وعد بلفور والتعهد بارتكاب الجريمة 1\3- بقلم : منير شفيق

دراسات …
بقلم : منير شفيق – الاردن …
حُمِّل “وعد بلفور” من قبل كثيرين أهمية أكثر مما يستحق. فهو ليس الالتزام البريطاني الأول بإقامة كيان، أو دولة، أو “وطن قومي لليهود” في فلسطين. وهو ليس البداية، ولا الأصل، فقد جاء ضمن سياق سابق، وعبّر عن مرحلة جديدة في ذلك السياق. ولهذا أخطأ البعض في اعتباره محصلة مساعٍ ومخططات صهيونية نجحت في “إقناع” بريطانيا عام 1917 بإصدار هذا “الإعلان”، أو هذا “التعهد”. من ثم ما تبعه من تبنٍ بريطاني للمشروع الصهيوني في الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيلاء عليها وتهجير ثلثي سكانها من العرب المسلمين والمسيحيين، وإقامة “دولة إسرائيل” عام 1948.
إن تفسير صدور “وعد بلفور” بما قامت به الحركة الصهيونية من دسائس ومؤامرات وضغوط ومغريات يشكل ابتعاداً عن الحقيقة. لأنه جاء في سياق استراتيجية بريطانية دأبت على تبني زرع كيان يهودي في فلسطين قبله بسبعة وخمسين عاماً. وقد تواصلت بلا انقطاع طوال هذه المدة. وعندما اقتربت نهاية الحرب العالمية الأولى أطلقت بريطانيا “وعد بلفور”. وذلك بعد أن هُزمت الدولة العثمانية عملياً وأصبحت الجيوش البريطانية على الأرض العربية قريبة من احتلال فلسطين. فتوقيت صدور وعد بلفور جاء مع توقيت اتفاقية سايكس-بيكو، وكلاهما جاءا مع انفتاح البلاد العربية من المحيط إلى الخليج لتصبح تحت حراب الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
فوعد بلفور وما تلاه من تنفيذ له كان ضمن سياق استراتيجية استعمارية بريطانية، وضع قواعدها الأولى وزير خارجية بريطانيا هنري بالمرستون الذي قاد توحيد أوروبا عام 1840 للإطاحة بالدولة العربية الكبرى التي بناها محمد علي. وقد شملت مصر والسودان والجزيرة العربية وفلسطين ولبنان وسورية وصولاً إلى الأناضول. وكاد يسيطر على الآستانة عاصمة الدولة العثمانية.
كانت تجربة محمد علي الكبير الذي أفلت من الطوق وشبَّ عليه، مريرة بالنسبة إلى بريطانيا إذ كاد أن يسيطر على الدولة العثمانية بزعامته التجديدية الإنهاضية، أو في الأقل يبني دولة عربية كبرى شملت وحدة غالبية الدول العربية المشرقية. وقد أرفق ذلك بنهضة علمية وصناعية وعسكرية حداثية. فمثلاً بنى جيشاً “نابليونياً” مستعيناً بعدد من جنرالات نابليون بعد هزيمة الأخير في 1815. الأمر الذي أصبح معه القوة الرابعة أو الخامسة عالمياً.
ولهذا لم تستطع بريطانيا القضاء عليه، ووقف المد العربي الذي مثلته مصر بقيادة محمد علي إلاّ بعد أن وحّدت أوروبا كلها ضده: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا لتطيح به عسكرياً عام 1840.
فغي السنتين 1839-1840 تبلورت في ذهن بالمرستون، أو في الأدق، في ذهن استراتيجيي القيادة البريطانية ضرورة وضع حاجز بشري (عسكري) غريب في المنطقة يشكل حاجزاً بين مصر وتكرارها لتجربة محمد علي. فكان أمامهم اليهود ليوكَلوا بهذه المهمة (الوظيفة). وقد اتجه بالمرستون وصهره شافستري في البداية إلى محاولة تنصير اليهود ثم إرسالهم إلى فلسطين. ولكن تبين بعد عقد من السنين بأن محاولة التنصير بطيئة جداً وستأخذ جهداً كبيراً لصعوبتها. فتقرر أن يكون المشروع يهودياً خالصاً. وهو ما أصبح الاستراتيجية البريطانية منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن التاسع عشر.
إلى هنا لم يكن مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة تيودور هرتزل قد ولد بعد. فمولده كان 1860. ولهذا عندما كتب كتابه “الدولة اليهودية” 1896، كانت بريطانيا قد تلقفته وحولت اتجاهه إلى فلسطين بدلاً من أوغندا أو الأرجنتين أو أية منطقة في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية (تكون وفيرة المياه وغنية بالمعادن وشاسعة وضئيلة السكان). فموضوع فلسطين كان خارج كل حساب بالنسبة إلى المهتمين بحل مشكلة اليهود في أوروبا. وذلك بسبب وجود الدولة العثمانية في حينه وبسبب اصطدامه بالشعب الذي يسكن فلسطين وبأشقائه الشعوب العربية والإسلامية.
بالمناسبة كانت الدولة العثمانية قد سقطت عملياً عندما وصل جيش محمد علي إلى الأناضول، وأصبح على أبواب الآستانة. وذلك بعد أن أنزل الهزيمة العسكرية في الجيش العثماني في معركتين كبريين حسم الأمر ببضع ساعات في كلٍ منهما. وكانت الآستانة العاصمة قد وقعت في قبضة الجيش الروسي الذي استدعاه السلطان محمود الثاني لحمايته في وجه الجيش المصري (العربي) الذي كاد يدخلها بلا عناء تحت ترحيب سكانها به.
فالدولة العثمانية أصبحت عملياً في أيدي بريطانيا وروسيا وعدد من الدول الأوروبية في حالة انهيارها وحلول أوان وراثتها أو تقسيمها بين الدول الكبرى. ولهذا تحولت استراتيجية بريطانيا منذ 1840 (بل قبل ذلك) إلى الحفاظ على الدولة العثمانية (ضعيفة مريضة جاهزة للسقوط) لبينما تحدث متغيرات في ميزان القوى تبعد روسيا وبروسيا (ألمانيا) والنمسا من المشاركة في تقسيم أراضيها. وهذا ما أخّر “وعد بلفور” إلى 1917. وذلك بعد أن تحققت بريطانيا من نتائج الحرب العالمية الأولى بأن حصة الأسد ستكون لها بمعظمها مع شراكة فرنسية في السيطرة، كما عبّر عن ذلك اتفاق سايكس-بيكو، محصورة بسورية ولبنان، في المشرق العربي كله.
فقط القيادات الاستراتيجية البريطانية كانت ترى عسكرياً إمكان وراثة الدولة العثمانية وزرع الكيان اليهودي في فلسطين. فالمسألة ليست مسألة خيارات أيديولوجية أو تفضيلية بين مكان وآخر. لأن القول الفصل هنا لموازين القوى، ولمستقبل الحسم العسكري والهيمنة العالمية بما فيه الهيمنة على العالم العربي- الإسلامي.
فبريطانيا بعد أربعين عاماً من قرارها بإقامة الحاجز اليهودي بين مصر والمشرق العربي حضّت هرتزل وعدد من القادة اليهود للتوجه إلى فلسطين متعهدة بأن تؤمن ذلك من الألف إلى الياء. فبريطانيا هي من ولّد المشروع الصهيوني المعاصر الذي تشكل عالمياً في مؤتمر بازل 1897.
ومن هنا يجب أن تسقط كل الهالة التي راحت تُعطى للحركة الصهيونية العالمية المعاصرة حتى قبل أن تولد، فيما هي منذ تشكلها الأول وانطلاقها من مؤتمر بازل مصنوعة لا صانعة، مروراً بوعد بلفور، وانتهاء بإقامة دولة الكيان الصهيوني 1948. فالفضل الأول والحاسم كان لبريطانيا. ولعل ثمة استثناء هنا وهو الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية العالمية في تغيير استراتيجية الاتحاد السوفياتي لتبني قرار التقسيم 1947، ليدعم إقامة “دولة إسرائيل” عام 1948. وذلك بمبادلته بأسرار القنبلة النووية الأمريكية عبر الزوجين روزنبرغ اللذين أدينا وأعدما، بعد أن ثبت عليهما نقل تلك الأسرار عام 1947.
إن الحركة الصهيونية العالمية ولدت بأحضان الاستراتيجية البريطانية وترعرعت واشتد عودها في تلك الأحضان. ولم تبدأ بالخروج عن الطاعة إلاّ مع مؤتمر بالتيمور 1943. عندما نقلت مركزها الرئيس إلى أمريكا تحت ظل الطائرات النازية التي كانت تقصف لندن. ولكن بعد هذا الانزياح ظلت الأمور تحسم، بعد الحرب العالمية الثانية، في فلسطين حتى 1949 على يد بريطانيا، وذلك بنسبة تزيد عن 80 بالمئة في أقل تقدير.
فلولا الانتداب البريطاني على فلسطين، وحكمها بالحديد والنار من خلال السيطرة العسكرية التي وصلت في بعض المراحل إلى مائة ألف جندي، لما استطاعت مجموعة واحدة من المهاجرين اليهود أن تقيم “مستعمرة” (مستوطنة) قتالية واحدة. فالجيش البريطاني في فلسطين هو الذي ضمن المهاجرين وأمّن تسليحهم، وصولاً إلى مدهم بالسلاح الذي تفوق في حرب 1948 على ما قامت من مقاومة فلسطينية (مجردة من السلاح عملياً)، وعلى ما دخل من جيوش عربية لم يزد عديدها على 23 ألفاً مقابل 66 ألفاً في جيش الهاغناه، وهنالك أرقام تقول 33 ألفاً مقابل 99 ألفاً من جيش الهاغناه إلى جانب تسليم الجيش البريطاني أسلحته عام 1948 إلى جيش الهاغناه عندما قرر المغادرة، بما في ذلك السلاح الثقيل والمصفحات والطائرات.
وبريطانيا في المقابل جردت الشعب الفلسطيني من السلاح، وسيطرت على تسليح جيوش دول الطوق وسياسات دولها في مصر والعراق والأردن إلى جانب فرنسا التي قامت بالمهمة نفسها في لبنان وسورية. الأمر الذي جعل هزيمة الجيوش العربية السبعة التي قادها “غلوب باشا” البريطاني قائد الجيش الأردني في حينه، محتومة مؤكدة. فضلاً عمن انضم من دول كبرى أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفياتي لتأييد إقامة الكيان الصهيوني وإمداده بالدعم السياسي والسلاح والمتطوعين.
مجموعة هذه الحقائق والوقائع التي قررت ما حدث في فلسطين من 1918 إلى 1948 يجب أن تبدد الكثير من الأوهام التي أحيطت بدور الحركة الصهيونية العالمية ومخططاتها ومؤامراتها، وما أسند ذلك من تفاصيل فردية وجزئية (مشوقة) ما كانت لتؤثر في نتائج الصراع الذي أدى إلى إقامة “دولة إسرائيل” في العام 1948، مع ما احتلته من أرض فلسطين، وأنزلته من نكبة في الشعب والأرض والقضية. فالصراع حسمته موازين قوى، كانت لبريطانيا فيها الكلمة الأولى، بما في ذلك تشكيل الحركة الصهيونية المعاصرة نفسها، بما فيه احتضانها ورعايتها واشتداد ساعدها. كما التحضير لمؤتمر بازل 1897 ومتابعة قراراته. فكانت هناك سلسلة طويلة من رؤساء الوزراء البريطانيين الذين أسهموا في إنضاج مشروع “الكيان الصهيوني الحاجز”، ابتداء من هنري بالمرستون 1855- 1865 (وهو صاحب المشروع مذ كان وزيراً للخارجية 1840)، ومروراً بـ بينجامين دزرائيلي 1868- 1880، ووليم غلادستون 1880-1886، وروبرت سيل 1886-1892 ثم هو نفسه 1895-1902، ومروراً بهنري كامبل ليبرمان 1905- 1908 (صاحب المؤتمر المشهور باسمه مؤتمر كامبل 1905-1907)، وأخيراً وليس آخراً ديفيد لويد جورج 1906-1922 (وهو الأوْلى أن يصدر وعد بلفور باسمه)، فهؤلاء هم بناة المشروع ورعاته حتى “وعد بلفور” واحتلال بريطانيا لفلسطين 1917/1918. ويمكن اعتبارها المرحلة الأولى. أما المرحلة الثانية: 1918- 1948 فكانت بريطانيا هي من يشرف على الهجرة اليهودية وزرع المستوطنات وحمايتها وتسليحها وصولاً إلى تقديم فلسطين، مفروشة مزروعة عامرة، للمشروع الصهيوني، على طبق من فضة، إقامة دولة الكيان الصهيوني ونكبة فلسطين، والرحيل منها عام 1948.
إن دور قيادات الكيان الصهيوني وقيادات الحركة الصهيونية العالمية أخذ يتعاظم ويلعب أدواراً كبيرة التأثير بعد 1948: الانتقال من الدور الوظيفي والتابع إلى الشريك وصاحب المشروع القائم بذاته وصاحب النفوذ الواسع في الحكومات والبرلمانات الغربية ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي المرحلة التي أخذ يأفل فيها نجم الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية لتحل مكانها أمريكا الإمبريالية في زعامة العالم الغربي والسيادة العالمية. ويتوجب في هذه المرحلة أن يُقرأ المشروع الصهيوني قراءة ثانية على ضوء ما حدث من متغيرات وتقلبات في موازين القوى والأدوار خلال الحرب الباردة 1949-1991. ثم لا بد من قراءة ما بين 1991-2010، ورابعة خلال العشرية الثانية للقرن الواحد والعشرين.
وهكذا يُلحظ أن “وعد بلفور” 1917 ليس إلاّ محطة في طريق الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية التي تبنت مشروع “الكيان الحاجز” اليهودي في فلسطين. أما الذي يميزه عن المحطات السابقة فهو التغيير الجوهري الذي حدث مع نهاية الحرب العالمية الأولى بسقوط الدولة العثمانية وبدء مرحلة السيطرة الاستعمارية العسكرية والسياسية البريطانية على فلسطين وأغلب البلاد العربية. ومن ثم تنفيذ تلك الاستراتيجية. فلا الوعد هو الذي أوجد تلك الاستراتيجية، ولا الوعد جاء نتيجة الجهود الصهيونية بالرغم من سعيها له. ولكنه شكل شهادة صارخة معلنة على جريمة نكبة فلسطين من قبل مرتكبها، وعنوانها التعهد بإقامة دولة الكيان الصهيوني، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم وقراهم ومدنهم. وذلك بلا أي حق أو قانون عادل عدا قانون القوة العسكرية التي تقتلع شعباً من وطنه لتحل كياناً إحلالياً مغتصباً مكانه.