عبد الله الإسباني قصة قصيرة بقلم : / ماجد عاطف

القصة ….
بقلم : ماجد عاطف –  فلسطين المحتلة …
الإسباني في منتصف العمر، مالك سابق لشركة أثاث وخريج الاقتصاد الذي تسمى بعبد الله، حين سافر إلى محضرة في موريتانيا ليتعلّم فيها من الكتب الأصلية المحفوظة جيداً والألواح وتفصيل المشايخ البعيدين عن البدع؛ عاش سنوات في الظل بقطيع صغير من الغنم يرعاه على تخوم الصحراء، ثم أسلم؛ سألوه عندما عاد إلى مدريد عن سبب إسلامه.
كان في مقابلة تلفزيونية. لملابسات سياسية اتهم بالإرهاب واعتقل دون أن يثبت عليه شيء في المحكمة التي أفرجت عنه، ونشبت ضجة اجتماعية وصار تحت الضوء، يحاولون الحصول منه على تصريح أو أي شيء يكشف طبيعته ويستفيدون هم من المناسبة الصحافية، للانتشار. كانت لديه أسبابه ليدافع عن نفسه، ومنها الدعوة. لكنه تأخّر في الجواب.
يستطيع أن يحدّثهم بالكثير.. تحلل المجتمعات والأسر وقتل المجموع كما الفرد. يمكنه أن يسهب في سيطرة الربا على الاقتصاد الحر –أو المشاع للشمولي- وكيف أنه يحوّله لوحش استعماري معولم يلتهم كل ما له قيمة عند الشعوب خاصة الاقتصادات الضعيفة. العلوم التطبيقية التي صارت رباً من دون الله يعبدها المتعلمون وتستخدم في استعباد الخلق وقتلهم، مع أنها مجرد أدوات لا وزن لها أمام قدرة الله ومعجزات أنبيائه. عبادة النفس وشهواتها من جنس وخمر ومخدرات. الضياع الفكري/ النفسي وعبادة أفكار وشخوص بشرية لا بد لها أن تتحطم، في لحظة ما. ادّعاءات وفلسفات وعلوم تخضع للتزييف أولا بأول. كذب عام سمة أديان ومعارف وكُتب وجامعات وأفراد وكل شيء. عدم فلسفي للوجود ولا فهم للغاية منه ولا كيفية التعامل معه.
سيخفي، طبعا، صلة “رهبانية” عاشها لا يحسن الإشارة إليها، كيلا ينكشف نفره السرّي من موريتانيا إلى بلدان مستضعفة بجوازات سفر مزوّرة، والعلاقات والمهمات (وكلّها الضمانة الوحيدة كيلا يحيد العبد عن طريق ربه أبدا، في الضعف والقوة على حد سواء)، ثم تنعقد ضده أركان تهمة يتبعها قتل وسجن وتنكيل والأخطر تقييد للحركة.
كانت حيرته التي استغرقت برهات تتكشّف أمام عدسة كاميرا تسجل انفعالات وجهه لحظة بلحظة. قرر أن يكون صادقا وبسيطا وأن يترك الأشياء الأخرى المعقّدة تثبت صحّتها مع الوقت. فكّر في عائلته، سببه الأول، ثم أجاب:
-قرأت في مدريد وأنا أتصفح كتابا ما، ترجمة لآيتين من القرآن الكريم: “يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه..” وفي آية أخرى: “.. وعشيرته التي تأويه”. (ترجم معنى الآيتين إلى الإسبانية، ثم تلاهما بعربية فصيحة تكاد تخلو من لهجة).
وأضاف بحزن:
-عرفت من التفسير أنهما تتكلمان عن يوم القيامة، ولكني شاهدت هذا اليوم مصغّرا، بعينيّ، في حياتي، فتأكدت أنه واقع على نحو أشد، لا محالة. لم يكن أمامي إلا الله.
-هل لنا أن نسألك عن أسرتك؟
أجاب بحدّة كشفت حساسياته:
-لا!
احترم المحاور رغبته على مضض، فسأله عن مشاريعه المستقبلية.
تبسّم عبد الله الإسباني. تذكّر من تذكّر وتتصف بالعمق والبساطة والبراءة والوفاء، ابنة شيخ من مشايخه، يمكنه أن يعقد معها عائلة عندما يسافر إلى موريتانيا، إذا وافق أبوها. لا حياة معاصرة ولا تعقيدات أو متطلبات مرهقة ولا انحرافات أو صرعات. حياة يثق بضوابطها وحقوقها وواجباتها، وكيف تكون تفاصيلها دون تخبط فكري. قطيع الغنم يكفي للعيش، وغرفة من لبن أو حتى خيمة- كالتي أعلن إسلامه من أمامها- تفي بالغرض.
لم يستطع منع نفسه من القهقهة وهو يجيب:
-قد أسافر ثانية إلى موريتانيا وأتزوج!