في “عشر طرق للتنكيل بجثَّة”: ساعة “عماد فؤاد” الرّملية وفن الكتابة العائدة

التصنيف : اصدارات ونقد (:::)

كتب: رحمن النجار  – المانيا (:::)

“واليومَ تكبرُ على كفّينا ورودُنا التي تجفُّ قبل أن تتفتّح، ونحنُ نسير منحنَييْن تحت ثقلِ خشبةِ المحراث، وثمَّة من يضربُ ويضربُ ونحن لا نشعرُ ولا نئنّ، وإنَّما نسيرُ كي نفتحَ خطوطاً في قلبِ التّربةِ وندعُ للشّمسِ مُهِمّةَ قتلِ ديدانِ الأرض”.

من “هامة الخجل” ص67.

الشاعر المصري “عماد فؤاد” كتب كتاباً شعرياً متميزاً، وذلك من خلال الشغل على ثيمة الكتاب القوية من جهة، وعلى التّصاعد في تفاصيل ثيمة “المحبَّة والتنكيل بها”. أعتقد أن تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، لم يكن أمراً تقنياً بقدر ما كان زمنياً، حيث أن الشاعر قد أنهى ثلاثة عقود من العمر، لذلك أعطى وعي التجربة الحسّية والجمالية في فترته العمرية الأولى، دور القيادة في هذه وفي العالم. إن العودة نحو مرحلة الطفولة المبكّرة كخامة جمالية حسية للكتابة هي ما سوف افترض تسميته بفن الكتابة المعكوسة، وهي ما وسمت عمل “عماد فؤاد” الجديد “عشر طُرق للتنكيل بجثّة” الصادر عن دار الآداب 2010. “إلى جسدي مرميًّا في حِجْر أمّي..

هذه بضاعتكِ

رُدَّتْ إليكِ”.

من ” إهداء” ص5

نولد ونموت لنعود حطاماً كما الــ “هذه بضاعتك/ رُدَّت إليك”، وكما ساعة الرمل، تنقلب ليصبّ الرمل من جديد. هي العودات والحطامات لكذلك. هذا إذا ما تصوّرنا الحكاية على أنها حطام الأساطير، الحروب هي حطام حلمنا في السحر أولاً كثقافة ومن ثم الأديان والفلسفة، وإذا ما تصوّرنا الشِّعر على أنَّه حطام الخرس البدائي الأول “المونولوج الداخلي البدائي”. إذا ما تصوّرنا هكذا حطامات، فإن ديوان “عماد فؤاد” “عشر طُرق للتنكيل بجثّة” هو حطام الحلم البشري في “المحبّة”. وإذا ما اعتبرنا لغة الكتاب على أنها هذا التناوب بين الرقة والغضب، فذلك مردّه برأيي أن “عماد فؤاد” قد تنبّه إلى حطام من نوع آخر، ألا وهو حطام لغة المونولوج الداخلي، حيث بدت الحياة وبخطابها عبر اللغة كمؤسسة شراكة بين الدين والدولة، تشكو من فصام حاد، نظراً لإقصاء وتحريم لغة البوح الداخلي. قد يكون الباعث لمحاولة التنكيل بجثّة المحبّة، أشياء جدّ شخصيّة كموت الأم أو الحبيبة، لكن هذا ما لا نجده هنا بصفته الشخصيّة، بل بصفته السرمديّة، كسؤال يتصاعد ويتوالد ويتحايث مع رغبة الشاعر في فتح الباب على مصراعيه لحرية لغة البوح الداخلي الأسيرة.

“كفّنوها عشر مرّاتٍ

مرّةٌ واحدةٌ ليست بكافيةٍ

………………

علّموها أن تبجّلَ هاتين العينين اللتين أذبلَهما السّهرُ والأرقُ والبكاءُ والكتابةُ”

من “مرّة واحدة ليست بكافية” ص49

في هذا المقطع، نرى مبدأ البناء الطبيعي من أسفل إلى أعلى، هذا التصاعد من رقة البوح والرجاء (علموها..)، صعوداً نحو تونة الكلام الغاضب (كفّنوها..)، وهذه هي الرقة، التي سيستند عليها غضبه القصير ولا يتساقط من الأطراف. هذا الأسلوب البنائي يكاد يكون شكّل البناء في جميع القصائد. ربما نحن بحاجة إلى أسباب أخرى لفهم توزّع “عماد فؤاد” بين الرقة والغضب.

أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال التالي: كيف لـ”عماد فؤاد”، الشاعر العاشق والرقيق، الذي كتب “حرير” قبل ثلاثة أعوام، كيف له أن يفكّر ليس بإطلاق الرصاص على المحبّة فحسب، وليس بابتكار طريقة واحدة للتنكيل بها فيما بعد، ولكن بـ”عشر طُرق للتنكيل بجثّة” المحبَّة؟

أقول، إن الشخصية المصرية بطبيعتها هي شخصية رقيقة وحالمة، هي تلك الشخصية اللانفعية والتي من خلالها أنجزت الأهرامات، مثلها مثل روحية البابلي في بناءه لبرج بابل. الهرم والبرج، هو نمط الروح الحالمة في سموّها وتعاليها عن أرضيتها نحو سماواتها. لكنها- الشخصية المصرية، بما أننا بصدد كتاب “عماد فؤاد”- ونظراً “لشدة العصر” أو العصور كما يقول “هايدجر”، فإنها أُجبرت على أن تغطّي نفسها الرقيقة الحالمة، بملامح سريعة الغضب والتوتر. إذن هذه الخاصية هي دفاعية في الأصل، وتشبه لحدٍّ كبير، السبب الذي يجعل من المكسيكي (حضارة المايا) أن يوسّع من قبعته القش، ليفوت الفرصة على المارة، من رؤية عينيه الحزينتين المقهورتين. وهنا فإن روحية التسامي عن الوجع الأرضي نحو سماوات وتجسيد هذا التسامي حسياً، هي عصب الإيمان القديم للثقافة الإنسانية، ولنقل عصب “المحبّة”، كثيمة للكتاب، وهي أيضاً جوهر الأديان التي كُتبت كل كتبها شعراً.

بهذا يمكن القول، إن “عماد فؤاد”، وكي يكون أميناً لشخصيته الرقيقة الحالمة، وبغضبها المتوتر الدفاعي، أنجز كتاباً شعرياً كما الصفعة لهذا العالم الذي يود الموت وجودياً وحُلمياً عبر تدنيس المحبة. راح “فؤاد” يجابه شدّة العصر بشدة الشعر، والعنوان بدا صادماً ومن اللحظة الأولى. خاصة وأن ثقافتنا تؤمن بأن “إكرام الجثَّة دفنها” وليس بـ”عشر طُرق للتنكيل” بها. لنتصوّر كذلك عصب ثقافتنا القديم، حيث أن إنسان الكهوف كان يدفن موتاه بالزهور كيما يبعد الغربان عنها، قبل أن يهتدي لفكرة الدفن داخل التراب.

“الرسولةُ أنا

يزرعونني في البساتينِ كي أنفثَ العطرَ

أُلقى على الجثثِ وفوقَ القبور

تُفرَطُ أوراقي فوق ماءِ الجميلة

قبل أن تتحمّمَ

ويقطفونني في الموتِ وفي المحبّة”.

من “وردة” ص127

وإذا ما أردنا فهم تلك الطرق للتنكيل بجثّة المحبّة، فعلينا فهم الشعور بـ”الأطلال” التي نتعثر بها ونقول إنّها روح المكان، فالكائن الوحيد، لا يمكنه تكوين كيان المحبّة دون الانتقال مع الآخر شعورياً / عاطفياً، نحو منطقة ثالثة هي المحبّة. لكن في حالات فشل المحبّة، تظل هذه المنطقة الثالثة كذاكرة في المكان على نحو الطلل، ونحن نمرّ بالمكان ونشعر بهذه الغابة الكبيرة من أطلال المحبّة فيه، فارغة موحشة ومهجورة أو مغتصبة، مقهورة. روح المكان تعبير طيب القلب عن كل تلك الأطلال التي نتعثّر بها، حين تفشل المحبّة بين الكائن والكائن، أو بين الكائن والله.

فن الكتابة العائدة

نحن نولد ونكبر ونتعثر على بلاطات بيت العائلة، ونكبر على بلاطات الرصيف ونتعثّر بين أيدي الرب والعشق، نتعثر في الانتماء والحلم. نتعثّر في عصب الإيمان بثقافتنا الإنسانية القديمة، نتعثر فيما يبدو بالحنين نحو إنتاج المزيد والمزيد من الإطلال، كلّما التقى الكائن بربّه وخالقه وتعثر هذا اللقاء، وكلّما التقى الكائن بالعشق. لذلك فإن تنقيب “عماد فؤاد” في هذه الأطلال المهجورة لن يجديه نفعاً، عليه أن يرتد ببضاعته نحو البيت الأول لطفولته، نحو حِجْرِ أمّه، كيما يتزود ببيت لن يتقوّض ولا يصبح أطلالاً، كما المثال الخالص رومانسياً، هناك في طفولته، حيث حلاوة أن يكتشف كامل الشِّعر والموقف من العالم والربّ والحياة والعشق:

“ورأيتُ صبايَ يعضّ طفولتي

ويجري ليختبيء كطفلٍ

بين قدميَّ”. ص11

“… أسقطُ من فوقِ تكعيبةِ العنبِ أمام دارِ جَدّي على حجرِ الرَّحى

ولا أبكي وجعي

لكنَّني

أبكي عنقودَ العنبِ الذي هرستْهُ يدي

وهْي تتَّقي سقوطي”.

…….

“شظيَّةُ الخشبِ التي اخترقت لحمي

تحتَ الظِّفرِ تماماً

كلّما حاولتُ نبشها بإبرةِ الذّاكرة

أهلكني الألم”.

من “شظيّةُ خشب” ص15

أليست هذه هي الكتابة العائدة حدّ اللقاء بالبواكير، حيث بلا وعي ننجز لغة بوحنا الداخلي كما الخرس، والتي هي اكتشاف الجمال. لكن السؤال هنا هو، ماذا كان “عماد فؤاد” يفعل فوق تكعيبة العنب؟ أليست هي الكتابة العائدة حيث وكأنّ الكتاب كلّه أُنجز بوعي اللحظة التي سقط خلالها الشاعر من تكعيبة العنب وهرس عنقود العنب وأسفه على هكذا تضحية. هنا بودي أن أقول إن الطفل هو كائن رائحة، مضمّخة بالشعور الديني والذي هو الشعور الإيروتيكي الخالص، أكثر من أية مرحلة لاحقة سوف تكتنف نضجه وروحانيته. لذلك فإن الكتابة العائدة هي الغرف من هذا الكيان المُضمخ، المبكر/ الطفل، المتضمّن لدى الكائن البالغ وهو الشبيه الموازي لوحدة العالم لديه.

رحمن النجار

ألمانيا