“انقطاعات الموت”: رواية “خوزيه ساراماغو ترجمة صالح علماني، وتقديم نصر سامي – بقلم : مهند النابلسي

اصدارات ونقد ….
عرض : مهند النابلسي – الاردن …
ملحمة ساخرة وناقصة في مديح الموت “الناعم”!
*من أين ياتي ساراماغو بكل هذه القدرة على التحقير من شأن الكائن؟
*يستعمل فيها ساراماغو “علبة أدواته” كلها مرة واحدة. ويغرس فؤوسه الحادة في لحم الحضارة الفاسد.(ص.6)
*يطرح هذا الكتاب اسئلة لا حصر لها في علاقتنا بالزمن. فاننا نموت دائما في الأخير…فماذا لو توقف الموت عن قتلنا، وما معنى الموت اصلا؟ ولماذا يتوقف الموت في الرواية عن القتل؟ حيث لا نجد لمدة الأشهر السبعة التالية في اي مكان اي ذكر لوفيات، فالناس كالعادة في حظيرتهم هادئون، ولاشيء يدعو الى الذعر…لكن الأسئلة تتعمق، والناس يدخلون تدريجيا في القلق، وتبدا الحكومة في الخوف وفي محاولة البحث عن الحلول لهذه المآساة الضاغطة، “فالحبل يحيط بعنقنا”، تقول احدى الشخصيات.
*تقرأ صرخة احدى الشخصيات: “ماذا سيحل بنا الان؟”، وتشعر بأن الموت كان رحيما بنا وهو يصبغ حياتنا باحاسيس متنوعة منها الفقد ومنها الشوق ومنها الأسى، وتتحسر على نعمة الموت حين كان هناك اناس يموتون.
*تسيطر على الناس رغبة قتل أقاربهم ممن تقدم سنهم، يضجون بخلود العجزة، يتساءل بعض الأبطال “الموت افضل من هذا المصير”.
*يخترق ذهنك صراخ الكائنات، “الموت افضل”، لا اريد ماء، اريد أن اموت”، يمد لسان الزمان سمه الى اوردتك، وتتمنى الموت مثل ابطال “ساراماغو”.
*تعتبر هذه الرواية من مراثي الموت الكبرى في تاريخ السرد، حيث يصبح الموت فيها منتهى آمال الناس وغاية غاياتهم، يقول أحدهم: “اذا لم نمت، فلا مستقبل لنا”، يضجون بخلود لا يفهمونه، وبجنة هي صورة اخرى لحياتهم البائسة، فيهرعون الى الجحيم المحيط بهم حيث ما يزال يؤدي وظائفه ذاتها، حاملين آباءهم المسنين وامهاتهم ومرضاهم ليموتوا.
*”يجب ان نموت لكي تستمر الحياة”.
*سأسأل جلالته ما الذي يفضله، رؤية الملكة الام محتضرة الى الأبد، ممدة في فراشها الذي لن تعود الى النهوض منه، بينما الجسد الدنس يحتجز روحها دون وقار، ام رؤيتها تفوز في موتها بمجد السموات الأبدي المتألق.(22)
*ما الذي سنفعل بالمسنين اذا لم يعد الموت موجودا ليقطع عليهم ولعهم المفرط بالحياة المديدة.
*واذا كنا نتفلسف فلأننا نعرف أننا سنموت.(40)
*أما نحن فسوف ننشغل بالأحياء، سوف ننظم، على سبيل المثال، فرق نفسانيين يساعدون الأفراد على اجتياز صدمة العودة الى الموت بعد أن اقتنعوا بأنهم سيعيشون الى الأبد.(ص.114)
*وفي الساعة الثالثة والعشرين وخمسين دقيقة اصيب رئيس جمعية وكالات الدفن باحتشاء في عضلة القلب، ومات مع دقة الناقوس الأخيرة في منتصف الليل.(117)
*فاذا علمنا أن البلاد التي يحدث فيها هذا كله، تضم حوالي عشرة ملايين نسمة، وان معدل الوفيات يصل الى عشرة بالألف تقريبا.(119)
*وهاهم الآن قد ماتوا، واخرجو من هناك ودفنوا، وصار هواء المستشفيات نقيا وبلوريا، يعبق بذلك الشذى المعروف من “الأثير واليود والكريولين”، كما في الجبال العالية، وتحت السماء المكشوفة.(ص.129)
*ومع ذلك، سيكون هناك من يستبق فيرى انه ربما لن تكون فكرة سيئة أن ترفع سن الموت التاميني الى الخامسة والثمانين، وحتى الى التسعين، باستغلال حياة الاضطراب المخيمة على المجتمع الذي هو الآن، أكثر من اي وقت مضى، محشور بين السيف والجدار.(ص.130)
*فقد كانت مقتنعة منذ البداية بأن “ابطال الموت” لا يمكن له ان يكون الا من عمل الشيطان.(133)
*عزيزي السيد، يؤسفني اخبارك ان حياتك ستنتهي خلال مهلة اسبوع التي لا رجوع عنها وغير القابلة للتمديد، فاستغل بأفضل ما تستطيع الوقت المتبقي لك، خادمتك المخلصة، “موت”.(137)
*تقدم التقاليد الشعبية الموت على هيئة هيكل عظمي لامرأة تحمل منجلا طويل الذراع.(137)
*واصلت المغلفات البنفسجية الوصول الى بيوت المرسل اليهم، وكان واضحا أن الموت لم يتراجع عن التزامه للبشرية.
*الحقيقة أنه لا وجود في الدنيا لما هو أشد عريا من الهيكل العظمي، ففي الحياة يكون مكسوا بكسوة مزدوجة، اولا اللحم الذي يغطيهن وبعد ذلك الملابس التي يجب أن يغطى بها ذلك اللحم، الا عندما يخلعها للاستحمام او لممارسات اكثر متعة.(158)
*أما الموت، هذا الموت المخصص للجنس البشري حصرا، فلا يرفع عينيه عنا لحظة واحدة، لدرجة أن من هم غير مؤهلين للموت يشعرون بأن نظراته تلاحقهم طوال الوقت.(160)
*جميعنا نبدو لعيون الموت قبيحون بالطريقة نفسها، حتى في الوقت الذي كنا فيه ملكات جمال او ملوك ما يعادل ذلك بصيغة التذكير.(ص.186)
*لقد كتب أحدهم ان كل واحد منا هو الحياة في اللحظة الراهنة، اجل، في اللحظة الراهنة، وفقط في اللحظة الراهنة، انني راغب في أن يتضح كل هذا التشويش، فقد تعبت من الأسرار الغامضة.(218)
*آخر فقرة: كان عود ثقاب بسيطا، عود ثقاب عاديا، عود ثقاب كل يوم، هو الذي اشعل رسالة الموت، هذه التي لا يستطيع أحد اتلافها، عادت “موت” الى الفراش، احتضنت الرجل، ودون أن تدرك ما الذي كان يحدث، هي التي لم تنم قط، احست أن النعاس ينزل جفنيها ببطء، وفي اليوم التالي لم يمت أحد.(ص.228)
وبعد فقد قارب “خوزيه ساراماغو” في هذه الكتابة الروائية المدهشة مع مفهوم الموت “الناعم القدري” الذي يأخذ ارواح العجائز الهرمين والمرضى الميؤس من علاجهم او الذين يموتون بغتة بأمراض فجائية، حتى أن “الموت” بدا كامرأة قد دخلت أخيرا في علاقة عاطفية مع عازف “الفيولنسيل” المبدع (في آخر صفحات الرواية)، كما تعاطفت مع ابداعه الموسيقي وحياته اليومية وكلبه الوديع ولاحقته وراقبته متعاطفة، فألغت مشروع موته وأحرقت الرسالة الارجوانية المرسلة له، بل ونامت وتعرت معه في حجرة النوم، بعد أن قدمت اليه فمها(ًص.227/228)، ولم يتطرق الروائي المبدع ولو تلميحا لقصص خبرات ما بعد الموت مباشرة التي تحدث عنها بعض الذين مروا بتجربة الموت مؤقتا، ومؤخرا شاهدت فيلما أمريكيا يعبر بمبالغة عن هذه الحالات، حيث يقوم اربعة اطباء باماتة انفسهم طبيا بقصد ثم يتم انعاشهم، ليتحدثوا جميعهم عن رؤيتهم للنفق والضؤ الأبيض ومشاهدتهم لجثتهم وحولها الآخرين، وبالغ هذا الفيلم “الفنتازي” وعنوانه “فلات لاينرز” وادعى تملك هؤلاء العائدين من الموت لمواهب “مشاهدة الأشباح واكتساب مواهب جديدة مثل العزف الموسيقي وزيادة القدرات العقلية”…كما تجنب الروائي الشهير الخوض في قصص الموت “الصعبة والمرعبة” وأساليب القتل الشنيع المتنوع، فتجنب الحديث عن عمليات الاعدام والتعذيب والحرق وقطع الرؤوس واطلاق الرصاص عشوائيا و”حوادث العمل والسير” وتفجير السيارات والبشر والمساجد والكنائس والمدارس والأسواق والمباني والساحات والأزقة فوق رؤوس اصحابها، كما تجنب الحديث عن المجازر والحروب والكوارث الطبيعية كالزلازل والطوفانات والتسونامي والانهيارات الأرضية (ربما لأن شخصية “الموت” المبجلة ستكون مشغولة جدا حينئذ بأخذ ارواح الضحايا بشكل سريع وكاسح لا يسمح بالتأمل والهدؤ وبارسال “الرسائل” الارجوانية المزوقة)!، لأنه لم يرد كذلك ان يخوض في كل هذه الكوارث ولا بتداعيات قصص العصابات والمتطرفين والطائفيين الحاقدين والمجرمين وعسكرة الجيوش والميليشيات ومشاريع “الجيوبوليتيك” المرتبطة باشاعة الفوضى “الخلاقة واللاخلاقة” وتقسيم الدول والمناطق، ولم يرد أن يدخل في متاهة “الرأسمالية المتوحشة والفاشية الدينية والعنصرية” التي تعبث جميعنا بعالمنا التائه، كما بعمليات تجارة السلاح المشروعة وغير المشروعة، لأنه يعرف أنه سيدخل عندئذ في متاهة مرعبة ومتشعبة قد لا يعرف ولا يستطيع ابدا الخروج منها، ولا أعرف حقا ان كان تجاهله “ايجابيا او سلبيا”، لأنه غفل جانبا هاما من جوانب الموت اليومية “الكاسحة” التي تضرب بلا رحمة كوكبنا الأرضي البائس!
مهند النابلسي/كاتب وباحث وقارىء/  mmman98@hotmail.com