الميزان بقلم : راوية وادي

فن وثقافة …
بقلم : راوية وادي – فنانة فلسطينية تقيم في كندا …
طيبُ القلبِ حلو المعشر، و على قلبِ والديهِ حلوٌ كقطعةِ سكرْ، مروانُ الذي بلغَ الثامنةَ عشرةَ من العمرِ، و لم ينجحْ في عملٍ و لا دراسةٍ، ففتحَ له والدهُ متجر. تذمرَ أخواه من غباوتهِ و عدمِ قدرتهِ .. أيِّ صنعةٍ يتقن؟ هما شاهينُ الحدادُ الشديدُ المحترفُ الدقيق، الذي يلينُ معه الحديد، كما يلينُ في يدِ العجانِ الدقيق، و حاتمٌ النجارُ الرشيقُ الأنيق، صناعتهُ الأنيقةُ الراقيةُ بالقصورِ تليق. كانا مضربَ المثلِ في الفنِ و الإحترافِ، و لكنِ المديحَ كان يذكرهما دومًا بفشلِ و غباوةِ أخيهم مروان، و هو أمرٌ صعبُ النكران.
أرسلَ الملكُ في المدائنِ، يطلبُ كلَ محترفٍ متقنٍ لعملهِ، ليساهمَ في بناءِ قصرٍ مشيدٍ من حجرِ الجبلِ و الحديد، و أثاثٍ من خشبِ سنديانٍ و صنوبرٍ عتيد، و لمنَ أحسنَ العملَ المالَ الكثير، ومن رضا الملكِ المزيد. شدَ الأخوان الرحالَ بلا ترددٍ …. و تركا والديهما العجوزين مع مروان، و قالا لهما: هو أولى برعايتكُما …. كما كانَ دوماً أولى بدلالكِما و عطفِكما. وصلَ الأخوان كما وصلَ غيرهم، و كان استقبالهم استقبالَ العبيد ، و في ثكناتٍ مبيتهم، و لا تطأ أقدامُهم شبراً عن مكانِ البناءِ بعيد.، و في نهايةِ كل يومٍ يزدادُ المالُ، و يطولُ البناءُ، و لكنَ الملكَ كلما استحسنَ العملَ …. طلبَ المزيد. مرتْ السنواتُ الثلاثُ الأولى، و لكنَ العملَ لم ينتهِ، و اشتهتْ أنفسُ الرجالِ رؤيةَ الأهلِ و العيال، و إزدادتْ رغبةُ النفسِ لصرفِ المالِ في متاعِ الدنيا الذي شغلَ البال. و تساءلَ الأخوان من حينٍ لحينٍ يا ترى ما آلَ إليهِ حالُ العجوزين ؟ و تبادلا الضحكَ كثيراًمن توقعِ … و تخيلِ حالَ الغبي مروان ، و ما قدْ يكونُ غيرِ فيه الزمان.
مرتُ الأيامُ … و مروانُ يسألُ نفسَهُ بعدَ غيابِ أخويهِ، لم لا يحسنُ صنعاً ولم يتقنُ عملاً … و لا يعرفُ كيفَ ينجزُ أمراً؟ كانَ لا بد َمنِ الإعترافِ و الصراحةَ. أحبَ الراحةَ و إستغلَ طيبَ و حنانَ والديهِ له، و أتعبهُ نقدَ و سخريةَ أخويه، فتركَ لهما كلَ الأمورِ ينجزانها بإتقانٍ … و بأقلِ كلفةٍ و أقصرِ زمان. قالوا الحاجةُ أمُ الإختراعِ، و لكن مع مروان الحاجة .. تعني الضياعُ، و أحوجته لصدقِ النصيحةِ و حسنِ الإستماع.
كان يسندُ والدَهُ بيديهِ، يأخذهُ كلَ يومٍ إلى الدكانِ، يستمعُ لحلوِ حديثٍ حرمَ نفسهَ منه عمراً و زمان، و تعلمَ منه كيفَ يخاطبُ الناسَ، و كيف يبيعُ و يشتري بصدقٍ و بأفضلِ الأثمانِ …و لكن العمرَ ميقات….. رحلَ العجوزُ و كلهُ شوقٌ لرؤيةِ شاهينَ و حاتم، و قلبهُ عن مروانٍ مطمئنٍ و راضٍ. مرضتُ الأمُ و سألتْ مروانَ أن يتزوجَ لتفرحَ برؤيةِ أولادهِ، و ليؤنسوا وحدتها ، كان شديد البر بوالدته، َو حقق أمنيتها فتزوج، و رزقَ مروانُ بطفليينِ أسماهما شاهين و حاتم.
مرتْ ثلاثُ سنواتٍ أخرى … رحلت العجوزُ و ليسَ في قلبِها أمنيةٌ سوى رؤيةِ شاهين و حاتم، و قلبِها على مروانٍ مطمئنٍ و راضٍ. أتتْ القوافلُ بالأحمالِ و المالِ و الخيلِ و الجِمالِ، و تسابقَ الناسُ لرؤيةِ المحظوظين من الرجالِ. تغيرتْ ملامح ُالمدينةِ كما تغيرتْ ملامحُ الوجوه. و حلَ على الدنيا ضيوفٌ جددٌ ،و رحلَ غيرهم الى غيرِ بيوت، و غابَ عن الأرضِ رجالٌ لطالما زرعوا و قلعوا… و حاربوا بالسيوف. جلسَ شاهينُ و حاتمٌ في مجلسٍ منيفٍ، يحكونَ و يصفونَ القصرَ و الحديقةَ، و رضا الملكُ و عنايتهُ بهم، و يظنُ الحضورُ أنها الحقيقة. و حانَ موعدُ الصلاةِ، فنهضَ مروانُ قاطعاً لحديثِ أخويه الشيقِ ….الذي أنسى الناسَ أنَ وقتَ الصلاةِ ضيقٌ. نهضَ الجمعُ بلا ترددٍ …. قال لهُ أخواه بغضبٍ و غرورٍ: أفي نفسكِ غيرةَ يا أخانا، أنَ الله ميزنا بكرمهِ و أعطانا. ردَ مروانُ بهدوءٍ و طيبٍ نفس: بل وصيةٍ من أبينا.. لقد أوصاني بالصلاةِ على وقتها و دونَ الرقابِ السيفِ، و الرزقُ مكتوبٌ، و آتٍ لا يدري الرجلُ منا متى و كيف.
هذا ليس مروان الغبي قليلُ الحيلةِ الذي عرفوه. بيتهُ سعيدٌ و دكانهُ ممتليءٌ بالزبائنِ كأنها ليلةُ العيدِ، وحبُ الناسِ و احترامهمُ لهُ شديد. لم يستطيعا تمالكَ نفسيهما من الغيرةِ و الفضولِ، فسألوهُ ما السرُ يا مروان؟ قالَ: كنتم تسعون للكمالِ و الإتقانِ، و نسيتمْ أني بشرٌ و إنسان، فسارعتم لإظهارِ فضلكم عليّ …. و تركتموني بلا علمٍ و لا عملٍ، و قد سكنَ قلبي الإحساسُ بالقصورِ و النقصان و الفشل. أخذتكمُ الغيرةُ و الحسدُ من رعايةِ والديّ و عطفهما لأني كنتُ نكرةً، و كانَ لكمُا كلَ المديحِ و العرفان. رحلتمُ و تركتم ليّ كنزاً لو أدركتموهُ لما خطوتمُ خطوةَ بعيداً عن هذا المكان. تسمرتْ عينا الأخوين من الدهشةِ و الاستغرابِ. و لكن بنظرةٍ حزينةٍ و مشفقةٍ قال مروان: هو برُ والديّ و رضاهما مفاتيحُ الرزقِ و السعدِ… أخذَ كلٌ منا ما سعى اليه،و إن اللهَ هو العدلُ و الميزان