سخرية كالبكاء …
وليد رباح – نيوجرسي ….
كنا ايام زمان .. وفي بلادنا التي كان التسامح الديني فيها يصل الى حد الاخوة .. نفرح عندما نرى قسيس القرية بلباسه الاسود الثقيل .. وقلنسوته التي تشبه طاقية الجيش الفرنسي ايام نابليون .. وفرحنا يأتي سريعا لان القسيس كان يحمل في جعبته الوانا من ( الحامض حلو) وانواعا اخرى من التوفي والملبسات .. وما ان يرانا في عيد الاضحى او رمضان .. حتى يتبسط معنا ويسلينا بقصصه الطريفة ويعطينا شيئا مما تحمل جيوبه ..
وفي الدير الذي كان مقاما على اطراف قريتنا جاوره( علي اليتيم) الذي عاش مع امه وحيدا بعد رحيل والده الى ربه .. فكان قسيس الدير يفتقدها بانواع من الهدايا وبعض المأكولات لكي تستعين بها على تربية ( علي) ذي السنين العشر .
الا ان ما كان يزعج ( ابانا القسيس) ان عليا كان سليط اللسان بعيدا عن التحدث بادب بعدنا عن المريخ .. فما ان تكلفه امه بشىء حتى يبدأ لسانه ( بالغلط) وكان القسيس يأتي اليه ويباركه ويضع يده على رأسه ويتمتم بآيات من الانجيل .. ولكن علي ظل على حاله بل بالعكس .. ازدادت الشتائم والمسبات والكلام الرذيل والعفرته ..
وفي يوم فكر القسيس بهذا الشقي وذهب الى امه وقال لها : يا ام علي .. اريد ان آخذ عليا الى الدير لكي يعمل عندنا .. ضربت ام علي يدها على خديها وكادت تلطم وقالت : يا خيبتي .. بدك تسوي ابني مسيحي .. فقال لها القسيس : يا ام علي .. المسيحيون لا ينقصون واحدا لكي يكتمل دينهم بعلي .. اريد ان يتعلم بعض العادات الجميلة .. واهمها ان لا يسب الدين .. اي دين .. وان لا ينحرف لسانه الى الغلط .. لعل وعسى ان يثيبنا الرب على حسن صنيعنا ..
ثم ان عليا اشتغل في الدير .. ومنذ اليوم الاول وضع القسيس تحت لسان علي حجرا صغيرا ذا اطراف مسننة ليمنعه من الكلام قائلا له : يا علي .. اذا تفوهت بكلمات غير مؤدبة او سببت الدين فان الحجر سوف يجرح لسانك.. وهكذا مضت الايام وعلي يحافظ على حسن الكلام فلا يلفظ قبيحا .. وهكذا وبعد مرور بعض الوقت اصبح ( علي ) يد القسيس اليمنى .. فيكلفه بمهمات يقوم بها دون ان يلهج لسانه بالغلط .. وكان (علي) يذهب الى امه في المساء مثل القطة الخائفة .. ويتحدث معها بهدوء وأدب لم تعهده من قبل ..
وجاء عيد الفصح المجيد .. فاصطحب القسيس عليا الى القرى المجاورة لمباركة الناس وزيارتهم في بيوتهم .. وكانت ( الحصوة ) لا تزال تحت لسان علي ..
ولفحهما حر النهار وهماينتظران الحافلة العتيقة على جوانب الطرقات .. الا ان ذلك لم يمنع من ان يذهب ابونا القسيس لزيارة الناس في منازلهم والسلام عليهم .. وهكذا ما ان انقضى النهار حتى كان الجهد قد بلغ منهما مبلغا عظيما .
وقف القسيس وعلي يجففان عرقهما تحت ظل زيتونة على جانب الطريق انتظارا للحافلة في طريق العودة الى الدير .. وطال الانتظار وازداد العرق منهما تصببا ..
وفي غضون ذلك .. سمعا صوتا لامرأة ينادى القسيس باسمه .. فنظرا فاذا بها في اعلى الجبل تقف على باب بيتها وتطلب الى القسيس ان يأتي اليها مع الصبي في امر هام .. وحاول القسيس من خلال الصراخ ان يسألها عما تريده .. فالجبل عال وشمس النهار حارة وربما انقضت نصف ساعة قبل ان يصلا اليها فتمر الحافلة .. وهكذا يقضيان ليلهما بين كروم الزيتون فصاحت المرأة .. لن يستغرق ذلك طويلا يا ابانا .. فقط اصعد الى بيتنا ..
ضرب القسيس كفا بأخر وقال لعلي .. دعنا نصعد اليها .. فربما كانت بحاجة الى المساعده .. وهكذا بدأت رحلة الصعود الى اعلى الجبل .. وما ان وصلا بعد نصف ساعة من الزمان حتى هدهما التعب .. فجلسا عند عتبة البيت وهما يلهثان ويلتقطان انفاسهما ..
ومن خلال تتابع انفاسهما سأل القسيس المرأة : ماذا تريدين يا ابنتي : قالت المرأة : يا ابانا .. لقد مررت علينا قبل مدة فباركت البيت والاولاد .. ولكنك نسيت ان تبارك ( قن ) الدجاج عند عتبة البيت ..
نظر علي الى وجه القسيس بشىء من الشماتة وابتسم.. وتنقل نظر القسيس بين علي والمرأة ثم قال لعلي بحده : هل لا تزال الحصوة تحت لسانك ؟ قال علي : نعم يا ابانا .. قال القسيس : ابصق الحصوة وهات اسمعنا انغامك السحرية .. ففي مثل هذه المواقف لا يجوز ان تظل الحصوة تحت لسانك ..