقة بين الحمولتين.
” للتاريخ والحق أقول إنه قريتنا كانت قاسية على الجيران, على المسيحية والدروز بشكل خاص. بلاد ثانية كانت قاسية مثلنا, كانت دير القاسي على فسوطة. إحنا كنا قاسيين على المنطقة كلها. كانوا الفقرا كتار. ومجال الرزق يحصلوه بالقوة من حواليهم. فكثرت التعديات.
” كان في واحد هامل ضربه عمي كف قدام الناس, لأنه البلد قررت إنه ما يكون في سحجات أيام الثورة في الأعراس. حَفظها إله. كان يحرض علينا الثوار باستمرار. يوم ” أحمد الزرعيني ” من جماعة ” القسام ” كان ساكن ترشيحا, وبدو يروح مشوار. قال لواحد اسمه حسين اليماني, قوم جيب لي حصان محمود الصالح المختار من البيدر. ما كان حدا في البلد يقدر يقرّب على المختار. نهر المختار على اليماني, وقال له: ولك شو بتعمل ؟ قال له: بدي الحصان لأحمد الزرعيني. قال له عمي: ولك هذا الحصان أنا خيّاله. ما حدا بركبه بالبلاد وأنا طيب! روح إمشي!
” راح وقال للزرعيني سبني وسبك. وزاد حكي من عنده. وقريبنا اللي أكل الكف صار يزيد هو التاني. كلها كم يوم, أجوا على الديوان بالليل, ونادوا عَ المختار. قام أخوه يرد, قال له : بنادوا علي. إنت اقعد! طلع. قوصوه على عتبة الباب, وطيروا دماغه.
” هذا ما كان بكفي. صار علينا ضغط كبير من الثوار. كان ابن عمي يشتغل بوليس في زمارين. أجا ” الأصبح ” لعمي, وقال إبنك بشتغل مع الإنكليز, وببعتلهم أخبار عنا. كنت ولد, ابن 16 سنة, أخدم عليهم. قال له كيف أبعت أخبار لابني, والبلد إضراب, والطرق مْسكرة ؟ وشرح له وضع القرية. بعد عدة زيارات اقتنع الأصبح وقال: أنا ملاحظ في كراهية وحسد, مش حقائق. لازم تديروا بالكم على حالكم. في ضغط كبير عليكم. أنا قنعان إنه سمعتكم كويسة. بس بدي واحد يمشي معنا حتى يسكّت فم الناس. إن صار حكي بدافع. إتفقوا على ابن عم تاني يروح معه. كان الأصبح أشرف قائد, من الجاعونة لعكا .
وسألت : ألهذه الدرجة كان الوضع سيء ؟ فأجاب وهو يزفر: يكفي إنهم يطلقوا عليك إشاعة إنك متعاون مع الإنكليز أو اليهود حتى يصدقوها الناس. والإشاعة بتكبر. إحنا بنحب الإشاعات, أو عندنا استعداد للتصديق. للأمانة , والله ما في حرف صحيح. إحنا أهل الوطن. إحنا الملاكين. إحنا أصحاب الرزق. المختار منا. القاضي منا. الزعيم منا. بس قلة الوعي كانت قاتلتنا.
” بدي أحكي لك ها الحكاية حتى تعرف إنه الحزازات العائلية كانت قاتلتنا, حتى بعد النكبة وضياع البلاد. أبوي لجأ للدروز بكفر سميع, وأنا كنت رايح للبنان. بيني وبين اتنين من الدروز كان في خلاف كبير. قلت لأبوي بدك تقتلني في كفر سميع؟ صار يبكي ويقول: بدك تتركني وأنا بها العمر! توكلت على الله وبقيت. الحقيقة أكرموني كأني نسيب إلهم. سعيت إني أرجِّع البلد. حصلت على تصريح إنهم يرجعوا خلال 15 يوم. أرسلت رسالة والتصريح مع واحد متسلل بينّا وبين لبنان. كان من العيلة المنافسة, دار موسى. سلم التصريح لمختارهم, مسك المختار المكتوب وقرأه, وقال:
– إحنا متنا وعشنا وما شفنا رغيفنا قد رغيف دار قدوّرة ! بدك ايّـانا نرجع تحت جميلتهم ؟!
مزّق التصريح مع المكتوب !”
وقلت أني سمعت في المنطقة أن مختار القرية أرسل لليهود خبر استسلام القرية , رفضوا اليهود. أصروا على تفريغ القرية, بسبب من تمثيلهم بجثة ضابط قتيل من الهاجاناه في معركة جدين. ولكن أبو العبد نفى ذلك, وأكّد:
– ” الواقع إنه الناس خافت وهجت قبل وصول اليهود للقرية. الفزع كان سايد. صحيح إنه حصلت تعديات. الجهال كانوا كتار. لما وصل فزيع بلدنا إلى جدين كانت المعركة منتهية. واحد أحمق ربط جثة ضابط يهودي ورا فرسه أو جره لسحماتا. أخذ يستعرض بطولته قدام البلد. قمنا عليه الكل. كانوا بدهم يدفنوه في البير ويطموا عليه. اصريت أنا نسلمه لليهود, أو سلمناه.”
– وسالت: وماذا عن طاحونة القهوة التي تحدث عنها ابنك ؟
ضحك أبو العبد وقال:” أنا عارف قصصنا كثيرة. البلد راحت. أم ولادي كانت لاجئة عند أهلها بسبلان. الناس احتاجت. عمتي بعتت خبر من لبنان بدها ذهباتها اللي خبتهم في بيتها. رحت لسحماتا حتى أجيبهم إلها. لقيت الناس بتحمّل اللي في بيوتنا. من الأيام الأولى بلّش النهب. اللي ينهبوا كان أكثرهم لاجئين هم أنفسهم. وبرضه دروز ماخدين حريتهم. لقيت أربعة دروز بنهبوا بيتنا. صرخت عليهم: يا عيب الشوم يا رجال! قام واحد هب فِيِّ وقال: سكر ثمك! إن بقيت واقف هون راح اقوسك محل ما نْت واقف! قام واحد من جماعته قال له: يا زلمه, هادا ابن العبد قدورة ! قام استحى وتذلل. قال أنا بين إيديك. قلتلله : بدي طاحونة القهوة هاذي. بتعز علي. قال تكرم. ما رجّعها, وبقي يحمل الدواب من بيوتنا وبيوت جيراننا. أخذت الطاحونة بإيدي, وأكملت مهمتي لوحدي.
وضعنا الطاحونة في يده, والتقطنا لهما صورة.
وتساءلت متعجبا: هيك عينك, عينك, النهب؟!
فأجاب بحسرة:
– ” هيك فعلاً. الكل كان ينهب. مع إنه الكل كانوا متأملين إنه اللاجئين يرجعوا. كإنهم بدهم ينهبوا البيوت قبل ما يرجع أصحابها. بعد ما خلّصوا على المؤن, والثياب, والخزاين, لحقوا على الخشب والحجر. مال استبيح. ما بقي في حرمة بشيء.
فسألت: طيب ليش ما حملتم أغراضكم بأنفسكم؟
فأجاب في الم:” ما كان عندنا نفس. راحت بيوتنا. راحت أرزاقنا. أرضنا. ضغطوا على أبوي كثير إنه يروح يحمل. راح أو حمل ثيابنا وكسوتنا. بعد فترة أعلنت القرية منطقة عسكرية مغلقة. ما عاد الواحد يروح إلها إلا بتصريح.”
—————
كتب وجيه سمعان, المسؤول السابق ” لجمعية أبناء سحماتا ” في موقعه- فلسطينيي الداخل:
” مع تردي الأوضاع في عالمنا العربي, وحلول مؤتمر مدريد في عام 1991 والذي تجاهل قضية اللاجئين في وطنهم, كما تجاهلها لاحقاً اتفاق أوسلو, تنادت مجموعةٌ من المهجرين الشباب سنة 1992 وأقامت لجنةً الدفاع عن حقوق المهجّرين, وبُدئ النشاط المنظّم, وسلوك الطريق لأخذ قضيتهم العادلة بأيديهم. وفي آذار 1995 دعت هذه اللجنة لعقد اجتماعٍ عام للمهجرين, تمثلت فيه حوالي 30 قرية, منهم قرية سحماتا, وانبثقت عن هذا الاجتماع ” اللجنة القطرية للدفاع عن حقوق المهجرين “.
الآن الكل يفخر بالمشاركة في مسيرات العودة. جماهير من الشباب تتدفق نحو قراها المهدمة, تقيم معسكرات تطوّع للتعمير والترميم والتنظيف, لا تبالي بالموانع, ولا تقيم وزناً للشرطة, تؤكد تمسكها بقراها, بكنائسها, ومساجدها, بمقابر موتاها.. موجةٌ عارمةٌ لا يمكن صدها. تقف الحكومة الإسرائيلية عاجزةً أمامها. لا تدري كيف تحاربها, وكيف تقدر عليها. لأنها هبّةٌ من القاعدة. ولأنها حاجةٌ مجتمعيةٌ أساسية, لا يمكن إيقافها. لأن أولئك الشباب يندفعون دون تحريضٍ خارجي, أو رشوةٍ يُــقدّم متلقيها للمحاكم. لا يمكن محاربتها, لأنها عفويةٌ, طبيعية.”
لا أدري إذا كنت أتخيل, أم أنا لا أزال في عالمي الواقعي. أرى المستقبل أمامي مكشوفاً. أشعر أن الفلسطيني الواقع تحت الحكم الصهيوني سيكون هو المخلّص! فيا حكومات العرب.. رجاء .. لا تتدخلوا بهذه الثورة, لا تُرشوها, لا تُفسدوها,
يكفينا إفساد ما سبقها!
—————
عندما كنت أعمل في الجليل كنت ألاحق أهالي القرى القائمة, والقرى التي هُجّر منها أهلها, ودمرت. الآن أحاول أن أُلاحق الذين تشردوا إلى خارج الوطن , وأتابع كيف تدبروا أمورهم . نبدأ بمقالٍ عن ” أحمد اليماني “, أبو ماهر, وقد توفي في الهجرة في 4 \ 1 \ 2011 وقد نعاه” صقر أبو فخر” في ملحق السفير الشهري ” فلسطين “, أورد هنا مقتطفات منه:
“غاب واحدٌ من مؤسسي حركة القوميين العرب, وأحد قادة جمعية العمال الفلسطينيين , وأمين سر اللجنة الشعبية للدفاع عن سحماتا قبل الهجرة.
أسس أبو ماهر مع رفاقه ( المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين) دخل السجون اللبنانية 55 مرة! بسبب من نشاطه السياسي. ..
… عرفته من ستة وثلاثين سنة، وديعٌ كحمام البيدر, جريءٌ في قول ما يعتقد, أصيلٌ في انتمائه للعروبة, صلبٌ كصخر البازلت, شديدٌ كمطارق الحديد, ثابتٌ
كزيتونات الجليل, شوكيٌّ مثل صبّار الوعر, رقراقٌ كمياه الأودية في الكرمل, مُتجذّرٌ لا تتمكن الأيام منه, راسخٌ تعجز الأحوال المتقلبة عن تقليب مبادئه.. ظل أبو ماهر فقيراً, يجمع حتى وفاته أناشيد الفتوة في فلسطين ليعلمها للفتيان في لبنان.”
أعترف أني لم أكن أعرف الكثير عن ” أبو ماهر” من قبل. أشعر بالخجل من ذلك الآن. خاصة عندما قرأت في مذكرات ” أنيس الصايغ ” رأيه فيه, في أكثر من صفحة. أبرز تلك الآراء ما ورد في الصفحة 484 :
” الأخ يماني, ضمير شعبنا الفلسطيني الحي والصامد والمضحي والصادق والجريء, الذي أعترف باعتزاز , أنه القدوة التي أتمنى للأجيال العربية الطالعة أن تتعلم من تجاربه, وتتحلى بفضائله. ”
وقال عنه شفيق الحوت:
” لو كنت فناناً تشكيلياً وأردت أن ارسم صورة تجسد فلسطين حتى يومنا هذا, لما وجدت خيراً من اليماني ليجسد الصورة الممزوجة بالألم والمعاناة والنضال… أبو ماهر تميّز عن غيره بثباته على الهدف, وبصدقه, وسيبقى من المناضلين والطالبين بتحرير كامل التراب الفلسطيني “. ( نفس الصفحة أعلاه ).
———————-
سحماتا مثل البقيعة, قريةٌ جميلةٌ في بطن التلال, غنيةٌ بأشجار الفاكهة والمياه, ولا بد أن في القريتين سراً حتى تنجبا عدداً كبيراً من الشعراء والأدباء. تقول جميلة يوسف عامر في موقع هوية أن الفتيات كن يذهبن للعين كأنهن ذاهبات إلى عرسٍ.. تلتقي الفتاة مع أخواتها وصديقاتها بنات جاراتها, يهزجن ويغنين. وأن الناس كانت تردد في الأعراس:
” جينا نهنيكم يا دار الهنا جينا نهنيكم لقينا الهنا
يا دار بو فلان يا عالية البنا يا عالي يا مسكن الحكام.
أما حميد ذيب محمود, فنظم قصيدة ” نار النوى .. والنكبة ” :
” سحماتا أرضي من جدود جدود / يا أرض العرب حبي إلك عالَم ما لوش حدود / ولادك خلقوا من ترابك بظلّوا أوفياء / ولا مرة بتنازلوا عن حقنا المشروع / ليش الأهل طولوا الترحال / عيونا عَ غيابن عَمْ تْهل دموع / كنا عايشين بخير وهداة بال / نفلح أرضنا وراسنا مرفوع / وياما زرعنا سهول خلف جبال / لأرضنا نبقى طول العمر حراس / يا تلالنا.. يا ربوع. . يا أحلى ربوع / قديش مرت قدامك جيوش احتلال .”
خزنة سمعان من عائلة شعراء. تنشد وهي تبكي:
” والصبر يا مبتلي.. والصبر يا أيوب
والصبر جبتو معي حتى يِنمحَى المكتوب
والصبر جبتو معي من يوم هِجرتنا
وحجارة الدار يا يمّا تبكي يوم فِرقتنا
نزل دمعي على خدّي وهوّد
عَ اللي رحل من سحماتا وما عوّد
يا رايح عَ لبنان.. هـِيهْ يا مْعَوّد !
سلم عَ اْهِل بلدنا والصحاب.
يا جرن الكبّة وين أهاليك؟
واحد وستين سنة ما دار الدق فيك
راحت محماصتي تشتكي لِلبريق
بكى الفنجان عَ فْراق لِحباب
وتبكي العين على خدي عشانها غريبة
يا ربي لا تموتني غريبة
إلا غير بين أهلي ولِصحاب
أمانة يامّا إن مت حطّوني بـِنواعش
واقبروني بالوطن عَ دروب لِحباب ! ”
وننهي بهذه الفقرة عن مسرحية , وردت في موقع وجيه سمعان:
” 21 \ 8 \ 1998 سحماتا الواقعة في قلب الجليل الأعلى ترحب بالأهل وبالضيوف من مهجرين وعشاق مسرح, وكتاب, وشعراء, وقوى ديمقراطية. جاءوا جميعهم لمشاهدة الحدث الكبير على أرضها الطيبة.. النسيم يداعب الأجفان, والأنفاس تنحبس في الصدور. الكل ينتظر بشوق من ” مسرح الميدان ” العرض الأول لمسرحية سحماتا في حضنها الطهور, بجوار الكنيسة التي هُدم ثلاثة أرباعها, وعلى خلفية البيوت المدمرة, وفي ظل تلك الشجرة العتيقة, ابتدأ العرض الأول بحضور مؤلفيّ المسرحية ( حنا عيدي ابن قرية البقيعة الجليلية, ومخرج المسرحية إدوارد ماست الأمريكي ). وأثناء هذا العرض الذي احتل القلوب من الممثلين الرائعين لطفي نويصر, وميسرة مصري, اجتاح لهب قضية اللاجئين والمهجّرين النفوس, البعض تأوه, والبعض بكى, وتراب سحماتا يود أن يعود جميع اللاجئين والمهجرين إلى تراب الوطن الغالي.
” ومنذ ذلك الحين, والمسرحية تجوب طول البلاد وعرضها, وأيضا في القدس وجنين, كما كانت هناك بعض العروض في الدول الأوروبية, لاقت تقديراً عالياً من الذين شاهدوها. ونحن الآن في كانون الأول من العام 2004 ولا تزال المسرحية تعرض, واقترب عدد العروض من 200 عرض , تنقل الرسالة العادلة لقضية اللاجئين والمهجرين, مُسهمةً بذلك في ترسيخ الذاكرة الجماعية لدى الفلسطينيين, وعازمة على التمسك بحق العودة.”
————
نشر موقع “هوية ” في 29 \ 11 \ 2012 ما يلي من محادثة مع جميلة يوسف عامر:
” كان في آثار كثيرة في القرية. كانوا يفتحون المباني الأثرية فنرى أشكال مرسومة على الجدران, مثل الفخار والجرار. أيضا في البركة بين الحارتين وجدوا آثار كثيرة. ببيتنا تحت الباب وجدوا آثار. ولكن الناس ما كانت تهتم بها. البركة لما حفروها وجدوا تحتها عمدان مثل عمدان قلعة بعلبك. والشباب كانوا يصعدوا على العامود ويقفزوا منه للبركة. كان هناك مغر, فيها آثار برضه.
” كان في ولي نزوره باستمرار في القرية, نذبح وننذر إله. برضه كنا نروح للنبي سبلان نزوره.
” كان عندنا نبع ماي. كانت البنت اللي بتذهب للعين كإنها ذاهبة إلى عرس.. تلتقي مع صاحباتها وإخواتها وبنات جيرانها. فعلاً كانت الناس تعيش في سعادة.”
كتاب:
سحماتا. زهرة من رياض الجليل. تحرير نخبة من أبناء سحماتا.